
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
إبراهيم أمام الرب
(تك 18 : 22) ، (يع 2 : 21 – 23)
“وأما إبراهيم فكان لم يزل قائماً أمام الرب”، “ودُعيَ خليل الله”.
والكلام كله يدور حول إبراهيم، وكان اسمه أصلاً أبرام ومعنى هذا الاسم أب رام: أبٌ رفيع المقام عظيم الجاه في بيته وفي عشيرته وفي أرضه التي ولد قيها.
دُعيَ أبرام أي أبٌ رفيع الجاه، رفيع القدْر، ولكن الله أراد أن يترك هذا الجاه الرفيع وهذا القدر العظيم وهذا المقام السامي بين أهله وفي بيت أبيه وقال له: اذهب من هنا، وكأنه يقول له اخلع هذا الاسم فإنك ستكون غريباً في أرضٍ لا تعرفها ولا تعرفك، إلا أنه في عهدٍ معه، وفي عهدٍ مقدسٍ خلع عليه اسماً جديداً، انتزع الرفعة في كلمة رام واحتفظ بكلمة أب، فهو أبٌ لا اتصالٌ له بالرفعة والمقام بين البشر، وبدل كلمة رام وضع كلمة راهام فأصبح أبراهام الذي هو إبراهيم ومعناه أبٌ لجمهورٍ من الناس، فنزع عنه الرفعة الإنسانية وأصبح يحمل الرفعة الجمهورية، أبٌ لجمهورٍ من الأمم.
وهذا معنى أبراهام أو إبراهيم ونراه أي إبراهيم في الآية الأولى واقفاً أمام الرب، وفي الآية الثانية ندرك أنه خليل الله، وفي هاتين الآيتين معاً نرى إبراهيم الذي “آمن بالرب فحسب الرب له الإيمان برًّا” ودُعيَ خليل الله واقفاً في الطريق بين بلوطات ممرا في حبرون وبين مدن الدائرة التي فيها سدوم وعمورة، في الطريق واقفاً أمام الرب وحدهما وقد كان معهما ملاكان يصحبان الرب إلى تلك البقعة، ولكن الملاكين ذهبا إلى سدوم وبقيَ الرب وإبراهيم واقفاً أمامه فقد كان معهم جميعاً يشيعهم، ولكنه الآن في خلوةٍ في الطريق قصدها الرب وأرسل الملاكين ووقف إبراهيم أمامه معا يتحدثان.
هذه هي الصورة التي نريد أن تُرسم أمامنا، إنسانان أحدهما واقفٌ أمام الآخر، هما نبيان يتجاذبان حديث النبوة، الواحد مع الآخر، هما خليلان يتجاذبان أطراف الحب الواحد مع الآخر، إبراهيم أمام الرب، إنسانان، وما أعظم الفرق بين هذين الإنسانين فالواحد ترابٌ من الأرض من بني آدم، ومعنى آدم ترابٌ أحمر لأنه من التراب أُخذ وإلى التراب يعود إذ أخطأ إلى الرب، هذا هو إبراهيم من بني آدم، ترابٌ من التراب، من التراب أُخذ وإلى التراب يعود، إنسانٌ ترابيٌّ، أمام الثاني، فالفرق عظيمٌ جداً من هذا القبيل، هو الرب من السماء بحسب التعبير الذي عبر به بولس: “الإنسان الأول من الأرض ترابيٌّ، الإنسان الثاني الرب من السماء” ليس ترابياً، آتٍ من السماء، حل بالروح القدس في أحشاء عذراءٍ يوماً من الأيام، وهو الآن قبل أن يحل في أحشاء العذراء وقبل أن يولد متجسداً الآن يظهر إنساناً، وكانت ظهوراته عجيبة قبل التجسد، فقد سُمع في الجنة ماشياً، سُمع وقع أقدامه فيها فاختبأ آدم عندما سمع وراء الأشجار خجلاً وخزياً وعاراً.
والآن يظهر لأبرام واحدٌ من ثلاثةٍ دعاهم ليأكلوا طعاماً عنده في مرورهم عليه فأكلوا وشربوا وأعطى الوعد بإسحق ثم خرجوا معا وإبراهيم يشيعهم إلى أرض سدوم ومدن الدائرة، وفي الطريق يقف هذا الإنسان الترابي أمام شبه الإنسان السماوي، الواحد من الأرض ترابيٌّ والآخر الرب من السماء، وما أعجب المنظر!
هل رأيناه يتصارع مع يعقوب ويكسر حُق فخذه ويُعلن ذاته له حتى قال يعقوب: رأيت الله وجهاً لوجهٍ فدعا اسم المكان فينيئيل أي وجه الرب.
هل نراه مع منوح وامرأته وهما يقدمان المحرقة على الصخرة وهو معهما وإذا بلهيب المحرقة يصعد إلى السماء وهذا الإنسان يصعد مع اللهيب حتى قال منوح: نموت لأننا رأينا الرب، فقالت له: كيف هذا؟ لو أراد أن يميتنا لما أرانا هذه العجائب.
وإذا مددنا الطرف إلى أتون نبوخذ نصر المُحمَّى سبعة أضعافٍ حيث أُلقيَ في الأتون ثلاثة متعبدين للرب كسروا أمر الملك ليُحرَقوا جميعاً، وما كان أعجب أن يرفع نبوخذ نصر نظره إلى الأتون فيرى أربعة رجالٍ لا ثلاثة فقال لمشيريه: ألم نلقِ ثلاثة رجال مقيدين؟ فقالو له: نعم، قال: أنا أرى أربعةً يتمشون كأنهم في جنةٍ والرابع شبيهٌ بابن الآلهة.
هذه هي مظاهر ابن الإنسان قبل أن يتجسد إلى أن “صارت الكلمة جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الاب”، وكما قال بطرس: “كنا معه في الجبل” ورأينا مجده وسمعنا صوتاً من السماء يقول: “هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به له اسمعوا”.
هذان هما الإنسانان الواحد من الأرض ترابي والثاني الرب من السماء، ألا نخاف؟ ألا نخشى؟ كيف يقف هذا أمام ذاك، إنه تنازلٌ عجيبٌ أن يتنازل الله من السماء إلى الأرض، إلى الإنسان، ليرتفع به إلى السماء.
ولكنهما نبيان، وقد قال المسيح عن نفسه: “ليس نبيٌّ بلا كرامة إلا في وطنه (وبين آبائه) وفي بيته”، ثلاثة أوساط: الوطن، الآباء، البيت، هذا هو إبراهيم تنطبق عليه هذه النظرية الخاصة، فقد قال له الرب: “اذهب (أخرج) من أرضك (وطنك) ومن عشيرتك ومن بيت أبيك”، إنه نبيٌّ ليس له مقامٌ في أرضه بين عشيرته وفي بيت أبيه، فليخرج، هكذا خرج السيد المسيح كنبيٍّ لأنه كان يعلم ذلك كما قال: “ليس نبيٌّ بلا كرامةٍ إلا في وطنه (وبين أقربائه) وفي بيته (بيت أبيه)”.
وقد شهد رب المجد عن إبراهيم، أبيمالك كيف فعلت؟ كيف تأخذ سارة امرأة إبراهيم؟ موتاً تموت، ولأنه فعل بنيةٍ صالحةٍ حذره الرب وقال له: “رد امرأة الرجل (رد المرأة إلى الرجل) لأنه نبيٌّ فيصلي من أجلك فتحيا”.
وماذا قال هذا النبي عن هذا النبي، ماذا قال الرب عن إبراهيم من هذا القبيل؟: “هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله” كيف أخفي عنه “وسر الرب لخائفيه وعهده لهم لتعليمهم”، ولا يعمل الرب رأياً إلا وأعلنه لأنبيائه، فقد قلَّده الرب لهذه الوظيفة بهذا الإعلان ليخبره بالأمر الخطير، وها هما وحدهما في الطريق يتحدثان كنبيين الواحد ينبيء والآخر يستمع وهذا هو مركز الأنبياء.
فالنبي الحقيقي واحدٌ، النبي الآتي إلى العالم ولا سواه هو الذي يُلقي بكلمته النبوية على الأنبياء وبدون ذلك لا يستطيع إنسانٌ أن يكون نبياً أو أن يتنبأ، ألم يقل دانيال لنبوخذ نصر: أخبرني بالحلم وأنا أفسره لك، يقول له نبوخذ نصر: كلا إن لم تنبئني بالحلم فإني أقتلك، فقال: إن الرب أخفى عني هذا الحلم دعني آخذ وقتاً، وإذ اتصل بالنبي الأعظم أعلن له هذا الحلم.
وألم يقل أليشع للمرأة الشونمية عندما جاءت وركعت عند قدميه وأراد جيحزي أن يردها فقال له أليشع: لا تردها إن في نفسها شيئاً “والرب كتم عني هذا الأمر”.
هذا هو إبراهيم واقفٌ أمام النبي الوحيد الكاشف لجميع الأسرار الذي يعلن لأنبيائه الأسرار، ويكشف له ما يريد كشفه، وها هما نبيان أحدهما كاشفٌ للأسرار والآخر يستمع كنبيٍّ كشْف هذه الأسرار، وهكذا يقول: “هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله”، وإبراهيم يكون أمةً عظيمةً وتتبارك فيه جميع أمم الأرض، فيأتي الرب بكل ما وعد به لإبراهيم، وها هو الآن يكشف له هذا السر الذي لأجله جاء من السماء ماراً على خيمته، وتغدى عنده، وسار إبراهيم يشيعه، وها هو واقفٌ أمامه يتلقى السر، نبيٌّ يكشف له السر، وما هو هذا السر؟ اسمع يا إبراهيم واعلم أن صراخ سدوم وخطيتها قد عظُم إلى السماء وارتفع ووصل صراخها إليَّ، خطيتهم الصارخة، كما قال لقايين: “صوت دم أخيك صارخٌ إليَّ من الأرض”، خطية سدوم وعمورة صرخت إلى السماء وسمع ابن الإنسان وجاء ابن الإنسان مع ملاكان إلى الأرض لبحث الأمر، لذلك يقول: صوت صراخ سدوم صعد إليَّ وأنا نزلت من السماء لأرى، لبحث الأمر، هل فعلوا حقاً؟ وهل صراخهم إلى السماء يدل على حقيقة أنهم فعلوا حقاً؟ وإلا فأعلم، تحرِّى، هذا هو السر الذي أعلنه الله إلى إبراهيم بوصف أنه نبياً، هذه الأسرار تُكشف من كاشف الأسرار إلى النبيين.
هذا يأتي بنا أخيراً إلى الخليلين إنسانان نبيان هما خليلان، ويقول لنا الرسول بولس: “أنه آمن بالله فحسبه له الرب براً” وذلك عندما أعلن له أن نسله سيكون كنجوم السماء “فآمن بالرب فحسبه له براً”، ثم يقول أنه دُعيَ خليل لمناسبة أنه لم يمنع وحيده إسحق، تلك العملية التي هي عجيبةٌ من العجائب، أخذ الولد إلى مكانٍ معينٍ، قيد الولد ووضعه على الحطب المرتب ومد يده ليذبح فمنعه الرب، لذلك دُعيَ إبراهيم خليل الله، إنه لم يمنع ابنه الوحيد عن أعز خليلٍ له فلم يكن ابنه خليلاً له كما كان رب المجد، هو خليل الله، وهما خليلان معا، وقد دُعيَ خليل الله من كتبه، ما بعد سفر النشيد التي قالت فيه العروس: “هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم”، “أنا لحبيبي وحبيبي لي”، فكتب إشعياء عن هذا اللقب، وكتب كاتب أخبار الأيام هذا اللقب في آخر الأيام، وهنا يعقوب يدعوه خليل الله بناءً على ما كُتب قديما.
هذان الخليلان يتبادلان أطراف الحديث عن قضيةٍ لأن صراخ خطية سدوم صعدت إليَّ وأنا نزلت لأعلم، وعندما علم إبراهيم بالأمر انشغل قلبه واشتعلت نارٌ في أحشائه، هل لأجل لوط ابن أخيه الذي تركه وابتعد عنه أم لأجل كل الأمم؟ إنه خليل الله يحب كل الناس يتمنى ألا تاتي تلك اللطمة على كل الأمة وكل مدن الدائرة، أيها المولى، يكلم المولى، “أديّان كل الأرض لا يصنع عدلاً”، إن كان في المدينة خمسون باراً ألا تصفح؟، إن كانوا عشرون أصفح، تجاوبٌ عجيبٌ بين ديّان كل الأرض وبين هذا الشفيع، الخليل يصفح، ومن هو الذي يستطيع أن يشفع وصرخات خطايانا وصرخاتنا عاليةٌ جداً إلى السماء مزعجةٌ للعرش، وهنا الشفيع الأوحد خليل الله الذي يستطيع أن يقول: ألا تصفح، يقول: أصفح “إن أخطأ أحدٌ (إن أخطأنا) لنا شفيعٌ عند الآب يسوع المسيح البار”، لا لخطايانا فقط بل لجميع خطايا العالم، يصلي لأجل أعدائه كما صلى إبراهيم لأجل سدوم وعمورة، يطلب الصفح عن الأثيم القاتل حتى يقول له: “اليوم تكون معي في الفردوس”.
خليلٌ وحيدٌ شفيعٌ يطلب لأجل أخلائه وأصدقائه وأحبائه الذين يتقدمون به إلى الله. هذه هي الصورة الموضوعة أمامنا ولو تمت شفاعة إبراهيم لصفح الرب عن كل مدن الدائرة، ولكن لا بد أن يتم القضاء فلم يوجد عشرة أشخاص، ولعله لم يوجد فردٌ واحدٌ، وكما كانوا في أيام لوط يأكلون ويشربون، يزوِجون ويزوَجون ملتهين في المهام الأرضية حتى نزلت نارٌ من السماء وأحرقت الجميع، هكذا يكون في أيام ابن الإنسان، فلا يكون شفيعٌ.
“فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعد أن أخذنا معرفة الحق فلا تبقى بعد ذبيحةٌ عن الخطايا بل قبول دينونةٍ مخيفٌ وغيرة نارٍ عتيدةٍ أن تأكل المضادين، من خالف ناموس موسى فغلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفةٍ”.
ولكن شكراً لله الذي أعد لنا شفيعاً فلنأت إليه في دمه متشفعين به، له المجد.
الإبراهيمية 1 / 8 / 1976