
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
أمخيَّرٌ الإنسان أم مسيَّرٌ
هذا هو السؤال الذي اختلف في الإجابة عليه الجميع من قسوسٍ وشيوخِ وشبابٍ، وقد أجاب عليه جناب القس غبريال رزق الله في اجتماع جمعية المساعي بالأزبكية.
للإجابة على هذا السؤال أضع أمامكم أمرين كتابيين نهتدي بهما لمعرفة: هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر:
الأمر الأول: تمييز الإنسان عن سائر الحيوان في أصل خلقته.
الأمر الثاني: مسئولية الإنسان أمام الخالق الديان.
وهذان الأمران واضحان في الكتاب المقدس، وحتى نفهم ما تميز به الإنسان عن سائر الحيوان، أريد أن أوضح لماذا أقول سائر الحيوان؟ لأن الإنسان نفسه حيوان، وكلمة حيوان تَمُت بصلةٍ إلى الحياة، والحيوان في اللغة ضد الموتان، فكل نفسٍ حيةٍ هي حيوانٌ، حياةٌ لا موتانٌ، فالطير في السماء حيوانٌ، والتنانين العظام في البحار حيواناتٌ، البهائم والدبابات على وجه الأرض حيواناتٌ، والإنسان أيضاً حيوانٌ، ولكن في أصل الخليقة في القصد الإلهي تميَّز الإنسان عن سائر الحيوان كما أنه تميَّز عن سائر المخلوقات.
أريد أن نوجه أنظارنا إلى كلمة يوحنا في إنجيله: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيءٍ به كان وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان، فيه (أي في الكلمة) كانت الحياة والحياة كانت نور الناس” (يو 1 : 1و2).
لنسمع الكلمة: “ليَطِر طيرٌ فوق الأرض على وجه جلد السماء”، فطار الطير فيه حياة، “لتفض المياه زحافاتٍ ذات نفسٍ حية”، ففاضت بأنفسٍ حيةٍ، “لتُخرِج الأرض ذوات أنفسٍ حيةٍ كجنسها”، فأخرجت بهائم ودبابات ٍ ووحوشٍ، حيواناتٌ فيها حياة، هذه كلها بالأمر.
تمييز الإنسان:
وعندما جاء للإنسان قال: “نفخ في أنفه نسمة حياة”، إذن هذه الحياة التي جاءت في الإنسان نفخةً منه لا مجرد كلمة، “فيه كانت الحياة”، وهذه الحياة التي منه للإنسان هي نورٌ للإنسان، نور العقل والضمير والمعرفة، وتم القول: “فخلق الله الإنسان على صورته” في المعرفة والبر وقداسة الحق، هذا هو النور، “كل شيءٍ به كان وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان، فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس” لا نور المخلوقات، أي ميَّز الإنسان عن سائر المخلوقات بهذا النور، مخلوقاً على صورة خالقه في البر والقداسة.
هذا التمييز يجعل الإنسان في مركز أدبي ككائنٍ أدبيٍّ ليس كسائر المخلوقات ولا الحيوانات، بل على صورة خالقه، له أن يتسلط وله أن يسوس وله أن يدير حركة الكون، وكل ما في الكون يخضع له، هذا هو امتيازه في الخليقة، لذلك يقول المرنم في (مز 8 : 4): “من هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده، تنقصه قليلاً عن الملائكة، وبمجدٍ وبهاءٍ تكلله، تسلطه على أعمال يديك، جعلت كل شيءٍ تحت قدميه”.
أمام هذه العظمة التي أوجد الله الإنسان فيها هل يعامله كالبهيم كحيوانٍ أبكمٍ يُقاد بالزمام، هل هذه المعاملة تتفق مع هذا السمو والامتياز في الخليقة، كائنٌ أدبيٌّ يتميز بالنور والعقل والتفكير والمعرفة، إذن فالقول أن الإنسان مسيَّر لا يتفق مع هذا المقام السامي الذي وضعه الله فيه.
مسئولية الإنسان:
هذا يصل بنا إلى المسئولية الأدبية، وبقدر ما في الوجود من امتيازٍ تكون هناك مسئوليةٌ، هنالك وصيةٌ من النظام الأزلي في الخلقة، أن الله كتب شريعته في قلب الإنسان، وضع ناموسه الأدبي في قلب الإنسان ليتعبد ولتكون له الصلة بينه وبين خالقه.
لو قيل: “السماء تحدث بمجد الله”، ولو قيل: الطيور تغرد مسبحةً الله، ولو قيل: “شجر الحقل تصفق بالأيادي”، فهذه كلها تعبيراتٌ مجازيةٌ، ولكن لو قيل: الإنسان يرنم ويصفق ويعبد ويحدِّث بمجد الله يكون هذا بصورةٍ حقيقيةٍ لأن هذا هو الإنسان، وضع الله شريعته في قلبه، أعطاه الوصية إذ قال له: “من جميع شجر الجنة تأكل وأما شجرة معرفة الخير والشر – التي في وسط الجنة – فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت”.
إذا أكل الإنسان هل يكون مداناً؟ إذا تعدَّى الإنسان هل يكون مداناً؟ هل يقف أمام الديان ليعطي حساباً عما فعل خيراً كان أم شرًّا؟ إن الإنسان تحت المسئولية وسيقف أمام الديان ليعطي حساباً، فهل يتفق مع هذه المسئولية أن يُسيَّر؟ وكيف إذن يدينه الله إلا إذا كان حراً مختاراً يفعل باختياره وبحريته.
لنأت إلى الضمير الذي في الإنسان، يقول الرسول في (رو 2 : 15): “الذين يظهرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم شاهداً أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكيةً أو محتجةً”، وقال يهوذا: “أخطأت إذ سلمت دماً بريئاً”، هذا معناه أن ضميره يحكم عليه أنه مُخيَّر، لا يمكن أن يشهد أنه مُسيَّر، وفي سفر التكوين يقول إخوة يوسف: حقاً إننا كنا مذنبين وكان أخونا يسترحمنا ونحن لا نسمع، وفي (تك 50 : 17): “هكذا تقولون ليوسف اصفح عن ذنب إخوتك وخطيتهم فإنهم صنعوا بك شراً”، ضمائرهم تقول محتجةً، اعترافٌ صريحً، وهل الاعتراف الصريح يتفق مع شخصٍ مُسيَّر؟ ويقول: في يوم الدين “يستد كل فمٍ” لماذا؟ لأنه لا توجد حجةٌ، لا عذرٌ، الإنسان مسئولٌ.
يهوذا ابن الهلاك:
ثم دعونا نتأمل في يهوذا، كيف تصرف المسيح معه؟ ألم يختره من الإثنى عشر؟ هل هذه تغطية أم اختاره حقيقةً؟ هل كان يعلم أنه ابن الهلاك؟ لقد أعطاه المسيح فرصةً وهو ابن الهلاك ليجلس عند قدمي المسيح ثلاث سنوات، جعله أميناً للصندوق، أعطاه فرصةً لينادي للهالكين، وعندما علم أن الشيطان دخل قلبه أخذ رجليه وغسلها، ألا يتأثر بهذا؟! لقد كان قلبه قاسياً، أيضاً أظهر له المحبة إذ أعطاه اللقمة وهي تُعطى لأعز تلميذٍ له، غمس اللقمة وسلمها له لعل هذا كله يؤثر فيه، وآخر كلمة قالها له: “ما أنت تفعله فاعمله بأكثر سرعةً”، أي كل الوسائط التي يمكن أن تستعمل قد استعملت، الآن أنت تسلم لنفسك فافعل ما تريد.
ولماذا سُميَّ ابن الهلاك؟ هذا قضاء الله الأزلي الذي قضى بكل ما يحدث، وهذا لا يمكن أن يغير شيئاً من مسئولية الإنسان واختياره، ويقول في (رو 1 : 28): “أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوضٍ ليفعلوا ما لا يليق” اقرأ (مز 81 : 8 – 12، أم 10 : 20).
إذا كان الإنسان مُسيَّراً فهذا:
1- هدرٌ لقصد الله في الإنسان وإنزالٌ من مقام الإنسان الذي قصده الله في الخلقة.
2- تهمةً الله بأنه ديانٌ ظالمٌ “ألعل الله الذي يجلب الغضب ظالمٌ … حاشا فكيف يدين العالم إذ ذاك” (رو 3 : 5).
الإنسان بين الخير والشر:
إن الإنسان مقيدٌ بقيودٍ الشر وميتٌ بالذنوب والخطايا، فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يفعل الخير؟ وهل يجبره الله على فعله؟ يقول بولس: “يا أحبائي كما أطعتم في حضوري بالأولى جداً في غيابي تمموا خلاصكم بخوفٍ ورعدة لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة”.
هذا اعترافٌ من الله أن الإنسان يخلص بإرادته وحريته، إن الله يحترم إرادة الإنسان، وإذا كان الإنسان لا يستطيع هو نفسه فإن الله يعمل فيه ليريد، هذا يصل بنا إلى الجواب الحاسم وهو: الإنسان مُخيَّر لا مسيَّر.
شمس البر 1956