فهرس الموضوع

الكاتب
القس جوزيف لويس
راعى الكنيسة الإنجيلية بجرف سرحان
سنودس النيل الإنجيلي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
الإعاقة من منظور لاهوتي وروحي
أولاً: أزمة المُعاق روحياً
1. الشعور بنقص الحب والظلم والترك
ينشأ المُعاق في جو أسرى ومجتمع؛ يُشعره دائماً بأنه عبء عليه. قد يحظى المُعاق بالاهتمام الكافي، والحب والرعاية في جو أسرى ناضج يشجعه ويساعده على الاستمتاع بحياته واندماجه في المجتمع، وعلى علاقة قوية بالله. لكن في الواقع، أن هذا لا يحدث بهذه الكيفية والصورة المثالية في مجتمعاتنا كثيراً. أغلب المُعاقين يعيشون ولديهم إحساس دفين بالترك والكراهية من أسرهم التي تعاملهم كعالة عليهم وأنهم ابتلاء من الله. والمجتمع والدولة التي لا تُقدم لهم حقوق حقيقية على أرض الواقع، وحقوق كثيرة لهم مهدورة.
إحساس قاسي جداً على المُعاق أن يشعر بالترك ونقص المحبة والظلم من الأسرة والمجتمع الذي يعيش فيه. لكن الأصعب أن يعيش طوال حياته لديه شعور بالمرارة تجاه الله. حيث يكون التساؤل دائماً: بما إنه هو الله، فلماذا فعل بي كل هذا؟ وها هو قد تركني للمعاناة وحيداً في مجتمعٍ قاسٍ. ليس هذا فقط، بل إن الله ظالم لأنه جعلني أن أتى إلى الدنيا بهذه الإعاقة. وكم من المرات دعوت الله وصليت أن يشفيني من إعاقتي ولكنه ليس هنا لأنه لا يستجيب لي! الله لا يحبني ولا يهتم بي من الأساس. والمُجتمع نفسه وما فيه من ثقافة دينية سائدة، للأسف يُرسخ في أعماق المُعاق هذا التفكير. فحين يصف ويتكلم المُعاق عن نفسه يقول، على سبيل المثال: أن الله قد ابتلاني بالعمى أو بالعجز.
وبهذا الطريقة ينشأ المُعاق ولدية أزمة روحية في علاقته مع الله. فكل العلاقة تتلخص في عتاب ولوم ومشاعر غضب. من أصعب الفئات التي يمكن أن تتلامس مع حب الله لهم هم المُعاقين، شعورهم بالإساءة من الأسرة والمجتمع، والصورة المُشوهة التي لديهم عن الله، جعلتهم لا يبصروا ولا يستطيعوا أن يتلامسون مع حب وخلاص الله لهم.
2. الشعور بالذنب
عندما يُفكر المُعاق في سبب إعاقته، ويبدأ أن يسأل نفسه “لماذا أنا؟” أو “ماذا فعلت لأكون هكذا؟” [هذا السؤال لا يسأله المُعاق لنفسه مرة واحدة، أو مُجرد أنه خطر على باله. لكنها دائرة تساؤل مُستمر بشكل مُلازم للحياة.] فإنه يتجه فوراً إلى لوم نفسه، بأنه هو المسئول عن كل ما حدث. وأنه الله يُعاقبه على ما يفعله من أخطاء. وأنه أصبح هكذا؛ لأن الله يراهُ لا يستحق أن يكون إلا هكذا. هذا يُولد لدي المُعاق عبء شعور بالذنب ثقيل يحمله على كاهله دائماً عندما يُفكر بعلاقة الله به. وأن هناك شيئاً ما فعله الله يُعاقبه بسببه.
لذلك يجب أن نأخذ بالاعتبار في رسالتنا الكرازية الموجهة لهم هذه الأعباء، وكل هذه المشاعر السلبية التي يحملونها ضغينة ضد الله. والتي تكون حاجزاً نفسياً وروحياً منيعاً لعدم وصول محبة الله لهم. ونراعى بحرص اثناء توصيل الرسالة هذه الخلفية الروحية التي ينشأ فيها المُعاق، وكل هذه التساؤلات. وأن تُخاطب رسالة الإنجيل كل هذه المشاعر، لكن بطريقة لا تجرحهم.
ثانياً: لماذا يسمح الله بالإعاقة (الألم)؟
لماذا يسمح الله بالإعاقة؟ هو نفس سؤال لماذا يسمح الله بالألم؟ إذا قمنا بإعادة صياغته. القضية واحدة هنا، وهي مشكلة الألم التي هي مشكلة جميع البشر، وليسوا ذوي الإعاقة فقط. يسأل المُعاق هذا السؤال دائماً، وأول ما يقوم به هو توجيه أنظاره إلى الله. بمثابته هو المتحكم في كل الأمور، وكيف تكون هذه هي إرادة الله لي؟ وعندما لا يتلقى أية إجابه لآلامه يشعر بفقدان الأمل والخيبة في الله الذي يظن بأنه لا يكترث له، ولا يحبه. والذي يولد بداخله الشعور بالقهر والمرارة.
لسنا هنا بصدد مناقشة مشكلة الألم وعدالة الله. لكن على الأقل أن نعى بحجم المُشكلة التي يجتاز بها المُعاق أثناء كرازتنا له. وأن يكون هناك استعداد من جانبنا لطرح ومناقشة هذه النوع من القضايا التي تشغل تفكير مُعاقين كثيرين. يجب أن نكون على استعداد بتوضيح مفاهيم كثيرة عن: إرادة الله، حرية الإنسان، الألم نتيجة الخطية، التأكيد على صلاح الله… إلخ. لكن أرى أنه من الأجزاء الهامة التي يجب التأكيد عليها في هذه القضية أيضاً هي فكرة، أنه لا نستطيع أن نجد دائماً إجابة شافية لسبب الألم الذي نجتاز فيه. ولا يزال هناك بعض الأمور التي تحدث في العالم غامضة بعض الشيء. ولا يعدنا الله بتقديم إجابات واضحة مثلما تلك التي كان ينتظرها أيوب من الله، لكنه يعدنا بأنه سيكون بجانبنا دائماً.
الألم سيظل وسيبقى من الأمور الغامضة في حياتنا. قد نجد معني له هنا على الأرض، أو قد نحتاج حياتنا بأكملها نبحث عن المعني. الأهم هو أن الله في داخلنا وليس في التجارب التي تؤلمنا، ويساعدنا لتحويل السيء إلى صالح، ويُعطى جمال عوضاً عن الرماد. يحتاج الإنسان في وقت ألمه، ليس الإجابة على تساؤلاته. بل من يستطيع أن يشعر به، ويشجعه. فأصعب ما في الألم إحساس أنه لا يوجد من يشعر بك خصوصاً الله نفسه. نحن فقط بحاجة لتأكيد محبة الله وصلاحه للشخص المُعاق اثناء الاستماع إلى أناته وهمومه وتساؤلاته.
ثالثاً: هل الإعاقة نتيجة الخطية؟
يتبادر في أذهان البعض أحياناً، أن المرض أو أية كارثة تحدث هو بسبب نتيجة خطية تم ارتكابها. أو قد يكون ارتكبها الوالدين أو الأم مثلاً اثناء حملها، ونحن نجني ثمار ما زرعوه من خطايا وأخطاء. قد يكون طريقة التفكير هذه تقليديه وقديمة جداً، ولم يعد الناس يفكرون بهذه الطريقة الساذجة. لكن في الواقع لا يزال الكثيرون يعتقدوا فعلاً أن المرض أو الإعاقة، هو عقاب أو لعنة من الله بسبب خطية ما أو خطية موروثة من العائلة. بصدد هذه القضية، لدينا نفس التوجه الذي كان عند التلاميذ وفى الثقافة اليهودية السائدة في ذلك الوقت، عندما سألوا المسيح عن المولود كفيف في يوحنا 9:
1. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ2. فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَنْ أَخْطَأَ: هَذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟»3. أَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ هَذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ. يو9: 1-3
بدون أدنى مكان للشك، المسيح هنا يقوم برد جازم وقاطع على تلاميذه أنه ليس هناك أية علاقة بين الخطية والإعاقة. سواء كانت هذه خطية شخصية أو خطية موروثة فعلتها الأسرة.
ويوضح المسيح أن هذا لتظهر أعمال الله ويتمجد فيه. ويعتبر هذه الإجابة من المداخل الرائعة التي يمكن استخدامها لتوصيل محبة الله للمُعاق. وكيف يُمكن أن يتمجد الله بقوة في حياته، من خلال ما يمكن أن يصنعه الله من تغيير وبصمة رائعة في حياته.
رابعاً: المُعاقين عقلياً، هل من رجاء؟
أنواع الإعاقات العقلية كثيرة [التوحد Autism، متلازمة داون Down Syndrome، التخلف العقلي. إلخ] وتختلف كل إعاقة في أعراضها وشدتها. فالإعاقات العقلية منها الذي تستطيع أن تتواصل معه بسهولة، على حسب إدراكه وتواصله الاجتماعي. ومنها الذي هو فاقد التواصل لكل الذين من حوله. ماذا عن هؤلاء؟ وكيف تصل لهم رسالة الإنجيل؟ هل لهم رجاء؟ هل لهم خلاص؟ الإجابة، نعم حتى هؤلاء لديهم خطة لدى الله، وطريقة للوصول إليهم.
هم يشبهون الأطفال في بساطتهم، الذي دعاهم المسيح قبلاً وقال لهم أن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات. قد لا يصلهم محبة ونعمة الله بالطريقة التي ندركها نحن، لكن يكفي أن يشعروا بمحبة الله لهم بأبسط صورها وليست بالصورة الكاملة أو المُعقدة. إذا كنا نحن البالغين لا نستطيع أن ندرك نوعية العلاقة التي نحن فيها مع الله والطريقة التي تواصل معنا بها. فلا نستطيع إطلاقاً أن نحكم على نوعية العلاقة التي سيقيمها الله مع أصحاب الإعاقات العقلية. الله غير محدود، ويستطيع أن يصل إلى كل الناس والبشر مهما كانت حالتهم، ويخاطبهم بطرق لا يُمكن أن نتصورها أو نفهمها.
خامساً: الإساءة الروحية للمُعاقين
الإساءة الروحية للمُعاقين في الكنيسة، هي جرح روحي عميق للمُعاق. وهي من أهم التحذيرات التي يجب على كل كارزاً وخادماً أن يأخذ حذره بألا يقع فيها. أحياناً نسئ إلى المُعاقين بطريقة وعظنا وتعاملنا معهم، بدون قصد أو وعي من جانبنا للتعاليم التي نقدمها. والآراء والاتجاهات التي تُقدم في الكنائس عن الإعاقة، والتي تنزع كل إنسانية في شخصية المُعاق. وللأسف فأحياناً نستخدم الآيات والقصص الكتابية لدعم هذه الأفكار. يجب أن ندرك أن تأثير هذه الإساءة عميق على المُعاق، وتجعله يرى الله بصورة مشوهة ومسيئة له. وتجعله مُعاقاً ليس جسدياً فقط بل روحياً أيضاً، وأنه غير قادر على الاستماع والتواصل مع رسالة الإنجيل. وهذه الإساءة كافية أن تجعل المُعاق لا يخطو باب كنيسة مرة أخرى. سنقوم بعرض أشهر الإساءات التي يتعرض لها المُعاقين من قبل الكنسية أو خدامها، بدون وعى لكنها خطيرة جداً:
1. الإعاقة هي عقاب من الله بسبب الخطية، وإنها تأديب للمؤمن (سبق توضيحها).
2. الشعور بالرفض في الكنيسة. وأن الكنيسة لا تُرحب ولا تشعر بالارتياح بوجود المُعاق بينهم. والفصل بينهم في الاجتماعات، كحال اجتماعات اخوة الرب. هذه الصورة موجودة منذ القدم، عندما كان يُعتبر المُعاقين منبوذين خصوصاُ في المُجتمعات الدينية، باعتبار أن الإعاقة هي لعنة من عند الله.
3. الإعاقة سببها سُكنى الشيطان وتملك الشيطان على الإنسان، ويحتاج إلى من يُخرج هذه الأرواح الشريرة حتى يتخلص من مرضه وإعاقته.
4. من أشهر القصص الكتابية التي تُسئ بشدة للمُعاقين: قصة داود ومفيبوشث (2صمو9) الذى هو ابن يوناثان وكان أعرج الرجلين، وأحسن إليه داود وجعله يأكل على مائدته. وكان رد مفيبوشث الشهير: “سجد وقال: من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلى” (2صمو 9: 8).
بعيداً عن خلفية النص وتفسيره وما يعبر مفيبوشث به من كلمات عن نفسه، لكنها تعبيرات خاطئة لا ينبغي أن يتكلم الإنسان عن نفسه بهذه الطريقة. تخيل صدى التأملات في هذا النص في نفسية مُعاق يستمع إلى عظة عن تعاملات النعمة مع مفيبوشث الذي كان مُعاقاً؛ يرى نفسه أيضاً كلباً!
5. توجيه رسالة في عظة للمُعاق، أنه يجب عليه أن يؤمن حتى يُشفى. وأن إعاقة الشخص تعتمد على قوة إيمانه. وأن سبب عدم شفاءه هو نقص إيمانه بالله. هذه الإساءة تُعتبر من أقوى الجروح التي تترك أثر عميق في المُعاق.
أولاً: لأن الرسالة تعتبر الإعاقة مرض ويحتاج الشفاء والتخلص منه. الذي وجد في هذه الحياة مُعاقاً، سمح الله بخلقه الله هكذا وليس مريضاً يحتاج إلى شفاء. هو إنسان طبيعي لكن بإمكانيات محدودة. تخيل الرسالة التي تصل إلى المُعاق بأنه إنساناً مريضاً يعيش هكذا منذ لحظة ولادته!
ثانياً: ليس هناك أية علاقة بين إيمان الشخص وإعاقته. حيث أن المسيح يستطيع أن يشفى، كما شفى الذي لا يُبصر والذي لا يسمع. إلخ. نعم، المسيح فعل ذلك. لكنه أيضاً أقام موتى، فلماذا لا نقف اليوم أمام القبور ونفعل هذا بسلطان المسيح! وكل ما نحتاجه هو الإيمان فقط، لماذا لا يحدث هذا!
[الباحث هنا لا يأخذ أي توجه كاريزماتى أو محافظ، فقط يدعو أن نفكر بمنطيقة حول هذا الاعتقاد أن الإنسان يحتاج فقط إلى الإيمان ليتخلص من أي ألم أو معاناة، وعكس ذلك هو ليس مؤمناً] ولا يدرك الذي يوجه هذه الرسالة أنه كم من ألاف المرات صلوا وبكوا المُعاقين أمام الله بإخلاص وإيمان شديد أمام الله؛ وبعد ذلك تقول لهم أنهم فقط يحتاجوا أن يصدقوا أو يؤمنوا! فكيف يكون هذا!
المُعاق لا يحتاج أن يُشفى من إعاقته بل ما يحتاج هو من يداوى ويشفى جروحه. هذه الشفاء الداخلي يجعل المُعاق أن يعيش بإعاقته مُتحدياً لها بدلاً من أنه يُعانى ويتألم بسببها طوال حياته. الحاجة والتركيز هنا أكثر إلى شفاء المشاعر المجروحة التي تحجب الشعور بمحبة الله.
مقال رائع
شكرا لأجل هذا الموضوع الهام