
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
الرب قناني أول طريقه
(أم 8 : 22 – 36)
“الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مُسحت. منذ البدء منذ أوائل الأرض”.
“الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله، منذ القدم”، هذا تبسيط الآية ، الرب قناني رأس الموضوع والكلام، الرب قناني منذ القدم، قناني من القنية، قنى واقتنى، صار مِلكاً، قد يقتني الإنسان ما اشتراه، اقتناه لنفسه، والأشياء المقتناة أي الممتلكة بالشراء أو بالميراث، هذا هو معنى الكلمة قنى، اقتناني، اتخذني لذاته أول طريقه منذ القدم، من الذي يقول هذا القول؟ هو الذي يقف في المسالك وينادي وعلى رؤوس الطرق وينادي، وفوق رؤوس الجبال الشاهقة يعلن ويصرح ويقول: أيها الجهال، أيها الحمقى تعلموا، تحكموا، هو الذي يقول أنا أسكن الذكاء بي تملك الملوك، بي تترأس الرؤساء، هو الذي يقول: خذوا تعليمي لا الفضة ولا الذهب عندي، الغني هو الذي يدعو البنين والبنات والجميع ليبكروا إليه: “الذين يبكرون إليَّ يجدونني”، والذي يخطيء عني يضر نفسه، من هو؟
يقول: “أنا الحكمة”، فالحكمة هنا ليست صفة من الصفات بل ذاتٌ من الذوات، بل هي الذات، شخص عجيب يلقب نفسه بالحكمة، بل يدعو نفسه الحكمة، بل يتشخص في الحكمة، الحكمة لا ترفع صوتاً، لا تعلن نداءً، ويمكن أن نتكلم بصيغة المذكر لا المؤنث، فهو الكلمة كما أنه الحكمة، وكما قيل: “في البدء كان الكلمة”، يمكن أن يقال في البدء كان الحكمة، ويقول: الكلمة والحكمة شخصٌ واحد، ونستطيع أن نقول: “في البدء كان الكلمة وكان الكلمة عند الله وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله”، وأيضاً في البدء كان الحكمة وكان الحكمة عند الله وكان الحكمة الله، هذاوحده يحق له أن يقول: “الرب قناني (عند الله ذاته منذ القدم) أول طريقه من قبل أعماله”.
ومن هوذا هذا الشحص العزيز الذي هو كلمة الله، والذي هو حكمة الله، الذي كان في البدء كان عند الله سواء كان الكلمة أم الحكمة. في البدء عند الله الرب قناني، إذاً كيف صار الكلمة الله عند الله؟ في البدء كان الله إذاً كيف صارت الحكمة عند الله؟ هذا هو الأقنوم الثاني في اللاهوت الذي قال عنه الرسول بولس: “سٌرَّ (الآب) أن يحُل فيه كل الملء”، وهذه المسرة هي هذه القناية، سُر الآب أن يحُل في ابنه كل ملء اللاهوت، لاهوت الآب في الابن، لذلك قال المسيح بنفسه: “الآب الحال فيّ” بلاهوته و”أنا في الآب والآب فيَّ” لاهوتاً إلهاً، “أنا والآب واحد”، إلهٌ من إلهٍ، نورٌ من نورٍ، إله حقٍ من إله حقٍ، مولودٌ من الآب، جوهر الآب.
هذه الولادة هي هذه القنية، حلول لاهوت الآب في الابن، هذه هي القنية، فالإشارة هنا إلى ولادة الابن من الآب منذ القدم منذ الأزل قبل كل أعمال الرب، أول عمل من الأعمال في أزلٍ لا يُحد ولادة الآب لابنه، جوهر اللاهوت، سرٌّ لا يُدرك، عجيبٌ هو هذا السر، ولذلك يقول الابن ويمكن أن يصير الكلمة: “الآب قناني” عن طريق الولادة، والمسرة أن يحل كل ملء الآب في الابن، فالآب في الابن حالٌّ، والابن في الآب، والابن والآب واحدٌ، ومن ينكر الابن فليس له الآب ومن يعترف بالابن فله الآب والابن معا، “فليس أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد أن يُعلن له (الأب)”، هذا هو السر الذي يتحدث عنه فم الحكيم بلسان الحكمة شخصياً، شخصاً عجيباً، بلسان الحكمة يقول: “الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم”.
وإذا رجعنا إلى القرينة في الكلام نرى علاقة هذه القنية، هذه الولادة بالخليقة، فالابن مولود من الآب أزلاً، “بكر كل خليقة فإنه فيه خُلق الكل … ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم سياداتٍ أم رياساتٍ أم سلاطين (أم قوات) الكل به وله قد خُلق”، في محبة الآب لابنه المولود منه أزلاً، في ابنه وبابنه خُلق الكل لأجله، فيه “منه وبه وله كل الأشياء”، “كل شيءٍ به كان وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان”، وهنا قرينة الكلام، نرى العلاقة لهذه المسكونة، بالأرض قبل الجبال، قبل التلال قبل البحار، قبل أن توضع أسس الأرض يقول: “كنت عنده صانعاً”، هذا الابن الحكيم، الحكمة، الكلمة “الذي به كل شيء كان وبغيره لم يكن شيءٌ مما كان” يقول: “كنت عنده صانعاً”، فإذاً وُلد الابن من الآب، أعطى الآب له أن يكون بكر كل خليقة، خالقاً وصانعاً.
“كل شيءٍ به كان”، فهو في هذا المقام يقول الابن: “كنت عنده صانعاً” فرحاً قدامه في مسكونة أرضه “ولذاتى مع بني آدم”، وفيه قال البشير يوحنا: “كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم”، وتكلم عنه بوصف كونه النور الذي أشرق وبدد الظلام، وهنا إضافة أخرى، الكلمة، الحكمة، النور، “لأن الله الذي قال أن يشرق نورٌ من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله”، النور الأزلي والحكمة الأزلي، الكلمة الأزلي الذي كان عند الله في البدء وكان هو الله، وفي البدء كان عند الله، في البدء كان الكلمة، في البدء كان الحكمة، في البدء كان النور.
وإذا وقفنا عند الصليب نرى الكلمة والحكمة والنور فوق الصليب، “عظيمٌ هو سر التقوى الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد”، “الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب”، الحكمة صار جسداً، وما أعجب أن نرى الحكمة في الصليب! اليهود يسألون آيةً ليروا فيؤمنوا، اليونانيون يطلبون حكمة ليفهموا فيؤمنوا، ولكن الرسول بولس يقول: “ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرةً ولليونانيين جهالةً، وأما للمدعوين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله”، “الذي صار لنا حكمةً من الله وقداسةً وفداءً (عجيباً)”.
تجسمت الحكمة في الصليب، وما أعجب هذه الحكمة! لأنه كيف يمكن أن يكون الله باراً عادلاً ويبرر الفاجر، والفجور للهلاك؟
هنا معضلة المعضلات ومشكلة المشكلات وعقدة العقد، كيف إله يبرر الفاجر في فجوره؟ مشكلة لا تُحل إلا بالحكمة من السماء، وهنا الحكمة في الصليب، تجلت في الصليب، تجسمت، ففي المسيح الذي أوفى عدل الله حق أن يصير الآب باراً عادلاً يبرر الفاجر، فادياً بالإيمان بالمسيح، لذلك يقول: “إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا”، الأمانة والعدل لا في الهلاك بل في الغفران، الأمانة والعدل احتلا مكان الرحمة فأصبح الله الرحيم عادلاً وأميناً لابنه ولمواعيده، وبهذه الحكمة المتجسدة حُلت المشكلة.
فما أعجب الحكمة، يسوع المصلوب حكمة االله، صار لنا من الله براً وفداءً وحكمة وقداسة، حكمة هي سر الله العليّ.
ما علينا إلا أن نؤمن ونخضع لهذا الذي اتخذه الآب قنية منذ البدء، منذ القديم، قبل أعمال الله، قبل أي طريقٍ اتخذه الآب، ولد ابنه ليخلق فيه العالم، ولتكون لذاته مع بني آدم، وليفرح في مسكونة أرضه ويفرح الآب معه في أعماله.
شكراً ومجداً للآب والابن في الروح القدس.
27 / 2 / 1970