
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
إرسالية الابن
(دا 9 : 24 – 27) ، (غل 4 : 1 – 11) ، (أف 1 : 3 – 14)
“ولكن لما جاء ملءُ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين هم تحت الناموس لننال التبني” (غل 4 : 4).
في هذه الأقوال الإلهية نتبين الإرسالية، إرسالية الابن الوحيد من الله الآب. أرسل الله ابنه، أما الله فهو الذي نجد في الأصحاح الأول من أفسس يدعوه الرسول: “أبو ربنا ومخلصنا يسوع المسيح”، كما يدعوه أيضاً “إله ربنا”، ولا عجب لأن السيد نفسه في رسالته إلى تلاميذه بعد قيامته من الأموات بيد مريم المجدلية قال لها: “اذهبي وقولي لإخوتي أنا أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم”.
وهكذا تنبأت الأنبياء وأعلنه الوحي المقدس، بل نطق روح المسيح نفسه “الذي فيهم (فى الأنبياء) شاهداً للآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” معلناً أنه العبد: “هوذا عبدي”، “هوذا العبد الغصن اسمه”، وهل هو عجيبٌ أن نسمع هذا القول بعد هذا التنازل العجيب الذي تم فعلاً في الابن المبارك؟ “الابن الوحيد الذي هو فى حضن الآب” الكلمة، الذي هو الله، الأقنوم الثاني في اللاهوت، جوهر الآب، إلهٌ من إلهٍ، “لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه”، أخلى نفسه لكن لاهوته – وهذا جوهر– لا يمكن الإخلاء منه “آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب”، “هوذا عبدي يعقل، يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً، كما اندهش منك كثيرون، كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم”، “أبرع جمالاً من بني البشر”.
فالإرسالية الرهيبة، إرسالية الآب لابنه، أرسل الآب ابنه، أرسل الله ابنه، من أين؟ أين كان ومن أين أتى؟ من أي مكانٍ أُرسل؟ يقول رب المجد نفسه، عن نفسه إيضاحاً لهذه الحقيقة: “نزلت من السماء”، نزل من السماء حيث كان أولاً، والذين تعجبوا وعثروا من كلامه عن أكل جسده وشرب دمه – باعتبار كونه الخبز النازل من السماء – قالوا: “كيف يعطينا هذا جسده لنأكله ودمه لنشربه”، أكد لهم هذه الحقيقة قائلاً: “أهذا يعثِركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً، الروح هو الذي يُحيي”، “الابن الوحيد الذي هو فى حضن الآب”.
وفي كلامه مع تلاميذه، في الليلة الأخيرة، في خطابه الوداعي قال: “خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم وأيضاً أترك العالم وأذهب إلى الآب”، هذا هو الجوهر الحقيقى لهذه الإرسالية: “خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم، وأيضاً أترك العالم وأذهب إلى الآب”.
ولا عجب إذاً إذا كان وهو على الأرض يشهد لنفسه ويعلن ذاته بإعلانٍ أعظم قائلاً لأحد معلمي اليهود العظام لنيقوديموس– وكان يندهش من تعليمه: “ليس أحدٌ صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو فى السماء”، أمرٌ عجيبٌ جداً.
على أنه يظهر جلياً أنه أتى من السماء مرسلاً من الآب، وكثيراً ما أراد أن يُعرٍّف الناس هذه الحقيقة، وكثيراً ما أعلن أنه رسولٌ من عند الآب وكثيراً ما اهتم بهذا الأمر. هل نراهُ عند قبر لعازر في وسط الجمع الكثير يرفع نظره إلى السماء؟ لماذا يقول للآب: “أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي” عن موضوع إقامة لعازر، أتى الابن إلى القبر بعد ما أخذ أمراً سماوياً أبوياً محققاً إقامة لعازر – بحسب كونه أخٌ واحدٌ للأختين – “هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله به”، وكما أثبت هذا الأمر وهو يتكلم مع مرثا بالقول: “سيقوم أخوكِ” بكل ثقة، لأنه جاء من عند الآب بالأمر والوصية لإقامة لعازر، لذلك قال: “سيقوم أخوكِ”، قالت له: “أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير”، قال لها: “أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد، أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم ياسيد قد آمنتُ أنك أنت المسيح ابن الله الآتي الى العالم”، وبالرغم من هذا التصريح قالت له مرثا عند القبر: “ياسيد قد أنتن لأن له أربعة أيام”، قال لها يسوع: “ألم أقل لك إن آمنتِ ترين مجد الله”.
فعند القبر وهو يعلم علم اليقين بأن الآب قد سمع له، وهو آتٍ من الآب ليرفع لعازر وقف يصلي للآب، لماذا؟ قال: “أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي”. لماذا ترفع وجهك يا ابن الله؟ “قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني، لكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني”، ليعرف الجميع العلاقة بيني وبينك أيها الآب كعلاقة مُرسِلٍ لمُرسَلٍ.
هل ندرك هذه الحقيقة! الابن الوحيد مُرسلاً من قِبل الآب، مُرسلاً من الآب، وكيف ذلك؟ إذاً ما معنى القول: “مولوداً من امرأةٍ”؟ وهنا السر العجيب، أنه منذ الأزل وقبل كل الأزمنة والدهور سُرَّ أن يحُل كل الملء، ملء اللاهوت، إالهٌ من إلهٍ، مولودٌ من الآب غير مخلوق، أي أن الآب سُرَّ أن يحُل كل الملء في ابنه، جوهرٌ من جوهرٍ، أزلٌ من أزلٍ، أبدٌ من أبدٍ. إنه سرٌّ عجيب.
ولكن في الإرسالية يتغير هذا التطبيق، ذات الرسول بولس يقول في موضوع الإرسالية: إنه “فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً”.. هذا تعبيرٌ آخر في لاهوته سُرَّ الآب أن يحل في هذا الابن المبارك كل اللاهوت: “الآب الحال فيَّ”، “أنا في الآب والآب فيَّ”، ولكنه في الإرسالية يتغير التعبير تغيراً كاملاً “إنه فيه يحلُّ كلُّ ملء اللاهوت جسدياً”، أي أن كل ملء اللاهوت حلَّ في الناسوت، وهذا معناه أنه أتى من السماء لا عن طريق الولادة من امرأة، وهذا سرٌّ عجيبٌ وعظيمٌ، فقد هيأ الآب لابنه جسداً في قصده الأزليّ قبل كل الدهور. وقد قام الروح القدس، الأقنوم الثالث في اللاهوت، بتكوين هذا الجسد دماً ولحماً في أحشاء العذراء المخطوبة لرجلٍ اسمه يوسف من بيت داود، وأن يولد منها كسائر البشر بجسدٍ مهيأٍ من الآب ومكوناً بالروح القدس، والابن نفسه سُرَّ بهذا الجسد واتخذ هذا الناسوت ناسوتاً للاهوته يحل فيه هذا اللاهوت – يحل في هذا الناسوت – كل ملء اللاهوت جسدياً، إلهاً تاماً وإنساناً تاماً.
“فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويُعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا كل حياتهم تحت العبودية”، لذلك يقول الرسول: “أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة ” لحماً ودماً ناسوتاً هيأه الآب أزلاً، كوَّنه الروح القدس في أحشاء مريم واتخذه الأقنوم الثانى – الابن – ناسوتاً للاهوته ليتمم فيه مشيئة الآب الذي أرسله، لذلك يقول: “بدرج الكتاب مكتوبٌ عني أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت وشريعتك في وسط أحشائى”، “أخلى نفسه آخذاً صورة عبد”، “مولوداً من امرأة”.
ومن أغرب ما يكون “مولوداً تحت الناموس”، وضع نفسه تحت الناموس، “ليفتدي الذين هم تحت الناموس”، والذين تحت الناموس هم تحت لعنةٍ لأنه مكتوب: “ملعونٌ كل من لا يثبت في كل ما هو مكتوبٌ في كتاب الناموس ليعمل به”، حتى قال يعقوب: من أراد أن يحفظ كل الناموس “من حفظ الناموس ولكن عثُر في واحدة فقد صار مجرماً في الكل”، فكل الذين هم تحت الناموس هم مجرمون، لأن كل الذين تحت الناموس لا يستطيعون أن يحفظوا الناموس ولو ادعوا كذباً.
على أن هناك ناموساُ آخر موجوداً قبل هذا الناموس، من آدم إلى موسى لم يعطِ الله وصيةً، ناموساً مكتوباً مُعلناً، ولكن جميع الذين ولدوا من آدم إلى موسى سرَى عليهم حكم الموت حتى على الأطفال والأجنة، فسرى هذا الناموس – ناموس الموت – على كل بشر من آدم إلى موسى قبل أن يعطي الله هذا الناموس على جبل سيناء بمقتضى القول لآدم: “وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت”، وقع آدم تحت الموت نائباً عن كل الجنس البشري فحُسب آدم نائباً عن كل الجنس البشري أيضاً، لذلك أصبح جميع الذين ولدوا من آدم تحت حكم الموت ولعنة الخطية، وهي لعنة الناموس، لأنه مكتوب كل من هو تحت الناموس هو تحت لعنة “ملعونٌ”، فقد صار المسيح بهذا المعنى لعنةً ليفتدي أولئك الذين تحت الناموس ليُعدَّ لهم امتيازٌ بالتبني للرجوع إلى الآب، وهذا هو المعنى في التجسد: أن يردِّ الابن كل شيءٍ إلى الآب كما أعلنه الآب في رأيه، وكما قصد هو قبل كل الدهور أن يكون هذا الابن الوحيد الحبيب متجسداً في دمٍ ولحمٍ ليصير لعنةً ليفتدي الذين تحت الناموس من اللعنة تمهيداً لنوال التبني، وهي مسرة الآب أن يكون له أبناءٌ، فرح قلب الآب أن يكون لنفسه أبناءٌ سبق فعينهم بالتبني لذاته ليكون أباً لأبناءٍ كثيرين.
وهل نسمع القول العجيب: “لأنه لاق بذاك (الآب) الذى به الكل ومن أجله الكل وهو آتٍ (أي الآب) بأبناءٍ كثيرين الى المجد أن يُكمِّل (الآب) رئيس خلاصهم (الابن) بالآلام”، فالآب قد عيَّن وقصد في قلبه أن يكون له أبناءٌ كثيرون، قصد أن يأتي بهم إلى المجد. أن يتمجد هو بالابن إذ يأتي بهؤلاء له، فكان لابد أن يأتي رئيس الخلاص، لذا قصد أن يُرسل الابن، رئيس خلاصٍ وأن يكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام، لذا أحب الآب هؤلاء وعينهم ليكونوا أبناءً له، ورثةً له ووارثون مع ابنه، فإن كنا أبناء فمن سرور الآب أن يكون هؤلاء الأبناء إخوة الابن البكر، لأن “الذين سبق فعرفهم (معرفة المحبة والاختيار) سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوةٍ كثيرين”، لذلك كان أبناء المجد هم الكنيسة، كنيسة الأبكار، وكل أبناء المجد هم أبناءٌ في البكر إخوةً له، عروسٌ مباركة لهذا الابن الوحيد ليتم فرح السماء.
هذا يستلزم أن الآب يضمن في يده ويضع في قصده بكل حكمةٍ وفطنةٍ تدبير ملء الأزمنة، “ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس”، وبما أنكم أبناء “أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً فيكم يا أبا الآب”، وهنا الروح القدس مشاركاً للآب والابن في هذا العمل، “صارخاً يا أبا الآب”، وهي صرخة ترجع بنا إلى بستان جثسيماني والابن يصرخ: “يا أبا الآب”، كما يصرخ: “يا أبتاه لتكن لا إرادتي بل إرادتك” مجاهداً فى الصلاة بدموعٍ وطلباتٍ وصراخٍ للقادر أن يخلصه من ألم الموت، وكان عرقه كقطرات الدم “فسمع له من أجل تقواه وجاء ملاكٌ من السماء يعضده”.
“الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها”، رُدَّ سيفك يابطرس إنها وصية أبي، كما قال أيضاً للتلاميذ عند انصرافه لملاقاة أولئك الأشرار الآتين ليقبضوا عليه، قال لهم: “قوموا ننطلق من ههنا، هوذا رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيءٌ ولكن ليفهم العالم أني أحب الآب وكل ما أوصاني به أفعل”، فأني آتٍ لمشيئة الآب، لمجد الآب، لرد كل شيءٍ إلى الآب .
والآن هوذا عن يمين العظمة في الأعالي لذلك “ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة ردٍّ كل شيءٍ لله الآب” لأنه قال له منذ البدء “أنت ابني أنا اليوم ولدتك اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك”.
المسيح اذاً باكورة والذين له – أبناء المجد – هم أبكارٌ، فمتى جاء في ملكه أبطل كل رياسةٍ وسلطانٍ وكل قوةٍ “لأنه يجب أن يملك حتى يضع الأعداء تحت قدميهِ، آخر عدوٍّ يبطل هو الموت لأنه أخضع كل شيءٍ تحت قدميهِ، ولكن حين يقول كل شيءٍ قد أُخضع فواضحٌ أنه غير الذي أَخضع له الكل ومتى أُخضع له الكل، فحينئذٍ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل لكي يكون الله الكل في الكل”.
وهو الآن فى أزمنة ردِّ كل شيئ حتى يسلم كل المُلك لله الآب، وتعبير الرسول بالقول: “لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيءٍ في السموات وما على الأرض وما تحت الأرض” ليعود السلام بين الأرض والسماء، يقوله بحسب الفكر الذي قاله السيد فى مثل الزوان: “يرسل ابن الإنسان ملائكته ليجمع من حقله كل المعاثر وكل الأشرار، حينئذٍ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم”، “والبر من السماء يطَّلع والحقُّ من الأرض ينبت، الرحمةُ والحقِّ التقيا البر والسلام تلاثما في المسيح”، الابن .
مصر الجديدة م الجمعة 4 / 1 / 1974