
الكاتب
القس عيد صلاح
راعى الكنيسة الإنجيلية بعين شمس
سنودس النيل الإنجيلي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
التعليم والنهضة
بقلم
الدكتور القسّ فايز فارس
تحرير وتقديم
القسّ عيد صلاح
المحتويات
مُقدِّمَةٌ
الفصل الأول: التعليم والنهضة
الفصل الثاني: كتابات الدكتور القسّ فايز فارس (1928- 2012م) مسرد أدبيّ
مُقدِّمَةٌ
يتناول طيب الذكر الدكتور القسّ فايز فارس (1928- 2012) في هذه الدراسة موضوع في غاية الأهمية وهو لسان حال المؤمنين اليوم وكل يوم، وقد تصدى الدكتور القسّ فايز فارس في هذه الدراسة للموضوع من زاوية متميزة بناء على خبرة ودراسة ليؤكِّد على أنَّ النهضة مرتبطة بالتعليم، والتعليم مرتبط بنهضة حقيقة في حياة الكنيسة. ولعل التعليم كان محور الإصلاح الديني وركيزة هامة من ركائزه.
في الفصل الأول يتحدث عن مفهوم النهضة، وعن التعليم والنهضة والقضايا المرتبطة به مثل: العمق، والأصالة، والمعاصرة. وقد قمت بإعداد مسرد أدبيّ-كتابات الدكتور القسّ فايز فارس-للتراث الفكريّ واللاهوتيّ الذي تركه للمكتبة للعربيّة إيمانًا منه بقضية التعليم كمدخل حقيقي وركيزة أساسية تقود إلى النهضة داخل الكنيسة.
إنَّ هذه الدراسة رغم صغر حجمها إلا أنَّها تفتح أمامنا بابًا كبيرًا للنقاش والتفاعل لنقيّم ما نقوم به من ممارسات وتعاليم تحتاج لمراجعة. ولعل الكنيسة والوطن في مسيس الاحتياج لتعيش نهضة حقيقة فكرًا وفعلًا، قولًا وعملًا، حياة وسلوكًا.
أسلوب الدكتور القسّ فايز فارس:
في عرضنا لفكر الدكتور القس فايز فارس أعود للتحليل الرائع الوارد في كتاب قصة خادم الذي صدر بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبيّ له وصدر عن الكنيسة الإنجيليّة الثانية بالمنيا، وقد جاء في هذا الكتاب تحليلًا وافيًا في فصل كامل عن فكره وتوجهاته، التقط منها هنا بعض النقاط الهامة قد تميز خطابه الفكريّ بالآتي [1]:
- التفكير المنظم الذي يصل من المقدّمات إلى النتائج.
- القدرة على التحليل اللغويّ للنصّ Verbal Analysis واستخدام التعبيرات البيئيّة المتصلة بنشاط الإنسان اليوميّ.
- إبراز القرائن المختلفة للنصّ سواء القرينة التاريخيّة أو الحضاريّةContextual Analysis .
- يظهر فكر لاهوتيّ متكامل ومترابط. وهو فكر لاهوتيّ ينبع من النص الكتابيّ وليس مفروضًا عليه من خارج، أي من الواعظ، فهو يخضع للنصّ الكتابيّ ولا يُخضع النصّ له.
- من الواضح أنه لا يتقيد بالحرف في النّصوص الكتابيّة، أي لا يفسر بظاهر النصّ لكنه يبحث في المقصود الحقيقي من النص من خلال بحث جاد ومضنٍ.
- من الواضح أيضًا أنَّ هناك قيمًا تظهر خلف كل عظاته وكتاباته، أهما:
- الدعوة إلى التنوير ورفض التعصب والسلفيّة،
- دعوة لمستمعين إلى العمل الوطنيّ والإيجابيّ من خلال أمانتهم وفي علاقتهم بجميع المواطنين على حد سواء،
- رفض فكرة الهجرة لأي سبب من الأسباب على أساس أن مصر بحاجة إلى كل أولادها،
- الدعوة الدائمة إلى التفكير في المسلمات حتى تكون محكًا دائمًأ لتثبيت الإيمان بها،
- رفض الأحكام المسبقة على شخص أو جماعة دون تعمق معرفي بهم،
- التأكيد على قيم الحب والسلام والعطاء دون أنتظار مقابلًا.
- المحاولة الذاتيّة لجعل الكتاب المقدّس الذي كتب من ألفي عام يصلح لإنسان العصر، أو كما يقول: ليكن الواعظ هو الكوبري الموصل بين الجريدة اليوميّة باحداثها المتلاحقة والكتاب المقدّس.
يبقى أن مشروع الدكتور القس فايز فارس الفكري يحتاج إلى قراءة ودراسة ونقد.
المحرر
القسّ عيد صلاح
راعي الكنيسة الإنجيليّة بعين شمس- القاهرة
الفصل الأول
التعليم والنهضة[2]
“وَقَرَأُوا فِي السِّفْرِ فِي شَرِيعَةِ اللَّهِ بِبَيَانٍ وَفَسَّرُوا الْمَعْنَى وَأَفْهَمُوهُمُ الْقِرَاءَةَ…فَذَهَبَ كُلُّ الشَّعْبِ لِيَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا وَيَبْعَثُوا أَنْصِبَةً وَيَعْمَلُوا فَرَحًا عَظِيمًا لأَنَّهُمْ فَهِمُوا الْكَلاَمَ الَّذِي عَلَّمُوهُمْ إِيَّاهُ. (نحميا8: 8، 12).
“مُقَدِّمًا نَفْسَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قُدْوَةً لِلأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، وَمُقَدِّمًا فِي التَّعْلِيمِ نَقَاوَةً، وَوَقَارًا، وَإِخْلاَصًا، وَكَلاَمًا صَحِيحًا غَيْرَ مَلُومٍ، لِكَيْ يُخْزَى الْمُضَادُّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ رَدِيءٌ يَقُولُهُ عَنْكُمْ.” (تيطس2: 7، 8).
النهضة أمنية كل مؤمن مخلص للمسيح وللكنيسة. فكل المشكلات التي يعاني منها الأفراد والعائلات والكنائس، تجد طريقها الصحيح إلى الحل عندما تبدأ النهضة. ولقد شبَّه البعض النهضة بالفيضان العالي، الذي يغمر الأحجار والجنادل والصخور التي تعطل سير الملاحة في المياه. وحياة الكثيرين أشبه بنهر كادت مياهه أنْ تجف، لذلك فأصغر مركب فيه يمكن أنْ يتعطل. لكن عندما يأتي الفيضان الغزير، فإنَّه يغمر تلك المعوقات.
مفهوم النهضة
إنَّ كلمة “نهضة” غير موجودة في الكتاب المقدّس بنفس اللفظ، ولكن معناها موجود تحت لفظ “إحياء” أو “إقامة” يقول النبيّ في مزمور 119 “لَصِقَتْ بِالتُّرَابِ نَفْسِي فَأَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ…قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ الْحُزْنِ. أَقِمْنِي حَسَبَ كَلاَمِكَ.” (مز119: 25، 28). ويقول المرنم في مزمور85: 6 “أَلاَ تَعُودُ أَنْتَ فَتُحْيِينَا فَيَفْرَحَ بِكَ شَعْبُكَ؟”
فالشخص الضعيف الفاتر المُنكسر الحزين يريد أنْ تدب فيه الحياة فيقوم ويتحرك ويمتلئ نشاطًا وبهجة وحيوية. فالنهضة هي الإحياء، وفي التاريخ يُطلق على القرن الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا “عصر النهضة” أو “إحياء العلوم والآداب” وُيسَمَّى بالإنجليزيّة والفرنسّية Renaissance ومعناها الحرفيّ “إعادة الميلاد”. ففي ذلك العصر استيقظت قوى الطبيعة الإنسانيّة، وغزا العقل البشريّ مختلف الميادين، وسرى تيار الفكر من أوروبا إلى مختلف بلاد العالم.
والنهضة تُسَمّى أيضًا بالإنجليزية Revival ومعناها أيضًا الانتعاش أو إعادة الحياة. ومفهوم النهضة التقليديّ والشائع في الكنائس هو أنْ ترتب الكنيسة عدة أيام أو أسابيع، تدعو فيها زوارًا من المتكلمين الممتازين، والخدام المكرّسين لتقديم رسالة الله إلى الشعب، وتقوم بنشاط مكثّف في الافتقاد والدعوة للحضور، لتتاح الفرصة لأكبر عدد من الناس أنْ يحضروا ويسمعوا.
وقد آن الأوان–في تقديري–أنْ نعيد النظر في هذا المفهوم، خاصة وأنَّ عددًا كبيرًا من رواد أمثال هذه الاجتماعات هم من هواة الاستماع الذين يتنقلون من مكان إلى مكان، ومن اجتماع إلى الآخر، ليشبعوا هوايتهم، ويستمعوا إلى كل جديد أو بليغ أو مثير. وحالما تنتهي تلك الأيام المُسَمَّاة “أيام النهضة” يعود كل فرد إلى حال سبيله، سواء إلى كنيسته أو إلى كسله، أو إلى أسلوب حياته الماضي، اللهم إلا بضع أفراد قد تتابعهم الكنيسة- وكثيرون يُصدمون عندما يرون الكنائس في أعقاب النهضات كما كانت دون تغيير يُذكر، كأنما النهضة كانت نشوة ثم عَبَرت، أو حركة ثم خَمَدت.
ولو أنَّ عشرة في المائة فقط من الحاضرين الجدد في كل نهضة، نهضوا فعلًا في دواخلهم وانتظموا في الكنيسة وتحملوا مسئولية فيها، لتغيرت ملامح الكنيسة في أقل من خمس سنوات. هذا فضلًا عن أنَّ قياس النهضة بمجرد حجم الاجتماعات معيار مشكوك في صحته، فكم من أساليب بشرية مثيرة يمكن أن تجتذب الآلاف، دون أن تكون هناك نهضة حقيقية.
إنَّني لا أنكر فائدة الفرص التي تقوم فيها الكنيسة بحملة منظمة ومهدفة للكرازة للبعيدين عن الله، تجمع بين الخدمات التبشيريّة والزيارات التبشيريّة، ثم تتلوها متابعة جادة لمَن وصلت إليهم استنارة روحيّة- فهذه مسئولية الكنيسة دائمًا وإرساليتها العظمى أنْ تشهد للمسيح وتنتقل من الحيز الضيق إلى المجال الأوسع، فتدعو لربها وتتلمذ الناس ثم تعلّمهم. إنما ينبغي أن يكون لهذه الفرص إعداد خاص، وأسلوب متميز، ونظام للمتابعة، لتحقيق الأهداف.
إنَّ النهضة ليست صورة خارجيّة أو مظهرًا سطحيًا، أو انفعالات حارة ملتهبة. وجماهير متدافعة تسمع وتبكي ثم تعود كما كانت… لا. النهضة هي إعادة الحياة والقوة في دماء أعضاء الكنيسة، وتجديد شباب فكرهم، وتحريك الإرادة فيهم، فيعرف كل منهم طريقه ومسئوليته ويقوم بها. النهضة حياة وعمل وثمر واتجاه مستمر في الحياة، هي نار لا تخبو لأنها نار الروح القدس الساكن في الإنسان.
الكنيسة الناهضة هي التي يظهر المسيح في حياة أعضائها، وفي معاملاتهم اليوميّة وفي نظرتهم إلى المجتمع، وفي محبتهم العملية، وفي استعدادهم أن يحملوا الصليب ليتبعوا المسيح. لذلك قال داود في صلاة توبته: “رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي.” (مز51: 12).
إنَّ الحديث عن النهضة يمكن أنْ يكون حديثًا طويلًا، ذا أبعاد كثيرة، فالنهضة أساسًا عمل إلهيّ، والبشر لا يستطيعون أنْ ينهضوا أحدًا، فالإحياء من عمل الله وحده، فهو يهب بروحه على العظام اليابسة فيكسوها لحمًا وجلدًا، وتسرى فيها الحياة فتتحرك لتصير جيشًا عظيمًا جدًا، كما رأى حزقيال النبيّ.
ولكن على الإنسان دورًا ومسئولية، هي التجاوب مع عمل الله، فيقر بعجزه الكامل، وبحاجته إلى الله، فيطلب النهضة ويصلي لأجلها، ويتفتح ليتقبل كلمة الله ويتغذى بها، ويتجاوب مع الروح القدس الساكن فيه، فينمو في النعمة وفي معرفة الرب.
ومسئولية المعلّمين والخدام والرعاة، أنْ يوصلوا رسالة الإنجيل إلى الناس، وأنْ يغرسوا فيهم التعليم الصحيح النقي، وبذلك يسهمون بدور في إعداد الناس لتقبل عمل الروح القدس، أو بمعنى آخر يسهمون في الإعداد للنهضة.
إذا كانت النهضة من عمل روح الله، فإن من أعمال الروح القدس التعليم والإرشاد. قال السيد المسيح: “وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ”(يو16: 13)، “وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.” (يو14: 26). هذا الروح القدوس، يرشد ويعلم المجتهدين في طلبه، والمنفتحين للبحث والقراءة، ليستطيعوا هم أن يعلموا غيرهم. قال بولس لتيموثاوس: “اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيمِ” (1تي4: 13)، وقال أيضًا: “لاَحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيمَ وَدَاوِمْ عَلَى ذلِكَ، لأَنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ هذَا، تُخَلِّصُ نَفْسَكَ وَالَّذِينَ يَسْمَعُونَكَ أَيْضًا” (1تي4: 16).
مَن يريد أنْ يُعلِّم فليتعلَّم هو أولًا. وجميع النهضات التي حدثت في التاريخ، كان أساسها اكتشاف المعاني المكنونة في كلمة الله. ففي عصر يوشيا الملك، في السنة الثامنة عشرة من ملكه، أرسل الملك شافان الكاتب إلى حلقيا رئيس الكهنة، ليرتب معه حسابات ترميم الهيكل، فأخبر حلقيا شافان أنه وجد سفر شريعة الله في بيت الرب. فلما قرأ شافان السفر أمام الملك، أدرك الملك حقيقة زيغان الناس عن وصايا الله، واستحقاقهم للعقاب الذي أنذر به الله شعبه في هذا السفر، وأرسل إلى خلدة النبية لتبدي رأيها، فأكدت له صحة ما جاء به من وعد ووعيد، وكانت النتيجة أن الملك قرأ سفر الشريعة في آذان الناس، وقطع عهدًا أمام الرب أن يحفظ وصاياه وفرائضه بكل القلب، وعبر عن ذلك عمليًا بملاشاة كل مظاهر العبادة الأصنامية، وجدد ممارسة فريضة الفصح، وهكذا حدثت نهضة حقيقية في حياة الأمة (2مل22، 23).
وفي عهد عزرا ونحميا حدث نفس الشيء عندما قرأ عزرا ورفاقه سفر شريعة الله أمام الراجعين من السبيّ، فحدثت نهضة روحيّة وقوميّة بين الناس (نحميا8). وفي عصر الإصلاح الإنجيليّ الذي قام به مارتن لوثر سنة 1517، كان أساس هذا الإصلاح هو العودة إلى كلمة الله بفهم صحيح.
أننا جميعًا ندرك ونعرف هذه الحقائق، ولسنا بحاجة إلى تكرارها، لكن المشكلة الحقيقية هي غياب المعنى الصحيح للتعليم. إننا نعرف العنوان جيدًا، لكننا كثيرًا ما نجهل المضمون. أننا لو بحثنا بإخلاص وموضوعيّة، لاتضح لنا أن تيار التعليم الكتابيّ قد ضعف، وبذلك أمست الكنيسة في حاجة إلى نهضة بالفعل، إلى إعادة الحياة والقوة. فالتعليم الذي يبني الكنيسة ويُعيد نهضتها ليس مجرد ترديد آيات أو عبارات، لكنه التعليم الذي يكون نتيجة جهد ودراسة جادة ومعاناة حقيقية.
إن مشكلتنا ليست في جهلنا بضرورة التعليم لنهضة الكنيسة، ولكنها في نوعية التعليم الذي ينهض الكنيسة. أرجو أن أقدم ملامح التعليم الذي يؤدي إلى النهضة في صورة ثلاث قضايا:
قضية العمق،
وقضية الأصالة،
وقضية المعاصرة.
فالتعليم المؤدي إلى النهضة هو:
أولًا: التعليم الذي يقدم الإنجيل في بساطته وملئه
من بين العهود التي تؤخذ على القسّيس الإنجيليّ المشيخيّ عند رسامته هذا العهد: “هل تعد أنْ تكون أمينًا في درس كلمة الله، وأنْ تكرز بإنجيل المسيح في بساطته وملئه طالبًا من الناس أنْ يتصالحوا مع الله، منذرًا ومعلمًا كل إنسان بكل حكمة لكي تحضر كل إنسان كاملًا في المسيح؟” هذا العهد الرائع يستحق أنْ نتأمل طويلًا في كل عبارة منه بروح المسئولية والالتزام. فما أكثر الذين يدرسون كلمة الله بسطحية دون عمق، وما أكثر الذين يقدّمون الإنجيل في بساطته فقط وليس في ملئه أيضًا! وما أكثر الذين يطلبون من الناس أنْ يتصالحوا مع الله دون أنْ يعلّموهم بكل حكمة لكي يحضروا كاملين في المسيح.
إنَّ الكتاب المقدّس بحر عميق غزير المعاني، ملئ بالجواهر واللآلئ الثمينة لمن يغوص فيه ليستخرجها… ومع أن فيه من بساطة المعنى ووضوحه ما يمكن أنْ يفهمه الأطفال، لكن فيه أعماقًا و “أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ” كما جاء في رسالة بطرس الثانية “كَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضًا، مُتَكَلِّمًا فِيهَا عَنْ هذِهِ الأُمُورِ، الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ، كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ.” (2 بط 3: 16) هذه تحتاج إلى دراسة جادة أمينة للوصول إلى أبعادها ومراميها.
ومأساة هذا العصر، خاصة في بلاد العالم الثالث الذي نحن جزء منه، هي السطحيّة في التفكير، والرغبة في سرعة الوصول إلى نتائج. إنَّ الناس ينشغلون بظواهر الأمور دون أن يفكروا في أبعادها وجذورها وأسبابها. وقد انتقلت هذه السطحيّة إلى كثيرين من الوعاظ والمعلمين. فما أسهل أن تدفع الغيرة مع البساطة إنسانًا ما تكون عنده ملكة الحديث أو الخطابة، فيتعلم مجموعة من العبارات والحقائق، ويحشر بينها بضع آيات من الكتاب ويعتبر نفسه واعظًا وخادمًا يتجول هنا وهناك يلقي بتعاليمه إلى الناس.
قد أصبح الوعظ هواية عند الكثيرين، فهو عندهم يكاد يكون الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى مؤهل، والمنبر له جاذبية خاصة. لكن ما أعظم مسئولية المنبر! ينبغي أنْ نفكر في مسئولية المنبر قبل أنْ تشدنا جاذبيته. ولعل كثيرين في عصرنا يخاطبهم يعقوب الرسول “لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ“ (يع 3: 1).
صحيح أنَّ الإصلاح الدينيّ الإنجيليّ فتح باب قراءة الكتاب المقدّس أمام جميع الناس ولم يجعله قاصرًا على الكهنة فقط، لكن هذا لا يعني أن يتعجل الناس في استخراج المبادئ والتعاليم من الكتاب المقدّس دون دراسة لاهوتية جادة.
إنَّ الحرية الإنجيليّة في تفسير الكتاب المقدّس لا تنكر امتياز العلماء. إنها تعني أنَّ الإنسان يستطيع أنْ يقرأ الكتاب المقدّس ليجد فيه رسالة روحية، ويمكنه أنْ يستعين بكافة الوسائل على فهمه، ومن واجبه أنْ يقدر دراسة من هم أكثر منه علمًا، وأن يتدرب على تمييز الأفكار فيما يقرأ من كتب خارجية.
ولعله من أسباب ضعف التعليم الكتابّي أنَّ كثيرين من غير المتخصصين يقومون به، وغالبيتهم يقومون بذلك عن إخلاص ولقد وجدت في كتاب “القواعد السنيّة في تفسير الأسفار الإلهيّة”[3] وهو من المراجع الإنجيليّة القديمة جدًا والمعترف بنقاوة تعليمها المستقيم المحافظ، وجدت بيانًا بالشروط التي ينبغي تواجدها فيمن يفسر الكتاب المقدّس، وهي كثيرة، إذ بالإضافة إلى التقوى الشخصية يجب أن من يفسر الكتاب المقدّس يكون عارفًا بلغات الكتاب الأصلية، وبتاريخ الشعوب المذكورة في الكتاب، وعادات الناس وأخلاقهم وبجغرافية البلاد المذكورة فيه، ومعرفة علم المنطق وعلم البيان، وغير ذلك. والكتاب المقدّس نفسه حرص أن يشترط الكفاية والمقدرة فيمن يعلم الغير بالإضافة إلى الأمانة والإخلاص، فقد أوصى بولس تيموثاوس أن يودع ما سمعه منه. “وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا” (2تي2: 2)، وحذر من الذين “يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي النَّامُوسِ، وَهُمْ لاَ يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ، وَلاَ مَا يُقَرِّرُونَهُ” (1تي1: 7). إنَّ هذه الأقوال تتحدانا–حتى القسّوس منا–لكي نتعلّم جيدًا قبل أنْ نعلّم.
إنَّ النهضة التي حدثت في عصر عزرا ونحميا بعد العثور على سفر الشريعة لم تحدث لمجرد أن سفر الشريعة وُجد أو قُرئ. لكنها حدثت عندما فهم الناس المعنى وشُرح لهم السفر شرحًا صحيحًا. لذلك نلاحظ أنَّ كاتب سفر نحميا يذكر من قرأوا وفسروا سفر الشريعة بأسمائهم، دليلًا على أنه ليس كل واحد يستطيع أن يفسر ووصف من قرءوا السفر أنهم “قَرَأُوا فِي السِّفْرِ، فِي شَرِيعَةِ اللهِ، بِبَيَانٍ، وَفَسَّرُوا الْمَعْنَى، وَأَفْهَمُوهُمُ الْقِرَاءَةَ.” (نحميا8: 8) وقد بكى الشعب أولًا عندما سمعوا كلام الشريعة، بكوا لأجل جهلهم وحرمانهم من هذه المعاني زمنًا طويلًا، لكنهم لم يتوقفوا عند العاطفة والبكاء، بل ذهبوا ليأكلوا ويشربوا أي لممارسة حياتهم العادية لكن بنور جديد، لأنهم بعثوا أنصبة أي اهتموا بمساعدة الفقراء الذين لم يكن لهم نصيب في الماديات، ليشاركوهم في الاحتفال، وفرحوا وابتهجوا “فَذَهَبَ كُلُّ الشَّعْبِ لِيَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا وَيَبْعَثُوا أَنْصِبَةً وَيَعْمَلُوا فَرَحًا عَظِيمًا، لأَنَّهُمْ فَهِمُوا الْكَلاَمَ الَّذِي عَلَّمُوهُمْ إِيَّاهُ.” (نح8: 12).
إنَّ للعقل والفكر دورًا هامًا في تفسير كلمة الله، فالتعليم ليس بلاغة ونغمات تخاطب العاطفة، ولكنه معانٍ ورسالة تخاطب العقل. قد تكون العاطفة مدخلًا للتأثير الوقتي في الإنسان، للحث والتوبيخ، لكن النهضة الحقيقية تبدأ عندما يتابع العقل بإدراكه وفهمه اتجاه الإنسان وتتحرك الإرادة. إنَّ واجب المعلّم أنْ يدرس كلمة الله بأمانة وبعمق لكي يستطيع أنْ يقدّم للناس إنجيل الرب يسوع في بساطته وملئه.
فما أكثر الذين يقرأون الكتاب اليوم وهم يحتاجون إلى شخص كفيلبس يقول لهم: “أَلَعَلَّكَ تَفْهَمُ مَا أَنْتَ تَقْرَأُ؟” (أع 8: 30)، ونحن في حاجة إلى من لهم تواضع واعتراف وشجاعة الوزير الحبشيّ الذي لم يخجل أن يقول: “كَيْفَ يُمْكِنُنِي إِنْ لَمْ يُرْشِدْنِي أَحَدٌ؟” (أع 8: 31).
ثانيًا: التعليم المبني على أساس نظام لاهوتيّ متماسك متين
من بين العلوم التي تدرس في الكليات اللاهوتيّة “علم اللاهوت النظاميّ” وبالإنجليزيّة Systematic Theology وربما كان هذا التعبير غير مفهوم للبعض، لكن المقصود منه أنه يشرح الموضوعات اللاهوتيّة المتنوعة على أساس نظام لاهوتيّ متماسك System أو فلسفة لاهوتيّة متناغمة متجانسة غير متناقضة.
والواقع إنَّ عددًا من المشكلات والصعوبات التي تعاني منها الكنيسة اليوم ترجع إلى عدم وضوح الرؤية اللاهوتيّة للقضايا المختلفة في نظام متماسك ينظم ويرشد فكر أبناء الكنيسة، ويوجههم في عقيدتهم وبالتالي في حياتهم، لأن السلوك يصدر عن العقيدة. إنَّ الفكر هو الذي يوجه الإرادة، وهو الذي يضع منهجًا للحياة والأفعال، فإذا كان الفكر مشوشًا غير متناسق، كانت الأفعال كذلك أيضًا.
والكنائس اليوم تعاني من عدم التزام أعضائها بنظمها ومبادئها وفرائضها، ومجتمعنا الكنسيّ يعاني من ضعف روح التضامن في الجماعة، والنظرة الفرديّة والاستقلاليّة تغلب على أفكار الناس. وفي الكنيسة الواحدة تجد أصحاب العقائد المتباينة في موضوعات جوهريّة، بل إننا أحيانًا نجد هذه الظاهرة في الفرد نفسه، فنرى العضو الإنجيليّ في جزء من عقيدته إنجيليًّا كتابيًّا، وفي جزء آخر خمسينيًّا أو معمدانيًّا أو تقليديًا. ونتيجة لذلك نجد التيارات الفكريّة واللاهوتيّة المتباينة تتصارع، ولا تتجه الكنيسة بكامل طاقاتها وأعضائها نحو هدفها المرجو. وسبب هذه الظاهرة هو عدم تأصيل الفكر اللاهوتيّ في الكنيسة بصورة مقنعة ومؤثرة ليكون له فاعلية في حياة الناس.
وإنَّنا نرى كثيرين من الإنجيليّين المشيخيين متأثرين بمبادئ وعقائد جماعات وشيع ظهرت في تاريخ الكنيسة بعد الإصلاح الإنجيليّ، وهذه لها آثارها في سلوك الإنسان، وعلاقته بالكنيسة المجتمع وقضاياه الكبرى. فعلى سبيل المثال نجد بعض المشيخيين يعتقدون مثل “جماعة الإخوة” بعقيدة “الملك الألفيّ” المبنية على التفسير الحرفيّ للكتابات الرؤويّة Apocalyptic كأجزاء من سفر دانيال وزكريا وسفر الرؤيا. ومع أن هذه العقيدة متصلة بأمور الآخرة لكن مضمونها ينعكس على حياة الكنيسة في العالم ومقدار اهتمامها بقضايا المجتمع لأنها مبنية على نظرة ضيقة، وفلسفة انسحابية من الحياة. وبعض آخر يعتقد اعتقاد الخمسينيين في موضوع المواهب الروحية، الأمر الذي ينعكس على عقيدتهم في علاقة الروح القدس بحياة المؤمن اليوميّة العادية، واستخدامه للأساليب الطبيعية التي جعلها الله تحت سلطانه.
وكثيرون يعتقدون أنَّ الكنيسة جماعة تضم الذين اتخذوا قرارات شخصية بقبول المسيح دون أطفالهم، وهم بذلك يشابهون جماعات الكويكرز والمينونايتس وغيرهم من الشيع التي تأخذ بتعليم دعاة “إعادة العماد Anabaptists” الذين ظهروا بعد الإصلاح الإنجيليّ منبرين على طبيعة الإيمان الفردية. متجاهلين ومنكرين الفكر الإنجيليّ المشيخي الذي يؤكد عمل الروح القدس في أطفال المؤمنين ووجودهم تحت تأثيره الذي يعمل في الأسرة والكنيسة باعتبارها جسدًا حيًا تربى أطفالها وأفرادها في الإيمان، والذي على أساسه كانت معمودية الأطفال–نحن نحترم اعتقادات الغير، لكننا يجب أن نعرف عقيدتنا جيدًا ونشرحها.
ومن المؤسف لنا نحن القسّوس المسئولين عن تعليم الشعب وتوجيهه، جعلنا جل اهتمامنا بالتوجه العاطفيّ والبلاغيّ في الوعظ والحث والزيارات، دون التعليم. وشغلنا أوقاتنا في إداريّات وشكليّات واكتفينا في قراءاتنا بما يعنينا على إعداد العظة، ولم نواصل دراستنا اللاهوتيّة الشخصية في الكتب المتخصّصة مع أن ما دارسناه في كلية اللاهوت لا يتعدى أنْ يكون مفاتيح للدراسة، ولمناهج البحث. ولو أننا أعطينا الجدية الكافية مع الوقت المناسب للدراسة العميقة، لاستطعنا نحن أنْ نميّز بين القضايا اللاهوتيّة ونوضحها لأفراد الشعب.
إنَّنا لا نريد أن نفرض قيودًا على الفكر، فحرية التفكير مبدأ أساسي في الكنيسة الإنجيليّة، لكننا نريد أن يعرف أعضاء كنائسنا العقيدة المتكاملة لكنيستهم، ومشروحة وواضحة دون تمييع، ومطبقة على الحياة، ومن ثم يختارون الطريق الذي يتجهون إليه بحريتهم.
ولو أننا درسنا تاريخ الكنيسة، وتاريخ الفكر المسيحيّ، لوجدنا أنَّ معظم الحركات الفكريّة التي تحاول أنْ تغزو كنائسنا اليوم لها أصول ونظائر في الماضي–وإذا درسنا ظروف ظهورها، وكيف واجهتها الكنيسة، تعلمنا من الماضي دروسًا نافعة لعلاج مشكلات الحاضر، بدلًا من معالجة هذه المشكلات كأنها تنبع من فراغ وبذلك نهدر ونضيع فائدة التاريخ.
أنَّنا في حاجة أنْ نعيد دراسة رأي لوثر وكالفن في عقيدة الخلاص، لنقارن بين أفكارهما وبين الأفكار التي شاعت بين الإنجيليّين اليوم، والتي تتميز بالفرديّة المتطرفة وتهمل مكان الكنيسة كشعب الله وجسد المسيح وعمل الروح القدس في إعداد الفرد للخلاص.
نريد أنْ ندرس عن الناموسيّة والحرية في الأخلاق المسيحيّة، لنعرف كيف نميّز بين المبادئ العامة، والتشريعات المحددة، حتى لا نكون كريشة في مهب الرياح يسوقنا بمجرد الاستشهاد بآية من الكتاب المقدّس.
نريد أن نستعيد دراسة المبادئ الأوليّة لتفسير الكتاب المقدّس، والتي منها على سبيل المثال، ومن المراجع القديمة المحافظة “إنَّ الاتفاق التعليميّ بين كتبة الكاتب يقوم بالمعنى لا باللفظ” ومنها أنَّه لابد من الاتفاق الجوهريّ بين الكتاب المقدّس والحوادث الطبيعية وتاريخ العالم. ويا حبذا لو كانت مؤتمراتنا واحتفالاتنا يغلب عليها الطابع الدراسيّ لا الوعظيّ.
نريد أنْ ندرس الكتاب المقدّس كوحدة متكاملة قارنين الروحيات بالروحيات، لا كنصّوص متفرقة، لندرك أن مجرد الاستشهاد بالآيات دون النظر إلى القرائن ودون مقارنتها بغيرها وبالفكر السائد في الكتاب، أسلوب يقود إلى الخطأ… وبذلك ندرك أن الاستشهاد بآيات الكتاب معزولة عن قرائنها ليس سيفًا نشهره في وجه الغير، أو يشهره الغير في وجوهنا. فكلنا نعلم أنَّ إبليس نفسه استشهد بآيات الكتاب وهو يجرب الرب يسوع نفسه. التعليم المؤدي للنهضة هو المبني على أساس نظام لاهوتي متماسك متين.
ثالثًا: التعليم النابع من فكر خلاق ليواجه حاجات الإنسان المتجددة
لقد شبه السيد المسيح كل كاتب متعلم في ملكوت السموات برب بيت “مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُدًا وَعُتَقَاءَ” (مت13: 52). والروح القدس روح خلاق، ويتحدث المرنم في سفر المزامير عن عمل الروح في الكائنات المختلفة فيقول: “تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ” (مز104: 30).
إنَّ كثيرين يتصورون أنَّ أزلية الله معناها ارتباط الله بالقديم فحسب، لكن الله أزليّ أبديّ. الله يسبق ويتخطى الزمن ويتجاوزه، فهو أقدم وأكثر جدة من كل جديد. ومن بين أقوال السيد المسيح الرائعة قوله للتلاميذ “إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لاَ تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ.َ أَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ” (يو16: 12، 13). إن الله لا يكشف إعلاناته للناس إلا بالقدر الذي يستطيعون أن يحتملوه، والروح القدس يجدد إعلانات الله للكنيسة خلال التاريخ.
إنَّ أروع ما في الكتاب المقدّس إنه لا يغلق على البشر باب الأمل في التقدم والنمو، فالعهد القديم لا يدعي أن إعلانات الله قد اكتملت، بل يسود عليه روح الرجاء والانتظار. والعهد الجديد يبين لنا أن السيد المسيح هو إعلان الله الكامل والأخير للبشر، ولكنه في نفس الوقت لا يوقفنا أمام باب مغلق، لأنه يضع أمامنا مجالًا لا ينتهي للنمو في النعمة وفي معرفة هذا المسيح، إلى أنْ نصل إلى كمال المعرفة في المجد. قال بولس “اليوم أعرف بعض المعرفة، أما في ذلك اليوم فستكون معرفتي كاملة كمعرفة الله” (1كو13: 12 الترجمة العربية الجديدة).
إنَّ ما يميز المسيحيّة عن كل ديانة أخرى بعد حقيقة الصليب والفداء، حقيقة وجود الروح القدس في المؤمنين. فالمسيحيّة ليست ديانة جامدة بل متطورة دائمًا، وتواجه الحاجات المتجددة للإنسان. ولقد كانت بعض معاني الكتاب المقدّس غير مفهومة في بعض الأوقات حتى أعلنها روح الله لبعض مفكري الكنيسة فأحدثت نهضة. ومن الأمثلة الرائعة لذلك حقيقة التبرير بالإيمان التي قال لوثر عندما اكتشفها، واكتشف معنى بر الله أنه شعر بأنَّه يولد من جديد وأنَّ أبواب السماء قد فتحت على مصراعيها أمامه.
والروح القدس هو أساس الفكر الخلاق الذي يرشد الكنيسة والمؤمنين ليتخذوا المواقف الملائمة في المشكلات والظروف المتغيرة التي جاءت نتيجة تطور أسلوب الحياة، وتقدم العلم، وهكذا يقدم لنا حلولًا معاصرة، فلا نقف عند القديم، بل نواجه الجديد – ومن الواجب أن تنشغل الكنيسة بالمسائل التي تمس حياة البشر الآن وتوقفهم حائرين أمامها باحثين عن الموقف المسيحي السليم إزاءها مثل تلوث البيئة، وغزو الفضاء، واستخدام بعض الجراحات والكيماويّات في تغيير سلوك الإنسان، ونقل الأعضاء من جسم إنسان إلى آخر، وأطفال الأنابيب، والمشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة كالتفرقة العنصريّة والقهر السياسيّ، والظلم الاجتماعيّ، وحقوق الإنسان، وخلو الرجل، والرشوة وغيرها كثير من مشكلات الحياة المعاصرة التي تواجه الإنسان وتحيره وتقف الكنيسة عاجزة عن إرشاده فيها.
وقد يتساءل البعض: كيف تستطيع الكنيسة أن تميز بين الحق الذي يعلنه الروح القدس استمرارًا لتعليمه المتجدد للكنيسة، وبين الفكر البشري والاستحسان الإنسانيّ الذي قد يدخل خلسة إلى عقيدة الكنيسة؟ وإنَّه لسؤال وجيه حقًا…
والجواب على ذلك هو أنَّه على الكنيسة أنْ تقبل هذه المخاطرة كمخاطرة إيمان، وأنْ تمتحن نفسها دائمًا، وتحرص على أنْ تكون أمينة لربها غير مدفوعة بعوامل ذاتيّة أو بشريّة، وإذا كانت كذلك فإن روح الله سوف ينقيها من كل ما يتعارض مع المبادئ الروحيّة التي أعلنها الكتاب المقدّس. والضوابط التي تساعد الكنيسة في جهادها للوصول إلى الحق هي مبادئ المسيح وعلى قمتها المحبة المسيحيّة، وشركة المؤمنين ووحدتهم، ونقاوة الحياة، وإرشاد الله للجماعة أكثر من الفرد.
كتب بولس إلى تيطس يقول له: “مُقَدِّمًا نَفْسَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قُدْوَةً لِلأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ، وَمُقَدِّمًا فِي التَّعْلِيمِ نَقَاوَةً، وَوَقَارًا، وَإِخْلاَصًا، وَكَلاَمًا صَحِيحًا غَيْرَ مَلُومٍ، لِكَيْ يُخْزَى الْمُضَادُّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ رَدِيءٌ يَقُولُهُ عَنْكُمْ.” (تيطس2: 7، 8).
فنقاوة الحياة عند المعلِّم، تؤيد تعليمه، وجماعة المؤمنين في الكنيسة وقادتها المكرّسون الدّارسون المتخصّصون، أكثر استعدادًا لقبول إرشاد الروح القدس، وأقل تعرضًا للخطأ والتحيز من الفرد؛ فالانفراديّة في الفكر، وإدعاء السلطان لطبقة ما في الكنيسة، يحرمها من قيادة الروح القدس ويعرضها للخطأ.
فلنحرص على ترك الباب مفتوحًا لروح الله… ولنجتهد أنّ نحفظ وحدانية الروح برباط السلام… ولنسلك في المحبة التي هي رباط الكمال… ولنلاحظ أنفسنا والتعليم مداومين على ذلك. وعندئذ يكون روح الله كنزًا متجددًا لنا، ننهل من مياهه الزاخرة، إلى أنْ نلتقي مع المسيح وجهًا لوجه عند النهر الصافي من ماء الحياة الخارج من عرش الله في مدينة الله السماوية ..هللويا.
الفصل الثاني
كتابات الدكتور القسّ فايز فارس
(1928-2012)
مسرد أدبيّ
إعداد
القسّ عيد صلاح
نتناول في هذا الفصل الكتابات التي كتبها وترجمها الدكتور القسّ فايز فارس وهي مرتبة زمنيًا، والسرد الأدبيّ هنا قاصر فقط على الكتب، ومن المعلوم أنَّ القسّ فايز فارس كتب مقالات كثيرة في مجلات: الهدى، وأجنحة النسور، الصحيفة، وشمس البر وغيرها من الصحف العامة والخاصة وهي-أي المقالات والدراسات- تحتاج لتوثيق وجمع لهذا التراث الفكريّ الثري.
والذي يقرأ جيدًا ما كتبه عن التعليم والنهضة وارتباطهما معًا يدرك اهتماهه الشديد بالكتابة والتعليم ويتبيّن مشروعه الفكريّ الذي يدور حول التنوير واللاهوت الواقعيّ المبنيّ على فهم القرينة وفهم الواقع وسبل التطبيق. وهو مشروع فكريّ وتراث تنويريّ يستحق الإشادة به، وقرأته، وفهمه، والاستفادة منه، والبناء عليه.
- الحَيَاةُ الجَدِيدة فِي المَسِيح تأليف بولس كلاسبر–مُترجم، صدر عن دارالثقافة، 1963م، ويقع في 138 صفحة من القطع الصغير.
- المَسِيحِيّ وَمُشكلات الحَيَاة المُعَاصرة. القَاهرة: دَار الثّقَافة المسيحيّة، 1964. عَدد الصّفحَات 237 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- زَوجة بِيلاطس: تَمثِيلِيّة بِمُنَاسبةِ عِيد القِيَامة المجِيد. القَاهرة: دَار الثّقَافة المسيحيّة، 1964 واعيد طبعها في عام 1986. عَدد الصّفحَات 52 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- النظام الماليّ ومرتبات القسوس في الكنيسة الإنجيلية بمصر، 1965م.
- المسيحيّة وَالصّحة النّفسِيّة. القَاهرة: دَار الثّقَافة المسيحيّة، 1967م وأعيد طبعه في 1980. عَدد الصّفحَات 219 مِنَ القَطعِ المتوسط.
- مجيء المسيح ثانية، دار الثقافة بالتعاون مع مجلس كنائس الشرق الأدنى 1969م، يقع في 64 صفحة من القطع المتوسط.
- نَشِيدُ المَحَبّة، صدر عن دار الثقافة 1971م في 88 صفحة من القطع المتوسط.
- رسامة المرأة نظرة لاهوتيّة شاملة، دراسة في كتاب: هل تجوز رسامة المرأة شيخًا، الصادر عن دار الثقافة 1974م، ص 95- 103.
- إيماني الإنجيليّ دروس لراغبي الانضمام للكنيسة، بالإشتراك مع القسّ منيس عبد النور والقسّ إميل زكي، دار الثقافة، 1977م. عدد الصفحات 147 من القطع المتوسط.
- حَقَائق أَسَاسِية فِي الإِيمَان المَسِيحِيّ. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1979. عَدد الصّفحَات 307 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- الصوم، سلسة الأغصان، 1979م.
- القدِّيس مَرقس الإِنجِيلِيّ وَالكَنِيسة الَّتِي أَسّسهَا فِي مِصر. صدر عن سلسلة الأغصان، 1979م.
- فِي رِفقةِ المَسِيح. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1980. عَدد الصّفحَات 347 مِنَ القَطعِ المُتوسط، وأعيد طبعه تحت عنوان: مَعَ المَسِيح. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1987.
- مدخل أساسي لفلسفة أصيلة للأخلاق المسيحيّة للمسيحيين المصريين (رسالة الدكتوراة باللغة الإنجليزية) 1980م.
- الزّواج وَالطّلاق فِي المسيحيّة: دِرَاسة لاهُوتِيّة أَخلاقِيّة، سِلسلة البُحُوث الدِّينِيّة. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1982. عَدد الصّفحَات 63 مِنَ القَطعِ الصّغِير.وقد أعيد طبعه ثانية تحت عنوان: زواج وطلاق المسيحيين في مصر بين النظرة المتزمتة وروح الغفران المسيحيّ، دار الثقافة 2008م.
- أَضواء عَلَى الإِصلاح الإِنجِيلِيّ. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1984. عَدد الصّفحَات 100 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- يَنَابِيع السّعَادة. صدر عن دارالثقافة 1988 عدد الصفحات 80 من القطع الصغير.
- مَفهُوم جَدِيد لِلخِدمةِ الدِّينِيّة –كُتيّب. 1985م
- الاقترَاب إِلَى الله. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1985. عَدد الصّفحَات 117 مِنَ القَطعِ الصّغِير. وقد صدر في طبعة رابعة 1998م.
- رؤية كِتَابِيّة لِمعمُودِيةِ الرُّوح القُدُس: رؤية مُعَاصرة لِمواهب الرُّوح القُدُس. القَاهرة: سنُودس النِّيل الإِنجِيلِيّ، مَجلِس التّهذِيب المَسِيحِي، 1985. عَدد الصّفحَات 20 مِنَ القَطعِ الصّغِير. كتبه بالإشتراك مع القسّ رضا عدلي.
- إِلَهِي.. مَا أَعظمك!! دِرَاسة لاهُوتِيّة عَنْ شَخصِيّةِ الله فِي الكِتَابِ المُقَدّس. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1986. عَدد الصّفحَات 192 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- عِلم الأَخلاق المَسِحِيّة، الجزء الأول. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1987. عَدد الصّفحَات 174 مِنَ القَطعِ المُتوسط.
- نَشِيدُ المَحَبّة وَقُطُوفٌ مِنْهَا. المنِيَا: الكَنِيسة الإِنجِيلِيّة الثّانِيّة بِالمنِيَا، 1998. عَدد الصّفحَات 210 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- دَعوة إِلَى التّغِييرِ. المنِيَا: الكَنِيسة الإِنجِيلِيّة الثّانِيّة بِالمنِيَا، 1990. عَدد الصّفحَات 156 مِنَ القَطعِ الصّغِير. وهو ثمرة خطاب حفل كلية اللاهوت الإنجيليّة بالقاهرة تحت عنوان: دعوة إلى إعادة البناء والمكاشفة في الكنيسة الإنجيليّة الجمعة 16 مايو 1990م بالكنيسة الإنجيليّة بقصر الدوبارة.
- حَرب الخَلِيج وَنِهَاية العَالَم. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1991. عَدد الصّفحَات 55 مِنَ القَطعِ الصّغِير
- عِلم الأَخلاق المَسِحِيّة، الجزء الثاني. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1992. عَدد الصّفحَات 292 مِنَ القَطعِ المُتوسط.
- أَعطنِي حُرِّيّتِي: دِرَاسة مُعَاصرة عَنْ مَوقف المَسِيحِيّ مِنْ الوصَايَا العَشر. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1992. عَدد الصّفحَات 163 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- أَحَادِيث الرّحِيل: قُطُوفٌ مِنْ إِنجِيل يُوحَنَّا. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1993. عَدد الصّفحَات 433 مِنَ القَطعِ المُتوسط.
- تَفسِيرُ ولِيم بَاركلِي لإِنجِيلِ مَتّى (ترجمة)، صدر عن دار الثقافة، ط2 1993م.
- نَحوَ فَجر جَدِيد: لِرِسَالةِ الكَنِيسة فِي العَالَمِ اليَوم. القَاهرة: د. ن، د. ت. عَدد الصّفحَات 192 مِنَ القَطعِ الصّغِير. ترجمه بالاشتراك مع الدكتور القسّ منيس عبد النّور.
- شَعب الرَّبِّ وَأَخلاقِيَات السّلُوك: المحبّة كَقِيمةٍ فِي الملكُوت، سِلسة الدِّرَاسَات الْكِتَابِيّة. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1999. عَدد الصّفحَات 67 مِنَ القَطعِ المُتوسط.
- الله المُحِبّ وَالإِنسَان المُتألّم. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 1999. عَدد الصّفحَات 61 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- حَول أَزمة الدِّين وَالأَخلاق فِي المُجتمعِ المُعَاصر. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 2002. عَدد الصّفحَات 107 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- العِبَادة: رُؤية شَاملة لِعَلاقةِ الكَنِيسة الحمِيمة مَعَ الله. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 2003. عَدد الصّفحَات 143 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- الرّاعِي وَالكَنِيسة: مَنْ هُوَ الرَّاعِي فِي الكَنِيسة الإِنجِيلِيّة. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 2004. عَدد الصّفحَات 90 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- المَاضِي يَنهَار..فَأيْنَ الأَمل الجَدِيد؟ يَسُوع المَسِيح هُوَ رَدُّ الله الإِيَجابِي فَي العَالَمِ الحَائر. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 2004. عَدد الصّفحَات 43 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- صَحوة النّفس فِي اختبَارِ الله: رِسَائل تنويرِيّة. القَاهرة: دَار الثّقَافة، 2008. عَدد الصّفحَات 125مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- قَرَارات وَتوصِيَات مُؤتمر الوكَالة المسيحيّة الأَوّل. القَاهرة: سنُودس النِّيل للأَقبَاطِ الإِنجِيلِيِّين، د. ن، د. ت. عَدد الصّفحَات 22 مِنَ القَطعِ الصّغِير.
- الدّلِيل الرُّوحِيّ للأُسرةِ المسيحيّة –مُترجم. د.ت.
كتابات عنه:
- قصة خادم، اليوبيل الذهبيّ للدكتور القسّ فايز فارس 1948- 1998م صدر عن الكنيسة الإنجيليّة الثانية بالمنيا 1998م.
[1] يمكن الرجوع إلى كتاب: قصة خادم، اليوبيل الذهبيّ للدكتور القسّ فايز فارس 1948- 1998م صدر عن الكنيسة الإنجيليّة الثانية بالمنيا 1998م، ص 33- 44.
[2] مجلة الهدى، عدد 891، نوفمبر 1986م، (ص 7- 9)، وعدد 892، يناير 1987م، (ص 11- 13) .
[3] هذا الكتاب يعتبر من أول المراجع الإنجيلية التي صدرت باللغة العربيّة الخاصة بتفسير الكتاب المقدس وقد طبع في بيروت في المطبعة الأمريكانية سنة 1880، وهو مجلد ضخم يقع في 474 صفحة من القطع المتوسط. وقد سبق هذا الكتاب كتابات كثيرة خاصة بالتفسير مثل كتاب بطرس السدمنتي في القرن الثالث عشرالميلاديّ عن التفسير وقد قمت بدراسة عليه تحت عنوان في سبيل نظرية عربية للتفسير بطرس السدمنتي نموذجًا صدر عن دارالفكر الإنجيلي بالقاهرة 2014. وصدر بعد ذلك اي -بعد كتاب القواعد السنية في تفسير الأسفار الإلهية- كتب اخرى في نفس الموضوع مثل: كتاب التسهيل والتيسير في علميّ الوعظ والتفسير لرياض غبريال السنورسي 1927م، ثم “علم التفسير” للدكتور القسّ فهيم عزيز، دار الثقافة، القاهرة، 1986م. ومجلدين “علم الوعظ بين عالم النصّ الكتابيّ ومتغيرات المجتمع المعاصر” للدكتور القس مكرم نجيب، المجلد الأول 2001م، والمجلد الثاني 2001م، صدرا عن دار الثقافة القاهرة. (المحرر).