تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الأرشيف » الرسائل العامة

الرسائل العامة

الكاتب

الدكتور القس فهيم عزيز 

العميد الأسبق لكلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة 

 

     بقيت لنا في العهد الجديد خمسة رسائل وقد أطلق عليها اسم “عامة” نظرا لعدم تحديد المرسل إليهم. وهذه الرسائل بدورها تنقسم إلى جزأين . الرسالة إلى العبرانيين وهي عامة ولكنها ليست جامعة بمعنى إنها أرسلت إلى جماعة محددة مع إننا لا نعرفها من أربع رسائل وهي الرسائل الجامعة أي إلى كل المؤمنين وهي رسالة يعقوب ورسالتها بطرس ورسالة يهوذا.

الفصل الأول

                                      الرسالة إلى

                                      العبرانيين

     رسالة العبرانية من أهم رسائل العهد الجديد وأكثرها إثارة للأسئلة. ومع إن أسلوبها رفيع المستوى لا يدانيه إلا القليل من كتابات العهد الجديد ، ومع إن طريقة عرضها للحقائق عميقة ومفصلة ومعرفة كاتبها بالعهد القديم والأسلوب اليوناني معرفة أصيلة ، إلا أن هناك قضايا معقدة لم يستطع أي عالم أن يعطي فيها رأيا  فاصلا، مثل: ما نوع هذا السفر؟ ومن هو كاتبه؟ ولماذا كتبه. ولمن كتبه وغير ذلك مما يتطلب منا أن ندرسها دراسة تفصيلية.

أولا: ما نوع السفر؟

     هل هو رسالة؟ أم عظة؟ أم نبذة لاهوتية ؟فمقدمته لا توحي بأنه رسالة خاصة، فالكاتب لا يذكر اسمه كما كانت العادة في كتابة الرسائل وكما كان يفعل الرسول بولس في رسائله كلها. ولكن من يتأمل الإصحاح 13 يجد إن الكاتب يكلم جماعة خاصة، له بهم علاقة قوية، وكان معهم يوما ما، وهو يريد أن يزورهم مرة أخرى
(13: 18 و19 ) ثم يختتم الكاتب بإرسال تحياته لهم (13: 24و25) .

     وهنا من يظن إن هذه الكتابة عبارة عن عظة وضعها الكاتب في كتاب وأرسلها إلى جماعة خاصة وهذا الرأي مبني على ما نقراه فيها من تكرار كلمات السمع والقول مما يدل على إنها نبذة وموعظة وليست رسالة مقرؤة.

     وهناك من قال بان هذا السفر مقالة أدبية مسيحية كتبها شخص ولكنه لم يوجهها إلى جماعة خاصة بل إلى اليهود عامة. ولكن الموقف التاريخي الذي يظهر في الرسالة والأمور الشخصية لا تتفق مع هذا الرأي ولا تؤيده.

     أما رأينا فان هذا السفر يغلب عليه طابع الرسالة الخاصة التي كتبها شخص ما إلى جماعة ما يعرفها. أما عدم ذكر اسمه ولا تحياته فليس دليلا قويا ضد هذا الرأي. ولذلك فسوف نسميها الرسالة إلى العبرانيين”.

ثانيا :السؤال الثاني من هو كاتب الرسالة؟

     هو أصعب الأسئلة جميعا وهو الذي يتعلق بمؤلف الرسالة. ولقد انقسم العلماء إلى فريقين: الفريق الأول ينسبها إلى الرسول بولس . واهم من فعل ذلك هم علماء من مدرسة الإسكندرية والفرق الثاني ينكر نسبتها إلى الرسول بولس واهم من تبنى هذا الرأي علماء الكنيسة الغربية. وبدلا من الرسول بولس فقد نسبوها إلى شخصين مختلفين فمنهم من نسبها إلى اكليمندس: أو بولس أو أكيلا وبريسكلا أو لوقا وغير ذلك.

     أما من قد نسبها إلى الرسول بولس فقد استند إلى الشواهد التالية:

1- إن مدرسة الإسكندرية وراء هذا الاعتقاد. ولكن لهذه المدرسة بعض التحفظات على هذه النسبة وخاصة أوريجانوس الذي رأى إن هناك اختلافا واضحا بين أسلوب الرسالة وبين أسلوب الرسول بولس كما نقراه في الرسائل الأخرى . أما اعتراض الكنيسة الغربية على هذه النسبة فهو اعتراض متأخر أي في القرنين الثالث والرابع ويؤيد ذلك إن اكليمندس أسقف روما في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني اقتبس منها وكذلك الترجمة اللاتينية            

         

تحتوي على هذه الرسالة . وفوق كل ذلك قد أيد جيروم بكل ثقله العلمي نسبة هذه الرسالة إلى الرسول بولس مما كان له اكبر الأثر في الكنيسة الغربية بعد ذلك.

     2- ولكن البرهان الداخلي له ثقله الأكبر في هذا الاتجاه . ويتكون هذا البرهان من عدة عناصر:

     ( أ ) هناك بعض المواقف التي ترد في هذه الرسالة مما يتفق تماما مع حياة الرسول بولس دون أدنى تعارض .وهناك أجزاء أيضا يستشف منها القارئ إنها كتبت قبل خراب أورشليم وهدم الهيكل (8: 4، 9: 6و7: 13: 11-13). ولو إن هذه الحادثة المروعة حدثت قبل كتابة هذه الرسالة لما أمكن لهذا الكاتب أن يتناساه أو يغفله.

     وكذلك تدل العبارة الواردة في 12: 4 على إن هذه الرسالة كتبت قبل استشهاد يعقوب أي حوالي 62 أو 63م.

     لكن أهم عبارة وردت في هذه الرسالة تعطي احتمالا اكبر على نسبتها للرسول هي ما جاءت في 13: 19و23 والتي فيها يطلب منهم الصلاة من اجله لكي يرد إليهم وان يزورهم تيموثاوس . وهذا يعني انه كتبها مباشرة بعد  سجنه الأول في رومية وهذا يفسر ما جاء في 13: 24 من إن أهل ايطاليا يسلمون عليهم لأنه كان في ذلك الوقت في ايطاليا.

     (ب) هناك تشابه كبير في التفكير اللاهوتي بين هذه الرسالة وبين كتابات بولس . وهذا ما أبرزه أوريجانوس المصري . وهذه هي بعض الأفكار المشتركة بين هذه الرسالة والرسول:

عبرانيين 1: 1-3 تقارن مع 2كورنثوس 4: 4، كولوسي 1: 15 و16

عبرانيين 1.: 12 و13 تقارن مع 1كورنثوس 15: 25

عبرانيين 2: 14 تقارن مع 1كو 15: 54 -57

عبرانيين 8: 5و 1. : 1 تقارن مع كولوسي 2: 17

عبرانيين7: 26 تقارن مع أفسس 4: 1.

          وهكذا

    5- أما الاعتراض على صحة نسبة هذه الرسالة إلى الرسول والاستناد على اختلاف الأسلوب فهو اعتراض مردود ، لان الاختلاف في الأسلوب لا يدل على الاختلاف الكاتب بل اختلاف الموقف ، فكثيرا ما يغير الكاتب أسلوبه في موقفين مختلفين وما ابعد الشقة بين كتابة العبرانيين عندما يكتب الرسول أخر رسالة له تقريبا وهو يكتبها بعد عناية وتودة وبين كتابة رسالة غلاطية وهو يكتبها في نار الغيرة على الإنجيل والكنيسة في موقفين كهذين قد يستخدم الكاتب الكلمة في معنيين مختلفين ، وهذا خليق بشخص كالرسول بولس صاحب العقل الخصب والفكر الواسع.

     هذه هي أهم البراهين التي يسوقها الذين يعتقدون إن الرسول بولس كتب هذه الرسالة. ولكن هناك من يعترضون على ذلك وينكرون أن الرسول بولس قد خط هذه الرسالة . ربما كتبها إنسان من المعجبين بالرسول ولكنه ليس الرسول نفسه على كل حال ويوردون على رأيهم هذا أدلة نذكر منها:

     ( أ ) عدم ذكر اسم أي من الرسل ككاتب لهذه الرسالة، إننا لا نجد أي علامة على السلطان الرسولى الذي يظهر في الرسائل المختلفة في العهد الجديد .

فأي رسالة يظهر عليها اسم رسول نجد فيها علامة الرسوبية والسلطان المعطى لهم (انظر 1بطرس1: 1 ، 5: 1، 2بطرس1: 1، 3: 1، 1يوحنا 1: 1-4، يعقوب 1: 1 وهكذا) ناهيك عن الرسول بولس في رسائله ولهذا فانه يكون من المستغرب وغير الطبيعي أن يكون الرسول بولس كاتبا لهذه الرسالة ولا يذكر فيها شيئا من هذا القبيل.

    (ب) هناك اعتراض ثان على صحة نسبة هذه الرسالة إلى الرسول بولس وهو غياب ذكر خبرة الرسول في طريقه إلى دمشق وكيفية قبوله للمسيح ربا ومخلصا، وان كان هناك مكان هو أحق بذكر هذه الخبرة فهو رسالة العبرانيين، فان كان يذكرها للأمم أفلا بالأولى يذكرها للعبرانيين، فيبرهن لهم عن عظمة المسيح عن كل العهد القديم والناموس؟ لقد ترك كل طريق آبائه وكان واجبا عليه أن يشرح بكل وضوح لماذا فعل ذلك. ولكن هذا لا نجده في هذه الرسالة مما يضع علامة استفهام ضخمة أمام صحة نسبها إليه.

     (ج) هناك أيضا الاعتراض الكبير وهو اختلاف أسلوب هذه الرسالة عن كتابة الرسول بولس ، إن الاختلاف لا يتوقف على اختلاف الموقف ولكن الاختلاف يبين بالضرورة اختلاف الشخصين الذين كتبا رسالة عبرانيين ورسائل الرسول بولس. فمثلا عندما يكتب الرسول بولس رسالة كرسالة رومية لا تقل في تفكيرها وتسلسلها عن رسالة عبرانيين إن لم تزد فانه رغم كل العناية التي أولاها للأفكار التي فيها، والرسالة التي ضمنها إياها، فانه كان يمسك بالفكرة ويدرسها وفجأة ينتقل إلى فكرة ثانية وثالثة وقد يرجع إلى الفكرة الأولى ليكملها. وهذه سمة للرسول لا تتغير في كل رسائله فمثلا يبدأ في وصف الحياة المسيحية الروحية في رومية 5: 1-11 ولكنه ينتقل إلى التكلم عن الخطية والموت وعطية الله في المسيح ثم

ينتقل إلى التحذير من السلوك الجسدي فيتكلم عن المعمودية وكيف يموت فيها المؤمن مع المسيح ويحيا معه في وحدة الحياة ص6، ثم يتكلم عن الخطية وعربدتها في ص7 وفجأة يعود الو وصف الحياة الروحية في ص8. هذا هو الرسول بولس . أما كاتب عبرانيين فانه عندما يمسك بالفكرة  فانه لا يتركها دون أن يدرسها من كافة جوانبها ومتى انتهى منها تركها إلى غيرها – وهكذا مما يدل على انه شخص وشخصية أخرى غير الرسول بولس.

     (د) أما لاهوت الاثنين فهو مختلف كل الاختلاف. ويظهر هذا الاختلاف بكل وضوح في النظر إلى شخصية المسيح وطبيعة عمله والصلة بين العهد ين القديم والجديد. فلم يذكر كاتب عبرانيين العبارة المركبة “يسوع المسيح ربنا” أو “ربنا يسوع المسيح” مرة واحدة، وهو الذي يذكرها الرسول 7. مرة في كتاباته. إن كاتب العبرانيين يذكر الاسم مفردا “يسوع” أو “الرب” أو “ربنا” أو “المسيح”. أما عن عمله فبينما يركز الرسول بولس على قيامة المسيح تركز عبرانيين على تمجيده، وبينما يوجه الرسول على عمله الفدائي فان كاتب عبرانيين بكل قوة على كهنوت المسيح بكيفية لا نجدها في أي مكان أخر في العهد الجديد ولا عند الرسول بولس.

     ولعل هذا الاختلاف كان نابعا من نظرة الشخصين إلى العهد القديم بكل مشتملاته (العهد القديم كعهد وليس كتب العهد القديم) فالرسول بولس ينظر إلى اليهودية كنظام ناموس تشريعي يقصد به نوال امتيازات لدى الله ، أما كاتب العبرانيين  فاليهودية عنده نظام طقسي يبنى على الذبائح التي تقدم إلى الله حتى يمكن فتح الطريق إليه. وتصل ذروة الاختلاف بينهما في تقسيم العهد القديم، فكاتب العبرانيين يعتقد إن هذه الذبائح والطقوس لا يمكن أن تخلص لأنها ليست كاملة ولا مطلقة مثل العهد الجديد، انه اقل

منه قوة وكمالا فقط. وهذا يختلف تماما عن رأي الرسول بولس الذي يقول إن العهد الجديد ليس فقط أفضل من العهد القديم بل انه يناقضه ويزيله ولا يمكن أن يجتمعا معا. إن الطقوس لا تخلص لأنها ضعيفة عند كاتب العبرانيين . ولكن الرسول يزيد على ذلك بان الناموس يزيد الخطية ويجلب الحكم بالموت (رو5: 21، غلاطية 3: 19).

     (هـ) ولعل الموقف التاريخي يشكل اعتراضاًَ يصعب الرد عليه ففي عبرانيين 2: 3 يضع الكاتب نفسه من ضمن الجيل الثاني من المسيحيين الذين سمعوا كلمة الإنجيل من الذين كانوا من البدء معاينين وخداما للكلمة. وهذا ما لم يفعله الرسول بولس الذي كان ينبر بكل شدة وقوة على انه اخذ إنجيله من المسيح مباشرة (غلا1: 12 ) ولو تنازل عن كل شيء فلن يتنازل عن الإعلان المباشر الذي أخذه من المسيح دون أي واسطة.

     والى جانب ذلك فأنهم يقترحون عدة أسماء كاحتمالات كتابة هذه الرسالة منها:

 لوقا:

     واهم ما يذكر عنه في هذا الاتجاه هو تشابه هذه الرسالة مع خطاب اسطفانوس في أعمال 7 . ولكن هذا قد يظهر أسلوبا مدرسا أو الكنيسة اليونانية وليس أسلوب شخص واحد.

برنابا:

     وهذا رأي ترتليان الذي ذكره كتقليد كنسي ففي أعمال 4: 36 سمي

ابن الوعظ أو التعزية وهذا واضح في الرسالة (عبرانيين 13: 22) وكان لاويا يعرف كيف يفسر الطقوس اليهودية في ضوء المسيح. وهو من سكان قبرص وله دراية واسعة باللغة اليونانية. ولكن هذا التقليد الكنسي لم يكن له شعبية متسعة بل هو رأي كنيسة شمال إفريقيا. أما بقية البراهين فلا تقوى على البرهنة على ذلك الرأي.

     وهناك أسماء مثل اكليمندس أسقف رومية للتشابه الكبير بين رسالته التي كتبها في كورنثوس وبين رسالة العبرانيين . ومثل سيلا أو سلوانس رفيق الرسول بولس وكاتب رسالة بطرس الأولى (1بطرس5: 12) ثم أبولس الإسكندري كما يتمسك بذلك لوثر. وأخيرا بريسكلا زوج أكيلا. وهكذا ربط العلماء أسماء كثيرة بهذه الرسالة. ولكن الرأي الذي يجب أن يخرج به هوان “من كتب هذه الرسالة” فالله وحده هو الذي يعلم كما قال أوريجانوس المصري.

ثانيا – المكتوب إليهم:

     وهذا سؤال ثالث لا يقل جوابه صعوبة عن أجوبة الأسئلة السابقة. ولعل عنوان الرسالة الأصلي “إلى العبرانيين” هو السبب الأساسي في هذه البلبلة. فهذا العنوان الأصلي لا يعبر عن مكان جغرافي أي المكان الذي وجد فيه القراء فهل يشير إلى الأمة اليهودية كلها؟ أم إلى اليهود الذين يتكلمون العبرية ؟ الخ). إن الرسالة ترينا إن المكتوب إليهم كانوا جماعة مؤمنة قضت وقتا طويلا في المسيحية وذاقت الاضطهادات لأجل إيمانها (3: 1و14، 4: 2، 6: 1 و2 و9-12 ..الخ) . ونفس هذا القول يؤكد إن الرسالة لم تكتب إلى المسيحيين الذين من أصل يهودي ، لأنهم جماعة محدودة يرتبط الكاتب

بها رباط خاص (1.: 32 -39، 13: 7و 18 و9و22-25) فمن هي هذه الجماعة إذن؟

     ( أ ) جماعة لها تاريخ واضح وصلة خاصة بالكاتب: وهناك عبارات خاصة تظهر ذلك مثل: “الأيام السابقة” (1.: 32)، ووصف الاضطهادات بصورة دقيقة (1.: 33و 34 ، 12: 4) وقبل ذلك الكيفية التي قبلوا بها الإنجيل (2: 3) وصلته بهم واشتياقه أن يراهم (13: 19 و23 ) ويطلب منهم الصلاة لأجله (13 :18).

     (ب) جماعة لها ظروف حاضرة خاصة: لقد نالوا بركات وفيرة من الله: خلاص ابدي (2: 3 ) مواهب الروح القدس (6: 4و5) معرفة الحق (1.: 26) ومع ذلك فهم في حالة ضنك شديد وخطر الارتداد (2:1 ،3: 12) حتى إنهم يشابهون الإسرائيليين قديما (4: 1و11) إنهم في خطية الضلال التي صلبت المسيح نفسه (6: 6) وقد تركوا اجتماعاتهم (1.: 5) وقد أضحوا بطيء الفهم (5: 11-14).

     (جـ) إنهم قسم من مجتمع اكبر: يقول الكاتب لهم انه كان ينبغي أن تكونوا معلمين (5: 12) وهذا دلالة على إنهم وسط جماعة كبيرة ومع ذلك فهم ليسوا الفئة الأهم في الكنيسة فمازالوا لهم مرشدون (13: 17و 24) ومن يدري فلعلهم تركوا اجتماعهم وانشقوا عن الجماعة الكبيرة (1.: 25)

     هذه بعض صفات الجماعة فهل هناك تخمين عن هويتهم لقد ظهرت أراء ونظريات كثيرة منها:

  • جماعة مسيحية من أصل يهودي: وهو الرأي الذي حاز ومازال يحوز على موافقة قسم كبير من علماء العهد الجديد، لان الرسالة ونفسها

والمادة التي تحتويها والأفكار التي تدرسها، لا تفهم إلا في هذا الإطار، لأنها كلها تنصب على الديانة اليهودية بكل ما يتعلق بها. (انظر 2: 16، 9: 15، 13: 13) بل لعل الكاتب نفسه تأثر بالقراءات المجمعية وخصوصا من سفر المكابيين عندما كتب ص11.

     ولكن هذا الرأي لم يسلم من الاعتراضات: فقد اعترض بان أسلوب الرسالة أسلوبا يونانيا لا يلاءم اليهود والاقتباسات أخذت من الترجمة السبعينية وهذا لا يشجع الدارس على أن يأخذ بهذا الرأي. ولكن رغم ذلك فهذان الاعتراضان لا يمكن أن يكونا برهانا على إن القراء ليسوا من أصل يهودي.

     (ب) جماعة مسيحية من أصل أممي. وتمسك بهذا الرأي علماء لهم وزنهم في الدراسات الكتابية مثل موفات وجيرهارد فوس. وبنوا رأيهم على الأمور التالية:

     – إن مركز الثقل في الرسالة خيمة الاجتماع وليس الهيكل بخلاف ما كان سيكون لو إن المكتوب إليهم يهود لما للهيكل من إعزاز في قلوبهم.

     – لا نرى في الرسالة أي اثر للمناقشة الحادة بين اليهود والأمم والمسيحيين وهي قضية حساسة لليهود جدا وخصوصا المسيحيين منهم.

     – عندما ينبر الكاتب على بشرية المسيح فانه كان يحارب أفكار أممية منحرفة.

     – الاقتباسات كانت من السبعينية وليست من النسخة العبرية.

     – أما إن الدراسة كلها كانت من العهد القديم فذلك لان الأمم المسيحيين كانوا يقدسون أيضا هذا الكتاب لأنهم ورثوه أيضا من اليهود (غلاطية3).

  • إن مسالة الارتداد تدل على إن المرتدين كانوا من الأمم لأنهم يرتدون عن الله الحي وليس عن المسيحية. والأعمال الميتة هي أعمال في أساسها أممية (عبرانيين 3: 12، 6: 1، 9: 14).

     ومع انه رأي جماعة لا يستهان بها إلا إن ضعف هذا الرأي يكمن في إن المتمسكين به حملوا براهينهم أكثر مما تحتمل لأنها تنطبق على اليهود أو الأمم على السواء.

     (جـ) جماعة يهودية من أورشليم نفسها ، وليسوا كل مسيحي أورشليم ولكن هي جماعة يذكرها لوقا في أعمال 6: 7  إذ يقول إن جمهورا كبيرا من الكهنة قبلوا الإيمان ولعلهم هاجروا إلى رومية ، ولكنهم جازوا في اختبار صعب مرهق ووقفوا في مفترق الطرق، فكتب لهم الكاتب هذه الرسالة مبينا لهم مجد المسيح وعظمته وكمالاته كوسيط للعهد الجديد عن كل ما سبق.

     ولقد اختلفت الآراء أيضا عن مكان هذه الجماعة فقيل إنهم كانوا في فلسطين وقيل إنهم كانوا في روما قبل أي مكان أخر. وقيل إنهم كانوا في الإسكندرية نظرا لوجود اليهود المثقفين في هذه المدينة .. وقيل إنهم سكنوا في أفسس أو فيما حولها نظرا لتشابه بعض أفكار الرسالة بما جاء في كولوسي خصوصا في مقارنة المسيح بالملائكة والأطعمة وغير ذلك، وهكذا لا يستطيع المرء إن يعرفا جزما أين سكنت تلك الجماعة.

كيف نحدد موقفا هذه الرسالة:

     أين تقف هذه الرسالة أو كاتبها في تيار الفكر المسيحي في الكنيسة الأولى؟ هل هو يعبر عن فكر الكنيسة اليهودية  أو الكنيسة  الهلينية؟ إن هذا الكاتب

كان لاهوتيا أصيلا، ولكنه مع ذلك لم يصنع شيء جديدا من عنده بل هناك الكثير من التفكير الذي أخذه من الكنيسة. ومن يقارن هذه الرسالة بخطاب اسطفانوس يستطيع إن يحدد موقف الرسالة ويعرف إن تعبير متطور ومركب لتفكير الكنيسة اليونانية التي يمثلها اسطفانوس خير تمثيل.

     إن الأساس الفكري في خطاب اسطفانوس هو إن الله يتدخل في التاريخ لكي يقود الأحداث إلى نقطة محددة تشير إليها كل المواعيد التي قالها لقديسيه وعندما عبر اسطفانوس هذه الحقيقة كان هناك عنصران فيها يوضحانها، عنصر الموعد وعنصر الغربة والتغرب. فكل الآباء تغربوا في الأرض – ارض الموعد – وذلك لأنهم كانوا ينتظرون موعد امتلاكها: تغرب إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف (أعمال 7: 2-19) وحتى الشعب نفسه كان شعبا متغربا في البرية منتظرا إتمام الوعد (28 -39).

     هذا العنصر الأساسي نجه أيضا في رسالة العبرانيين ولكن بتفصيل اكبر وتطوير لفكرته إذ يبرز الكاتب إن حياة المسيحي هي غربة تتجه نحو مدينة الله الحي. ويظهر ذلك في إصحاحات 3 و 4 . وفيما يصف رحلة شعب إسرائيل في البرية وفشلهم إن يدخلوا الراحة التي أعدها الرب لهم وذلك لعصيانهم قساوة قلوبهم. أما في ص11 فإننا نجد غربة جماعية آخرين أتقياء يطيعون دعوة الله ويسيرون وراءه ولذلك فهم ككل المؤمنين يجب إن يقتفى أثارهم. ويعلن الكاتب صراحة أن المسيحي ليس له موطن في الأرض ولكنه يطلب العتيدة (13: 14). مثله في ذلك مثل الآباء وخاصة إبراهيم (11: 1. و14 و16). فالتغريب هو صفة تميز كل القديسين في العهد القديم والجديد وهذه الغربة ليست عبثا لان الله اعد لهم مدينة (11: 1.و16). وهنا يختلف المسيحي عن الآباء الذين لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها

وحيوها واقروا إنهم غرباء على الأرض (11: 13-16) ، إذ انه قد نال المواعيد بكيفية خاصة بعد صيرورته لسيده كما يقول الكاتب “بل لقد أتيتم إلى جبل صهيون والى مدينة الله الحي أورشليم السماوية والى ربوات هم محفل الملائكة ” (12 “22) ولكن كمال الموعد وامتلاك مجد المدينة سوف يكون في المستقبل عندما تزلزلت السموات (12: 26).

    وإذا كان الكاتب يرى إن فكرة التغرب في العهد القديم فانه بالأكثر يراها في حياة المسيحي نفسه وموقفه الجديد . فان كان مفهوم العهد القديم مفهوما حرفيا أو تغرب الآباء حقيقة تائهين في الأرض، إلا إن مفهومها في حياة المسيحي إنها دعوة تأتي من الله ويسير هو وراءه سيرا روحيا. هذا ما نراه أيضا في خطاب اسطفانوس ، ولكن كاتب العبرانيين يسلط عليه الضوء الشديد إذ يوضح إن حياة الإنجيل هي حياة غربة وان المسيحي يجب إن يتقدم لكي ينال الوعد. إنها حياة الإيمان والطاعة المبنية على وعد الله (4: 1-14، 12: 18-24).

     هذا المفهوم العميق للحياة المسيحية أعطى للكاتب نظرة جديدة لمعنى الإيمان. فما هو مفهوم الإيمان لدى رسالة العبرانيين؟ إذا القينا نظرة – عن طريق المقارنة – إلى مفهوم الرسول بولس للإيمان فإننا نراه يعتبر الإيمان هو تسليم كلي وكامل لعمل الله في المسيح يسوع وخصوا في صلبه وقيامته (انظر رومية 4: 17-25). أما كاتب العبرانيين فانه يرى الإيمان من وجهة نظر أخرى فهو انفتاح على المستقبل يولد ثقة في الله الذي قدم الموعد، وثقة كاملة فيه وفي نفس الوقت معرفة كاملة للحق الذي يتضمن في الموعد حتى وان كان لم يتحقق بعد. انه إيمان يشمل المستقبل والحاضر أيضا. هذا الإيمان الذي أعطى موسى الجرأة على مواجهة التحدي القاسي لفرعون، وإنقاذ

إسرائيل من مصر، لقد تحمل كل المشقات لأنه كان يرى الله غير المنظور (11: 26و 27). فهو إيمان في المستقبل وثقة فيه يدفع المؤمن على إن يعمل في الحاضر دون خوف أو تراجع. هذا هو الإيمان الاسخاتولوجي الذي يحتاجه المتغرب في هذا العالم.

     وهناك أمر أخر تتشابه فيه رسالة العبرانيين مع خطاب اسطفانوس فهما الاثنان يظهران سجل حياة إسرائيل مع الرب كسجل الثورة والعصيان والمقاومة لقصده (ص3و4). ولكن الرسالة تنبر على شيء أخر، فبينما يركز اسطفانوس على هذا السجل ويتتبعه إلى نهايته عندما اسلموا الرب يسوع للموت، فان كاتب العبرانيين يهتم بالأكثر بتحذير الجماعة المسيحية التي يكتب إليها، فهم يخاف عليهم لئلا تصل بهم حالتهم هذه إلى التردي في مثل حالة الإسرائيليين قديما من العصيان والتصلب الشرير. وبذلك يدعو الكاتب قراءه مرات كثيرة في رسالته إن يتمسكوا بثقتهم متمثلين  بالرب يسوع الذي نؤمن به (3: 1) ويحذرهم من إن يقلدوا إسرائيل في عصيانهم ولكن عليهم إن يسيروا في الطريق الجديد الذي فتحه يسوع حديثا بدمه إلى الله ، ويعلنهم إن الفشل في ذلك والتردي في حفرة الارتداد والوقوع في الخطية عمدا بعد إن اخذوا معرفة الحق، هذا معناه الوقوع المخيف في يد اله الحي، وقبول دينونة مروعة (1.: 27). ما أقسى إن يواجه الإنسان الله الذي قال “لي النقمة لأجازي يقول الرب” (1.: 3.). إن الكاتب يستخرج النتائج المحتومة التي يتجه إليها خطاب اسطفانوس اخذ المواعيد ويصل بها إلى النهاية ، ليس فقط مع الإسرائيليين بل مع المسيحيين الذين يرتدون، لأنهم يصلبون ابن الله مرة ثانية ويشهرونه لأنفسهم (6: 6). بهذا يظهر إن كاتب العبرانيين يرى إن المسيحيين الذين يرتدون بعد اخذ  المواعيد والمشاركة

في قوات الدهر الآتي هم ورثة الإسرائيليين العصاة الذين صلبوا المسيح فعلاً.

    هذه المقارنة تبين لنا إن خطاب اسطفانوس ورسالة العبرانيين تعبر عن تفسير الكنيسة الهلينية للحياة المسيحية بأنها حياة تغرب روحي كما كانت غربة إبراهيم والآباء وإسرائيل تغرب حرفي، ولكن هناك أمر أخر يظهر في رسالة العبرانيين ولكنه لا يظهر في خطاب اسطفانوس وهو تفسير كهنوت المسيح على انه اعلي رتبة من ملكي صادق، فإننا لا نجد ثباتا أي اتجاه في العهد الجديد إلى هذا الأمر، فهل هذا التفسير هو إعلان من الروح لهذا الكاتب أو هو ميراث أخذه أيضا من كنيسة اليهود الهلينيين ؟ إن الحقيقة التي يمكن إن نستنتجها هي إن هذا التفسير كان ملكا للكنيسة الهلينية؛ أما الكاتب فقد شرحه بالتفصيل وطوره، والدليل على ذلك هو انه لما استقدم حقيقة كون المسيح رئيس كهنة لم يحتج إلى وقت أو وقفة فيها يشرح غرضه مما يدل على إن السامعين كانوا يشتركون معه في هذا الأمر (2: 17 و18، 3: 1، 4: 14 -16 ..) . فكهنوت المسيح .. أو كون المسيح هو رئيس كهنة، وهو كذلك على رتبة ملكي صادق، لم تظهر في العهد الجديد في غير هذه الرسالة بهذه الكيفية من الوضوح والتعمق في مفهوم عمل المسيح.

     ثانيا: وإذا كان قراء الرسالة في خطر الارتداد فهما أيضا في خطر الاضطهاد المرير. لقد جازوا في اضطهادات قاسية (1.: 32-35)، ولكن هناك اضطهادات أقسى في الطريق إليهم، وذلك يظهر في قوه لهم “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية ..” (12: 1-1.). ولهذا يحثهم قائلا “35فَلاَ تَطْرَحُوا ثِقَتَكُمُ الَّتِي لَهَا مُجَازَاةٌ عَظِيمَةٌ. 36لأَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّبْرِ، حَتَّى إِذَا صَنَعْتُمْ مَشِيئَةَ اللهِ تَنَالُونَ الْمَوْعِدَ. 37لأَنَّهُ بَعْدَ قَلِيلٍ جِدّاً «سَيَأْتِي الآتِي وَلاَ يُبْطِئُ.”

(1.: 35 -37). هذه الآيات تدل على إنهم مقبلون على أزمة شديدة ولكننا لا ندري ماهية هذه الأزمة، أما حثه لهم فهو “2نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ. 3فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ (12: 2و3).

    إذن هو يحثهم على أن ينظروا إلى رئيس إيمانهم. والكاتب يستعمل اصطلاحا يصف به المسيح كان يستخدم في هذا العصر ليشير إلى البطل الذي يدخل المعركة بجانب الضعيف لكي يدافع عنه ضد الوحوش أو ضد المجرمين، كأنما المسيح هو ذلك البطل الذي يدخل إلى الساحة إلى جوار هؤلاء المضطهدين الذين يلقون في وجه هؤلاء الوحوش لكي يدافع عنهم . وقد فسرت هذه الصورة على إنها صورة رمزية ، ولكن كثيرون من المفسرين يظنون إن المسيحيين كانوا على وشك إن يسقطوا في براثن الحكام القساة الذين كانوا سيحكمون عليهم بالموت في داخل الساحة لمواجهة الوحوش أو المجرمين المحترفين للقتل ، ولكن الكاتب يقول لهم لا تخافوا لان بطلهم ورئيس خلاصهم سيقف إلى جوارهم ويدافع عنهم.

     لقد سمي من قبل برئيس خلاصهم وذلك لأنه هو نفسه جاهد كما قيل عنه لأنه لاق بذاك… أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام .. فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ. ..لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ. (2: 14-18). فهو قد خلصهم من الموت ومن الخوف من الموت، ومن الطبيعي عندما نذكر الموت هنا فأنه يقصد الموت الروحي. فإذا كان قد خلصهم

من الموت الروحي فهو لا يتباطأ بل يأتي ويخلصهم من الآم الموت الجسدي ويقف بجوارهم كالبطل الذي يدافع عنهم.

     بهذه الكيفية يتمم يسوع النبوة القديمة أو الوعد القديم الذي أعطاه الله لشعبه فيقول “24هَلْ تُسْلَبُ مِنَ الْجَبَّارِ غَنِيمَةٌ وَهَلْ يُفْلِتُ سَبْيُ الْمَنْصُورِ؟ 25فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «حَتَّى سَبْيُ الْجَبَّارِ يُسْلَبُ وَغَنِيمَةُ الْعَاتِي تُفْلِتُ. وَأَنَا أُخَاصِمُ مُخَاصِمَكِ وَأُخَلِّصُ أَوْلاَدَكِ 26وَأَطْعِمُ ظَالِمِيكِ لَحْمَ أَنْفُسِهِمْ وَيَسْكَرُونَ بِدَمِهِمْ كَمَا مِنْ سُلاَفٍ فَيَعْلَمُ كُلُّ بَشَرٍ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ مُخَلِّصُكِ وَفَادِيكِ عَزِيزُ يَعْقُوبَ»(إشعياء49: 24-26). الله هو بطل شعبه وقد وعد إن يخلصه وقد تمم هذا الوعد في المسيح يسوع. ومع ذلك فهم لا يخافوا لأنهم يعرفون بطلهم يسوع رئيس خلاصهم ويعرفون انه قد انتصر على الموت وعلى الخزف وهو دائما مستعد أن يدخل معهم في ساحة الصراع القاسي لكي يحامي عنهم ويحميهم من كل عدو سواء أكان عدواً روحيا أم جسدياً.

العهد الجديد ووسيطه:

    هذا هو قلب الرسالة بل الهدف الأساسي للكاتب من كتابتها. ولا يخفى إن الرسالة مكتوبة لجماعة في ظروف خاصة، كما سبق القول، وهذه الظروف تتلخص في أن جماعة كانت سترتد إلى الوراء إلى اليهودية أو هي في طريقها في الارتداد “فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصا، هذا مقداره” (2: 3) ثم يوبخهم ” فلنخف انه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يرى احد منكم انه خاب منه” (4 :1). ويردف هذا بأقسى تحذير “4لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً، وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، 5وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ

الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِي، وَسَقَطُوا، لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضاً لِلتَّوْبَةِ، إِذْ هُمْ يَصْلِبُونَ لأَنْفُسِهِمُِ ابْنَ اللهِ ثَانِيَةً وَيُشَهِّرُونَهُ. لأن أرضا قد شربت المطر الآتي عليها مراراً كثيرة ولكن إن أخرجت شوكاً وحسكاً فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها للحريق” (6: 4-8). ولا يقل قسوة عن هذه الكلمات ما قيل في 1.: 26: 31 فلماذا هذا كله؟ وأي خطية هذه التي نسميها الارتداد ؟ وهل هناك فرق هائل كهذا بين المسيحية واليهودية حتى إن من يرتد عن لمسيحية يستحق إن يوصف هكذا ؟ إن الكاتب بنى هذا كله على ما أوضحه من سمو المسيحية وكمالها عن اليهودية، وعلى ما أعلنه من أن الخلاص الحقيقي هو ما قدمه العهد الجديد لا العهد القديم وأن ذلك كله مبني على مجد وسمو وسيط العهد الجديد عن وسطاء العهد القديم . ويتقدم الكاتب في مناقشته كذا:

     (أ ) إن الفرق الواضح بين الديانتين يكمن أساسا في الإعلان . فالديانة اليهودية قامت على إعلان الله وكذلك قامت الديانة المسيحية. وليس هناك أي فرق في إعلان الله فكلاهما سام وكلاهما واحد. ولكن الفرق الكبير يظهر في واسطة الإعلان . فهو بعد إن “كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه…” وما ابعد الشقة بين الواسطتين. فالأنبياء الذين كانوا واسطة الإعلان لم يستطيعوا أن يظهروا الإعلان الأعظم فتعددت الطرق والأنواع. ولكنه بعد ذلك كلمنا في ابنه، وهل هناك من يستطيع أن يعلن الله حقيقة سوى الابن الذي هو وارث كل شيء؟

     (ب) هناك ينتقل الكاتب سريعا إلى مقارنة الابن بالملائكة، وقد ندهش إذ نراه وكأنه يزج بموضوع الملائكة زجا”، ولكنه الأمر ليس كذلك. ففي العهد القديم كالإسرائيليين يعتقدون أن الناموس هو إعلان إرادة الله



السامية جاء بواسطتين متتاليتين: الملائكة ثم موسى، فالملائكة كانوا واسطة للإعلان، وإذا كان المسيح أعظم من الملائكة فاعلان العهد الجديد بالتالي أعظم من إعلان العهد القديم. ولقد ظهرت هذه الفكرة مرتين في العهد الجديد إلى جانب ما ذكره هنا في هذه الرسالة. ففي خطاب اسطفانوس يذكر سفر الأعمال عن موسى”38هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ (اع7: 38). وجاء أيضا في رسالة بولس إلى غلاطية إذ يقول “19فَلِمَاذَا النَّامُوسُ؟ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ، مُرَتَّباً بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ. (غلاطية3: 19) وذكرت في هذه الرسالة في 2: 2. فالملائكة هم الذين اخذوا الناموس ليعلنوه عن طريق موسى إلى الشعب، وما امجد المسيح عن الملائكة. أنه الابن وهم الخدام، إنه الخالق وهم المخلوقين، إنه الذي تخضع له كل الأشياء وهم الذين يتممون غرض الله (1: 5-2: 18). فإذا كان قد وضع عنهم قليلا في فترة تجسده فلكي يتمم قصد الآب وينقذ إخوته من كل خطية.

     (جـ) وإذا كان المسيح أعظم من الملائكة فهو كذلك أعظم من موسى (3: 1-6). وعظمته عن موسى تتضح في مركزه، فهو أولا باني البيت، وغالبا يقصد بالبيت هنا كل ما يتعلق بإعلان الله لنفسه لشعبه أي بالديانة كلها. وهو في داخل هذا البيت ابنا، أما موسى ففيه خادم. وبهاتين الصفتين يعتبر السيد أعظم من موسى مهما عظم اليهود . ولهذا السبب فكل من لا يصيخ أذنه إلى هذا الإعلان السامي في الابن السامي فسوف يرى من العقاب ما هو اشد من ذلك الذي رآه الذين عصوا على موسى وتمردوا عليه في البرية هو وخادمه يشوع عندما كان يقودهم إلى ارض كنعان

( د ) هنا يقدم الكاتب نظريته الأساسية في تفسيره للديانة اليهودية على إنها كإعلان تقوم على النظام الطقسي الكهنوتي وكان يمثل الكهنوت فيها هرون كرئيس كهنة ، وفي هذا الأمر أيضا كان المسيح أعظم من هارون وكان كهوته أعظم من كهوته.

     ويتميز الكاهن كما يظهر هنا بثلاث أمور: الأول هو انه مدعو من الله من وسط الناس لأجل هؤلاء الناس. الثاني أن يكون شفوقا ورحيما بإخوته لأنه مثلهم محاط بالضعف، ولذلك فهو يقدم عن نفسه ذبيحة كما يقدم عن الآخرين . الأمر الثالث هو أن يتقدم لله وفي يده شيء أي قرابين وذبائح وليس بيده فارغة (5: 1-4). هذه الصفات كانت تميز الكاهن وقد امتلكها المسيح نفسه، فهو لم يسلب هذه الوظيفة مع انه كان من سبط أخر غير سبط لاوي ، ولكن الله دعاه (5: 6و7) وإذا كان الكهنة من البشر هكذا هو أيضا  كان محاطا بالضعف (5: 7و8) . وهكذا صار للذي يطيعونه سبب خلاص ابدي (5: 9)ولكن هذه المشابهة تحمل في طياتها عظمة المسيح التي لا تحد عن هرون ونسل هرون . فالمشابهة لا تعني أن الاثنين متساويان ولكن المسيح أسمى بكثير في الأمور التالية:

1- رتبة كهوته:

     فالمسيح لم يكن في رتبة كهنوت اللاويين بل كان على رتبة ملكي صادق، هذا الإنسان كان أعظم من إبراهيم نفسه فهو الذي بارك إبراهيم ، وهو لذي اخذ من إبراهيم عشرا دلالة على انه الأكبر منه، وبالتالي فيكون ملكي صادق أعظم من نسل إبراهيم (7: 4-1.). وهناك أمر أخر وهو أن ملكي صادق يمثل البقاء الأبدي في كهنوته لأنه بلا أب بلا أم بلا نسب لابداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله (7: 3)، وهذا يظهر

إن كهنوت المسيح كهنوت ابدي لا يأخذه من احد ولا يسلمه لأحد يخلفه بعكس كهنوت اللاويين الذين يموتون (7: 23).

     أما الأمر الثالث الذي فيه تظهر عظمة المسيح كرئيس كهنة عن اللاويين هو انه دعي من اله بواسطة قسم “اقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق” (7: 2.و21). وهذا القسم ضمان لثبات الكهنوت وعدم تغييره، لان الرب عندما أراد أن يعلن أن قضاءه باق غير متغير توسط بقسم. وهذا يدل أيضا على عدم بقاء الكهنوت اللاوي وكان لابد له أن يأتي إلى نهاية محتومة.

     أما الأمر الأخير الذي فيه تظهر عظمة المسيح كرئيس كهنة عن اللاويين فهو انه ملكا إلى جانب كونه ولم يعد باقيا لهم. ولأنه جاء من سبط يهوذا، ولأنه على رتبة ملكي صادق يستلزم إن المسيح جمع الاثنين معا الكهنوت والملك مما لم يظهر في الكهنوت اللاوي (7: 11-17).

     وهناك أمر أخير وهو كمال المسيح الشخصي وعصمته، ولهذا فهو كرئيس كهنة ليس في احتياج أن يقدم عن نفسه ذبيحة ثم عن خطية الشعب ، إنه انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات دلالة على قداسته المطلقة. ولهذا السبب فهو ليس في احتياج  إلى أي نوع من الذبائح، إن رئيس كهنة اللاويين كان يقدم عن نفسه الذبيحة وإلا لما أمكنه أن يدخل إلى الرب في قدس الأقداس ليكفر عن خطية الشعب ، لأنه كان يستلزم أن يدخل بخطية بدم عن نفسه أولاً وعن الكهنة أخوته حتى يمكن أن يمثل أمام الرب (8: 26 -28).

2- سمو الذبيحة

     إلى جانب سمو شخصية الكاهن وسمو كهنوته هناك عنصر أخر يسمو فيه عن لكهنوت اللاوي وهو سمو الذبيحة التي يقدمها . ويظهر ذلك السمو في أمرين: الأمر الأول هو إن ذبيحته التي يدخل بها إلى الله لم تكن من تيوس أو عجول لا فهم لها أو إدراك، أما هو فقد قدم ذبيحة نفسه، دخل طائعا مختارا إلى قدس الأقداس في المسكن الأعظم بدم نفسه. وما ابعد الفرق وأعظمه بين الذبيحتين ، يعبر عنه الكاتب بقوله “13لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، 14فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ!(9: 13و14).

     أما الأمر الثاني: فهو ما ذكره في الآية السابقة من قوله “الذي بروح أزلي قدم نفسه” فهو يدل على إن ذبيحة السيد لم تكن لها قيمة مؤقتة ولكنها أزلية، عملها عمل لانهائي باق إلى الأبد يطهر كل المنجسين. ولهذا السبب فهي ذبيحة لا تكرر ولا يمكن أن تقدم مرة أخرى لأنها قدمت بروح أزلي. وهكذا يقول الكاتب “25وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ إِلَى الأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ. 26فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ. 27وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ، 28هَكَذَا الْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ (9: 25-28).

3- سمو المسكن:

    إن المسكن الذي كان يقدم فيه رئيس الكهنة اللاوي كان مسكنا ارضياً

بنى على المثال الأعظم. هذا المسكن بما فيه سمي “أشباه الحقيقة “(9 :24). إنه مسكن مصنوع بيد. هذا في مقابل المسكن الأعظم وهو السماء نفسها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا”. ثم يقول الكاتب موضحا ذلك “وأما المسيح فقد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة بالمسكن الأعظم والأكمل غير مصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة” (8: 11).

     هذا هو سمو المسيح رئيس الكهنة: في شخصه ، في كهنوته، في ذبيحته وفي المسكن الذي دخل إليه، انه يسمو عن الكهنوت اللاوي ولذلك فهو وسيط لعهد الجديد ، فما هو الفرق بين العهدين؟

العهد الجديد:

     يقول الكاتب “15وَلأَجْلِ هَذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ، لِكَيْ يَكُونَ الْمَدْعُّوُونَ – إِذْ صَارَ مَوْتٌ لِفِدَاءِ التَّعَدِّيَاتِ الَّتِي فِي الْعَهْدِ الأَوَّلِ – يَنَالُونَ وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ(9: 15). إن العهد الجديد أكمل وأعظم في مقابل لنقص العهد القديم، ولذلك ففي القديم عيب كان يجب أن يحل محله عهد أعظم منه. وفي مقابل الناموس الذي هو أهم صفات العهد القديم يضع الكاتب عناصر العهد الجديد الذي وعد بها الرب (في ارميا 31: 31-34) وقد اقتبس الكاتب هذا القول في موضعين (8: 7-13، 1.: 6-18). وهذا العهد الأكمل يعدهم بان يكتب نواميسه على قلوبهم ويغفر لهم خطاياهم، وهذا الأمر يعني أن يعطيهم سلطانا بان يتطهروا من الخطية. وهذا هو سمو العهد الجديد لان الناموس في العهد القديم لم يستطع أن يفعل شيئا غير أن يكشف الإنسان ويظهر خطي دون أن يطهره. هكذا يفعل الناموس الأدبي ولهذا فقد أدبهم الرب رغم كل الناموس (2: 2). وهكذا يفعل الناموس الطقسي كما سبق القول، وهكذا يفعل الناموس الاجتماعي . إنه غير كامل، ليس له سلطان أن يحرر الإنسان من الخطية.

     ويذكر الكاتب عبارة هي توضيح لنتيجة عظمة المسيح وسمو خدمته فبقول “19فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، 2.طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، 21وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، 22لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. 23لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخاً، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ (1.: 19-23).

      بهذا المقدار يظهر سمو المسيح وسمو العهد الجديد .

الفصل الثاني

                                                الرسائل الجامعة

مقدمة

     بقيت لنا أربع رسائل اتفق دارسو الكتاب المقدس على تسميتها بالرسائل الجامعة، اثنتان منهما كتبها بطرس كبير الرسل ، والاثنتان الاخرتان كتبهما يعقوب ويهوذا اخو الرب. وسميت بالجامعة لأنها – على خلاف رسائل الرسول بولس مثلا- وجهت إلى مجموعة كبيرة من الكنائس أو إلى المسيحيين عامة في كل أنحاء العالم، وليس إلى شخص واحد أو كنيسة واحدة. فقد كتبت رسالة يعقوب إلى الاثنى عشر سبطا اللذين في الشتات ” (يعقوب  1 : 1) . ورسالة بطرس الأولى وجهت إلى المتغربين في شتات بنطس وغلاطية وكبدوكية واسيا وبثينية والمختارين” (1بطرس1: 1) ويهوذا إلى المدعوين المقدسين في الله الآب والمحفوظين ليسوع المسيح  “(يهوذا1). وهذه الرسائل تكشف الأتي:

      1- في رسالة يهوذا يكتب الكاتب عبارة يكشف فيها عن الكثير من موقف هذه الرسالة الجامعة. فهو يقول “3أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِذْ كُنْتُ أَصْنَعُ كُلَّ الْجَهْدِ لأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنِ الْخَلاَصِ الْمُشْتَرَكِ، اضْطُرِرْتُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ وَاعِظاً

 أَنْ تَجْتَهِدُوا لأَجْلِ الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ. 4لأَنَّهُ دَخَلَ خُلْسَةً أُنَاسٌ قَدْ كُتِبُوا مُنْذُ الْقَدِيمِ لِهَذِهِ الدَّيْنُونَةِ، فُجَّارٌ، يُحَوِّلُونَ نِعْمَةَ إِلَهِنَا إِلَى الدَّعَارَةِ، وَيُنْكِرُونَ السَّيِّدَ الْوَحِيدَ: اللهَ وَرَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ (3 و 4) يكشف الكاتب هنا إن الأمر الطبيعي – إذ انه يكتب رسالة عامة إلى المدعوين المقدسين …” – فليكتب عن مواضيع عامة وأساسية في الإيمان المسيحي، مثل المحبة والرجاء والإيمان والنعمة والصليب والروح القدس وغير ذلك. . ولكن أمر ما خاصا قطع عليه تفكيره وجعله يكتب في موضوع خاص وهو محاربة المنحرفين، والذين دخلوا خلسة إلى الكنيسة، والذين يريدون أن يحولوا نعمة إلهنا إلى الدعارة. أي إن هناك شدا وجذبا بين الهدف الأساسي الذي يجب أن يكتب فيه وبين الموضوع الذي اضطر أن يكتب فيه محذرا ومنذراً. ولم تكن رسالة يهوذا هي الفريدة في ذلك، فكل الرسائل الجامعة الباقية سارت على هذا المنوال أيضا. ومع إن كاتبيها يعرفون انه يجب أن يكتبوا في المواضيع العامة إلا إنهم كانوا يحسون بالأزمة الشديدة التي تمر فيها الكنيسة، أو ينظرون إلى أزمة قادمة فيسرعون إلى التحذير منها. فرسالة بطرس الثانية، مثلها مثل رسالة يهوذا تحذر العالم من التعاليم والمعلمين الضالين داخل الكنيسة. أما رسالة بطرس الأولى فالأزمة التي تظهر فيها تتركز في الاضطهادات الآتية من الخارج، وأخيرا رسالة يعقوب التي فيها يحذر من الاسترخاء الروحي والاستهتار في الأخلاق والقيم المسيحية والظلم الذي يوقعه الغني على الفقير.

     2- هذه الكتب الأربعة نستطيع أن نعتبرها مقالات أربعة، لأنها أميل إلى المقالات منها إلى الرسائل. مقالات كتبت في وقت أزمة من الأزمات. ولعل صغر حجمها جعل الكنيسة تترد بعض الوقت في قبولها ضمن الكتب المقدسة. وظهور هذه الكتب الأربعة يعطينا فكرة عن حركة الكتابة في الكنيسة

الأولى التي طالما ظننا أنها حركة بسيطة لا تتعدى نشاط الرسول بولس في أسلوب الرسائل التي كان يرسلها إلى الأفراد أو الكنائس لهدف محدد خاص إلى بالكنيسة في جهة ما. وهذه الفكرة جعلنا أيضا نظن إن هذه “الرسائل” الجامعة هي نمط من أنماط الرسائل وتقليد عمله الرسول بولس . ولكن الحقيقة غير ذلك، فوجود هذه الكتب الأربعة علمتنا إن حركة الكتابة والشهادة المكتوبة في الكنيسة أوسع وأعمق مما نظن ، أنها أوسع مما تقتصر على رسائل الرسول بولس. فسفر العبرانيين الذي هو أميل إلى الكتابة منه إلى الرسالة، وظهور الأناجيل الثلاثة، ثم الإنجيل الرابع ثم سفر الرؤيا ز. كل هذه تدل على إن أنماطا كثيرة من الكتابة، وطرقا متعددة للشهادة المكتوبة وإعلان الإنجيل قد ظهرت في الكنيسة الأولى. ومع ذلك فهي لم تكن متناقضة ولكنها متكاملة، فالرسائل متكاملة مع سفر الرؤيا ومع الأناجيل ومع المقالات اللاهوتية أو العظات، فكلها تشهد بعمل واحد قام به الله في شخص ربنا يسوع المسيح. وكلها تتشابه في أنها تستخدم شهادة الكنيسة الأولى التي استخدمها الرسول بولس نفسه مكتوبة في ترانيم روحية، وعبارات عقائدية وتعاليم أخلاقية. وتحذيرات ضد الهرطقة. أنها تتفق مع الاقتباس من العهد القديم ومن كلمات الرب يسوع (قارن 1بطرس1: 6و7 مع يعقوب1: 2-4،  1بطرس 5: 5-9 مع يعقوب 4: 6-1. مع متى 23: 12، أمثال 3: 34 ). ولكن هذا التشابه في استخدام العهد القديم وكلمات الرب يسوع وكل عقائد الكنيسة لا يعني إن هذه الكتب الأربعة تكرر أفكارا متشابهة تكرارا مملاً، ولكن كتابها يطبقون هذه الاقتباسات على المواقف التي يجدون أنفسهم فيها. فبينما يعقوب الرسول يستخدم الاقتباسات السالفة في التحذير والإنذار يستخدم الرسول بطرس في التعزية والتشجيع.. وهكذا.

     3- إذن فهذه الكتب الأربعة تهتم بما هو موجود الآن وتعمل على تثبيته. أنها تهتم بالكنيسة كما هي الآن، أما روح النبوة التي كانت تميز الكنيسة الأولى – فيقول كثير من العلماء – أنها بدأت تضعف. ويقولون إن روح الخلق والحياة المتفقة خف صداها. ولكن هذه مبالغة، فالكنيسة وما فيها من نظم وروتينية ليست موجودة في هذه الرسائل. نعم قد ورد فيها ذكر الشيوخ ولكن لا نعرف كم كان سلطانهم، وكل ما نعرفه عنهم إنهم يصلون من اجل المريض (يع5: 12) ولكن في مقابل لذلك يقول  “اعترفوا بعضكم بعض بالزلات” (5: 16) ؛ وهذا يعني إن السلطان الروحي للقادة لكي يعترف لهم المؤمنون ، لم يكن قد وجد بعد، وإذا كان بطرس الرسول يطلب من الشيوخ أن يهتموا بالرعية ويطلب من الأحداث أن يخضعوا لهم (1بطرس5: 1-5) ففي مقابل لذلك يطلب من كل مؤمن اخذ موهبة ما أن يخدم بها البقية كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة (1بطرس 4: 1.و11). هذا يعني أن روح النبوة ما زالت باقية في هذه الرسائل. نعم أنها تعمل على حفظ الإيمان المسلم لنا من القديسين (يهوذا 3و 17 ،2بطرس3: 2) نظرا لما يجابهونه من المنحرفين والمضلين، تماما كما فعل الرسول يوحنا في رسائله إذ يعلن أنها الساعة الأخيرة نظرا لظهور هؤلاء الأنبياء الكذبة (1يو2: 18) . خلاصة القول هو إن هذه الرسائل الأربعة تتمتع أيضا بروح الكنيسة الأولى المشتعلة، إلى جانب أنها تريد تثبيت ما قاله الأنبياء والرسل القديسون. أنها روحة النبوة المشبعة بالروح المحافظة. والآن لنذهب إلى كل رسالة على حدة:

                        رسالة يعقوب

     رسالة يعقوب من الرسائل القليلة جدا التي ظلمها الدارسون في كل العصور، فمن تردد الكنيسة الأولى في قبولها. . إلى اعتبار لوثر لها أنها كومة من القش إلى قسوة النقد الذي وجه لها في القرن التاسع عشر إذا اعتبرت أنها مناقضة لرسائل بولس الديناميكية. . كل هذا وقع ظلما على هذه الرسالة . ولكن ذلك لم يمنع من  قيام من دافع عنها مثل أوريجانوس وغيره واعتبرها احد كتب العهد الجديد القانونية . ولكن قبل أن ندرس تاريخ هذه الرسالة في الكنيسة يجب أن نعترف أنها في الحقيقة ليست رسالة ولكنها كتاب أو مجموعة من المواعظ وجهت إلى الأسباط الاثنى عشر الذين في الشتات ، وفي الغالب كان يقصد بها المسيحيين في كل العالم ، ولكننا جريا على العادة نسميها رسالة.

تاريخ الرسالة في الكنيسة:

     مع إن بعض الدارسين يضنون أن هناك اقتباسات في الديداكي ورسالة برنابا وأكليمندس الروماني وغيرها، من رسالة يعقوب، إلا إن هذا الرأي لم يصادف قبولا عن أكثرية العلماء . وعلى النقيض من ذلك نجد أشياء كثيرة تظهر تأخر الكنيسة في قبول هذه الرسالة.

    كان أول من قبل الرسالة بكل تأكيد هو أوريجانوس المصري وقد اعتبرها رسالة يعقوب أخي الرب. ومع ذلك ففي واحد من اقتباساته يلقي بعض الشك على ذلك، مما جعل بعض العلماء تترد في تأكيداته. ولكن كثرة اقتباساته منها والمرات التي فيها يؤكد إن الرسول يعقوب هو الذي كتبها، تجعل من الصعب جدا أن تهتم بذلك الاقتباس المتشكك.

    أما الكنيسة الغربية فكان موقفها الأول هو عدم قبول الرسالة وذلك لعدم ورودها في قائمة الموراتوري- مع إن هذه القائمة لم تحتو أيضا على رسالة

       

     

 العبرانيين – ولكنن ما يزيد الشك في رسالة يعقوب هو إن الجناح الآخر للكنيسة الغربية وهو شمال إفريقيا لم يرد على هذه  الرسالة في كتبها.

    أما الكنيسة السريانية فمكثت أطول مدة معروفة لم تقبل فيها رسالة يعقوب فلم ترد في أي مخطوطة من هذه الترجمة سمى في البشتة حوالي 4..م.

     أما شهادة الآباء في الغرب وضعها جيروم في قائمة الكتب القانونية ولكنه كان يعلن إن شكوكا كثيرة تحوم حولها.

     وكان في نفس الوقت يوسابيوس فقد وضعها في ضمن الكتب التي يدور حولها شك في كتاب أنها قانوني antilegomena ولكنه هو كان يقتبس منها على أنها من ضمن الكتب المقدسة ويقول “يقال عن هذه الرسالة إن كاتبها هو يعقوب الرسول اخو الرب ولكن بعضهم يقول أنها رسالة مشكوك فيها”.

    إن مصدر التردد، في الحقيقة، في قبول هذه الرسالة هو عدم التأكد من شخصية يعقوب الذي يذكر اسمه في أول الرسالة، وهذا يأتي بنا إلى قضية كاتب الرسالة.

الكاتب:

    من هو كاتب الرسالة؟ يقول هو “يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح” (1: 1) ويصف نفسه بأنه معلم بين المعلمين (3: 1). ولكن جو الرسالة يوحي بأنه شخص له سلطان خصوصا في الأوامر التي يذكرها للعالم المسيحي. فمن هو يعقوب هذا؟ هذا الاسم كان شائعا جداً في الكنيسة الأولى واليهودية، ويمكن أن يدل على كثير من المسيحيين. ولكن بساطة العنوان في ذكر اسم “يعقوب” يدل على انه كان شخصا معروفا في الكنيسة العامة. وإذا فتشنا العهد الجديد نجد أن هناك شخصين أو ثلاثة بهذا الاسم.

الأول هو يعقوب اخو يوحنا بن زبدي تلميذ المسيح والرسول. ولكن هذا الرجل لا يمكن أن يكون كاتب الرسالة لأنه قتل مبكرا على يد هيرودس (أعمال 12: 2) . أمة الرجل الثاني فهو يعقوب اخو الرب. وهذا الرجل صار مشهورا وقصته جاءت في العهد الجديد كما جاءت في مصادر أخرى خارجة . ومن المناسب أن نذكر قصته في هذين المصدرين حتى يمكن أن نعرف إذا كان من الممكن أن يكون هو الكاتب:

     بحسب العهد الجديد لم يكن يعقوب اخو الرب واحدا من الرسل الاثنى عشر لأنه لم يؤمن بيسوع المسيح أثناء خدمته في الجسد (يو7: 5) وقد ذكر عنه أنه من ضمن أخوة يسوع في مرقس 6: 3 ،متى 13 :55 ويقول بعضهم انه هو نفسه المسمى يعقوب الصغير واسم أمه مريم (مرقس 15: 4.) . وفي هذه الحالة تكون كلمة أخ الرب لا تعني أكثر من انه “قريب يسوع”. . وهذا ما يجعلنا أميل من الاعتقاد بأنه هناك ثلاثة بهذا الاسم وليس اثنين فقط، واحدهم هو يعقوب الصغير هذا، ولعله هو يعقوب بن حلفى (أعمال 1: 13). أما بقية قصة يعقوب فقد ذكرها الرسول بولس في 1كورنثوس 15: 7، إذ يذكر إن الرب المقام قد ظهر له، ومن ذلك الوقت صار ملازما للكنيسة مع بقية أخوته (أعنمال1: 14) . وبعد ذلك بدا يعقوب يظهر كأحد الأعمدة في الكنيسة الأولى ، بل انه صار رئيسا لكنيسة أورشليم (أعمال12: 17 ، غلاطية 1: 19، 2: 9و12). وقد وضح ذلك في مجمع أورشليم العام، وخصوصا في القرار التي اتخذته الكنيسة، وكان هو الشخص الذي كان وراء ذلك (أعمال15: 13-21). وبحسب التقسيم الذي حدث في غلاطية2: 9 أضحى الرسول بولس مسئولا عن تقديم الإنجيل للأمم بينما صار بطرس ويعقوب ويوحنا مسئولين عن أهل الختان أو اليهود. ولهذا فكان هو أول من نبه على أن الأمم يجب

أن يطيعوا وصايا هامة في الناموس (أعمال 15: 21)، وكان أول من طلب من الرسول بولس أن يظهر ولاءه للناموس(أعمال 21: 21-22). وإذا كان الرسول بولس يعني إن إخوة الرب والرسل الآخرون كانوا يقومون برحلات تبشيرية عندما يقول “ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل وإخوة الرب وصفا” (1كورنثوس9 :5)، لكننا لا نعرف شيئا عن رحلات يعقوب، بل نعرف انه كان يرسل مبعوثين من قبله إلى إنطاكيا لكي يتأكدوا من أن الأمم لن يسيئوا استخدام حريتهم (غلاطية 2: 12)”. لقد كان يعقوب يمثل الجناح المحافظ ، بينما كان متى وبطرس يمثلون الجناح المتحرر في جماعة اليهود المسيحيين ، ولكن سواء كان هؤلاء أو الرسول بولس فان الاختلاف بينهم جميعا لم يكن على مبدأ بل على الأولويات . فكلهم كانوا يؤمنون ويعملون على إن الإنجيل يقدم للجميع، لليهود والأمم على السواء، وكان يجب أن يكون ذلك بواسطة البقية المخلصة من اليهود ، ولكن الرسول عرف بإعلان من الله “إن القساوة قد حدثت لليهود جزئيا في إسرائيل إلى إن دخل ملؤ الأمم (رومية 11: 55). أما يعقوب فقد استمر في التنبير على الجانب الايجابي للدور اليهودي في عملية الخلاص ، فالرب قد تمم قصده بان أقام خيمة داود الساقطة (عاموس9: 11) وآمن آلاف منهم رغم قساوة الكثيرين وقبلوا يسوع الناصري مسيحا مخلصا هم (أعمال21: 1.).

    ومن هذا كله نستطيع أن نقول إن يعقوب لم يكن رجلا مقفلا على نفسه وعلى يهوديته ولكنه كان رجلا مفتوح العينين على العالم في التنبير القوي على الدور اليهودي في عملية الخلاص.

     أما المصدر الثاني الذي يمدنا ببعض المعلومات عن يعقوب فهو خارج

الكتاب المقدس . وهذا المصدر يجيء من جهات متعددة ؛ منها يوسيفوس المؤرخ اليهودي الروماني الذي يقول إن حنانيا رئيس الكهنة المعين سنة 62م أراد أن يفتتح عهده بعمل يهودي متعصب فقتل يعقوب أخا الرب وكثيرين معه رجما بالحجارة.

     وهناك مصدر أخر استقى منه يوسابيوس المؤرخ المسيحي، هذا المصدر هو شخص يهودي قبل المسيح في القرن الثاني المسيحي اسمه هيجييسبوس Hegggesippus يقول إن يعقوب كان اسمه “يعقوب البار” وكان مقدسا من بطن أمه وكان نذيرا للرب وكان دائم الصلاة في الهيكل حتى إن ركبتيه صارتا كركبتي الجمل من كثرة الركوع والصلاة أن يغفر الله للشعب. هذا الرجل المقدس رفض طلب رؤساء اليهود أن يمنع الناس من إتباع المسيح بل زاد على ذلك أن حث الجميع على قبوله في حياتهم ، فما كان من اليهود إلا قتلوه، وقد تكون هناك بعض المبالغة في التفاصيل ولكن هذا المصدر يتفق في خطوطه العامة مع ما كتبه يوسيفوس المؤرخ اليهودي.

     هذان المصدران يذكران إن يعقوب كان يذهب إلى الهيكل والى المجمع، ويلوح إن بعض المسيحيين والقادة منهم من أصل يهودي كانوا يفعلون ذلك إلى أن أزيل الهيكل سنة 7.م. وبعضهم استمر يذهب إلى المجمع إلى سنة 9.م حيث انفصل المجمعين اليهودي والمسيحي انفصالا تاما أبديا.

     هذا هو الشخص الذي تؤهله حياته ومواقفه بان يكتب مثل هذه الرسالة التي بين أيدينا . . رسالة يعقوب.

الاعتراضات ضد نسبتها إلى يعقوب أخي الرب:

    لكن هناك من العلماء من لا يقبلون نسبة الرسالة إلى يعقوب أخي الرب ويبنون اعتراضاتهم على عدة أسباب نذكر منها ثلاثة فقط وهي أهمها:

     1- يقولون إن أسلوب الرسالة بما فيه من يونانية فصيحة، ومقاطع شعرية وطريقة الأسئلة والأجوبة لا يمكن أن يكتبها شخص عاش طيلة حياته في فلسطين، ولم نعرف عنه انه تثقف بالثقافة اليونانية كيعقوب. إن كاتبها لابد وان يكون مسيحيا هيلينياً كتبها في أواخر القرن الأول. 

     2- إن التردد الكثير الذي رأيناه من الكنيسة في قبول هذه الرسالة يعطي الإحساس بان كاتب الرسالة لم يكن معروفا في الأوساط الكنسية ، ة وهذا لا يمكن أن ننتظره آو نتوقعه لو إن الكنيسة كانت تعرف إن الذي كتب هذه الرسالة هو يعقوب اخو الرب .لو عرف الآباء ذلك لكان موقفهم خلاف ما يظهر تاريخ الرسالة مع الكنيسة.

     3- لو كان يعقوب الرسول اخو الرب هو الذي كتب الرسالة لما تردد في أن يلمس تلك المناقشات التي هزت الكنيسة، هي محاولة بعض المتهودين أن يوقفوا المسيحية إلى حد اليهودية المصلحة، وسببوا متاعب كثيرة في إرسالية الأمم وخصوصا مع الرسول بولس. وكان ليعقوب الرسول نصيبا كبيرا في معالجة هذه المشكلة (أعمال 15). ولكننا لا نرى شيئا من ذلك في الرسالة، لا تصريحا ولا تلميحا، ولا أي إشارة حتى إلى العلاقة بين اليهود والأمم في الكنيسة.

     ومع إن هذه الاعتراضات قوية ويجب ألا نستهين بها ولكنها ليست قاطعة ولا يمكن أن تنفي نفيا قاطعاً أن يعقوب الرسول اخو الرب هو الذي كتبها. فالجو العام لرسالة لا يمكن أن يكون مسيحياً من أصل يهودي، وهناك بعض الإشارات تؤكد إن الذي هو فلسطيني يعرف عادات اليهود هناك . ففي 5: 4 يقول”4هُوَذَا أُجْرَةُ الْفَعَلَةِ الَّذِينَ حَصَدُوا حُقُولَكُمُ الْمَبْخُوسَةُ مِنْكُمْ تَصْرُخُ، وَصِيَاحُ الْحَصَّادِينَ قَدْ دَخَلَ إِلَى أُذْنَيْ رَبِّ الْجُنُودِ(5: 4) لأن  

الذين كانوا يعملون في الحقول في كل العالم من العبيد، ولا يستثنى من هذا الأمر ألا فلسطين حيث كان الفلاحون العاملون في الحقول إجراء وليسوا عبيداً.

     والى جانب ذلك فان الرسالة لا تعكس أي إشارة آو نوعا من القلق الذي ينتج من جو الحروب والثورة مما يدل على إن الكتابة كتبت قبل قيام ثورة اليهود وخراب أورشليم. أما القلق الذي تعكسه فهو قلق الناس في أيام السلام وليس الحرب.

     زد على ذلك ما نجده في 2:2 حيث يذكر لفظ المجمع، فان هذا اللفظ يناسب تماما الأجيال الأولى للكنيسة في اليهودية عن اليهودية تماما ألا في سنة 9.م كما سبق القول.

    ولهذه الأسباب يقول جزء كبير من العلماء انه إذ لم يكن الرسول يعقوب قد كتبها بنفسه فان واحدا من تلاميذه المخلصين قد جمع جزءا كبيرا من مواعظه ووضعها كما تظهر في الرسالة. فالمادة التي في الرسالة هي التي خرجت من فم يعقوب ولكن كتبها شخص أخر بأسلوب يوناني جميل.

بعض مميز الرسالة:

     هناك بعض الخواص التي تجعل من هذا الكتاب نوعا فريدا بين كتب العهد الجديد وخصوصا الرسائل:

1- هذه الرسالة هي في حقيقتها ليست رسالة بل موعظة آو مجموعة من المواعظ. نجد افتتاحيتها تشابه افتتاحية الرسائل، ولكن في باقي الكتاب لا نجد أي إشارة تدل على إنها رسالة. إنها موعظة آو مواعظ ألقيت لسامعين

ربما كانوا مسيحيين من أصل يهودي، وربما كانوا مسيحيين من كل الأجناس . وأسلوبها من النوع التطبيقي الوعظي. ففيها حوالي 6. فعل أمر في مجموع أعدادها الـ 1.8 عددا. وهذا يدل على إن عقلية الكاتب كانت عملية تركز على الأخلاق والسلوك المسيحي دون أن يضع لها أساسا من العقيدة آو اللاهوت، كما كان يفعل الرسول بولس مثلا. أما فقراته القصيرة من الحث والدعوة فلا ترتبط رباطا منطقيا ، أي إن الفكرة تبنى على فكرة سابقة آو ترتبط بها ارتباطا سببيا، ولكنها ترتبط على أساس كلمة معينة قيلت فتقترح لفظا أخر يشابهها آو يناقضه، إن الرباط يعتمد على اللفظ وليس الفكرة آو المعنى، وهذه طريقة الدارسين والربيين اليهود في أورشليم، مما كان يسهل عليه حفظ الأمور في الذاكرة.

     2- ترتبط هذه الرسالة (نسميها رسالة تجاوزا) بالعهد القديم ارتباطا لفظيا ومعنويا. ويظهر ذلك إذا درسنا الكتاب المقدس بالشواهد. ومن دراستها يتضح أن الكاتب يعرف أسفار الحكمة معرفة كبيرة سواء أكانت تلك التي نجدها في الكتاب المقدس آو تلك التي تسمى “الأبوكريفا ” . فعندما يقول “… ليكن كل إنسان مسرعا في الاستماع مبطئا في التكلم مبطئا في الغضب” (1: 19)، فانه يعكس قول يشوع بن سيراخ (5 :11) “كن مسرعا في الاستماع ولكن مبطئا في الإجابة ”  .وعندما يتسأل “لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلا ثم يضمحل” (4 :14) فانه يذكرنا بقول احد الكتب الرؤوية المسمى حكمة سليمان “فان حياتنا ستمر كما يمر الغمام وتتناثر كما يتناثر الضباب” (2: 4). فمعرفته بكتب العهد الجديد والابوكريفا معرفة كبيرة.

     3- هناك أمر أخر يميز هذه الرسالة هو إنها فيما عدا الأناجيل الأربعة

تحتوي على اكبر عدد من الأقوال المتشابهة لأقوال السيد نفسه وخاصة الموعظة على الجبل (متى5- 7). ومن ابرز المتوازيات توبيخه للسامعين فقط (1: 22 و25 مع متى 7: 26). وذم الآخرين وانتقادهم وإدانتهم (4: 11 مع متى 7:1-5) والقسم والحنث ” (5: 12 مع متى 5: 34-37). وكلامهم عن الخضوع للعالم (ا:1. ، 2: 5و6 مع متى 6: 9و 24) . والتعليم عن الصلاة (1: 5 مع متى 7 :7). والقلق من اجل الأمور التي يحتاجها الإنسان في العالم، (4: 13 مع متى 6: 34). والإشارة إلى العث والصدأ (5: 2و 3 مع متى 6: 19).

     وهكذا نرى انه تعكس معرفة بأقوال الرب معرفة واسعة وتتضمن الكثير منها.

     هذه هي أهم الخصائص التي تميز رسالة يعقوب والآن لنرى ما هو مضمونها.

محتويات الرسالة:

     رسالة يعقوب تظهر في شكلها الكلي على انه خطاب عام يرسله الكاتب إلى جماعة المسيحيين من كل مجمع يهودي، ويطلق عليه عادة اسم المساكين. وهو يخاطبهم بقوله “يا إخوتي” (1: 2و16 ،12 :1و 5و 14، 3: 1، 4 :11، 5: 7،  9 : 12 و19). ولكنه يخاطب، إلى جانب إخوته هؤلاء، جماعة أخرى، ولعلهم اليهود الذين لم يقبلوا المسيح، ويسميهم الأغنياء (5: 1). هذا التقسيم : بين الأغنياء والمساكين يتمشى مع ما نطق به السيد  في لوقا 6: 2. -26 فالمؤمنون به وأتباعه هم المساكين

أما البعيدون فهم الأغنياء، فمقياس الغنى والمسكنة ليس هو المال والثروة ولكنه الإيمان.

      وفي دراستنا لهذه الرسالة يواجهنا سؤال أساسي بالنسبة لها وهو: كيف يمكن أن نحكم عليها إنها رسالة مسيحية؟ إننا لا نقرا فيها شيئا عن العقائد المسيحية الأساسية الخاصة بالمسيح آو الصليب آو القيامة وغير ذلك، فكيف نحكم على طابعها المسيحي؟ إن ما يميز هذه الرسالة، كرسالة مسيحية، ليس تعاليمها عن يسوع ولكن تعاليم يسوع نفسه فيها كما يختبرها ويعبر عنها الرسول. فهي رسالة تختص بالسلوك لا بالعقيدة. وهذا ما يجعلها تظهر وكأنها احد كتب الحكمة الموجودة في العهد القديم آو كتب اليونانيين الرواقيين. ولكن الحقيقة إنها رسالة مسيحية بنيت على بعض أقوال المسيح الشهيرة، أخذها الكاتب وبنى عليها مجموعة من المواعظ التي تظهر نوعية السلوك المسيحي المجيد. وهذا الأمر يميزها عن كل أسفار العهد الجديد فيما عدا الأناجيل . إنها تحتوي على اكبر كمية من تعاليم المسيح ، أكثر من كل رسائل بولس مجتمعة معا ..

وبهذه الكيفية يمكن أن نعتبرها كتاب تفسير لكلمات السيد.نعم انه لا يقتبس كلمات السيد حرفيا، ولا يقدمها بالقول “هكذا قال الرب” ، ولكنه يكتب عنها ويشير إليها على إنها بديهيات يعرفها القارئ مسبقاً. مع انه لا يتبع أسلوبا آو ترتيباً خاصاً في معاملات كلمات المسيح ألا إننا نثق إن هذه الكلمات هي المركز الأساسي التي تدور حوله هذه الرسالة.

     ولقد اختلف كثير من الدارسين في تقسيم الرسالة نظراً لصعوبة هذا التقسيم ، ألا أن أغلبية الدارسين يرون فيها أربع مواعظ يتخذ الكاتب لكل موعظة منها احد أقوال السيد المسيح أساسا. ولأجل ذلك فسوف نتبع هذا التقسيم.

الموعظة الأولى: التجربة: (1: 2-18)

     يتخذ الرسول أساسا لهذه العظة قول السيد في الصلاة الربانية “ولا تدخلنا في تجربة” (متى6: 13).

     ينظر الكاتب – وهو المفسر الذي يهتم بالحياة والسلوك أكثر من اهتمامه باللاهوت والعقيدة – إلى موضوع التجربة من زاويتين مختلفتين فيظهر كأنه يتناقض مع نفسه. ففي الجزء الثاني أي ع13- 19 يظهر كأنه يتناقض مع ما قاله في الجزء الأول أي 2 -12. فإذا تكلم في هذا الجزء الأخير عن منافع التجربة فانه يتكلم في الجزء الثاني (13 -19) عن مضار التجربة. كل هذا لا يبني لاهوتا بل يبني اتجاهات الحياة. في الجزء الأول (2- 12) يبين الكاتب على أن المسيحي لا يعفى من الآلام والضيقات التي تجرى على الناس: مؤمنين وغير مؤمنين. ولكن المسيحي المؤمن يختلف عن الآخرين من غير المؤمنين في أمر أساسي واحد: هو انه يرى الله واقفاً إلى جانبه يقويه لكي ينتصر ويتزكى. فتكون تجربته – بهذه الكيفية – عاملا على تقوية إيمانه وحياته ، وهنا يولّد الإيمان فيه صبراً وثباتاً يجعله رجلاً حكيما كاملاً في المسيح ومواظباً على الصلاة.

     وفي هذا الجزء يحدد الكاتب على أن التجربة هي “الظلم الذي يجريه الأغنياء على الفقراء” (1: 9-11 انظر2:6). ويضع في إطار هذا التحديد بعضا من المفاهيم التي سوف يفصلها في الإصحاحات التالية: أنه يذكر الصبر (1: 3و4)، والعمل (3و 4)، الكامل (ع4 مرتين). يعوز (4 و 5)، يطلب (5و 6)، إيمان (3-6)، مرتاب (ع6 مرتين). وعندما يختتم هذا الجزء فانه يرجع إلى تلك العبارة التي بد ء بها مع

زيادة التطوبية فيقول ” طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه” (ع12 انظرع2 و 3).

     أما الجزء الثاني في هذه العظة الذي يلوح انه يتناقض مع ما سبق فهو يحدد مضار التجربة _13 -18). ويبدأ الرسول هذا الجزء بجواب بسؤال يتطلبه المعنى الذي يحتويه الجزء الأول من العظة، هذا السؤال يمكن وضعه بهذه الكيفية إذا كانت التجربة نافعة فهي إذا من عمل الله. ولكن، خلافا لكل توقع – يجيب الرسول على السؤال بالنفي . كلا “إن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب احدً” (ع13). ولكن كيف؟ يجيب الرسول بقوله: إن امتحان الإيمان قد لا ينتج صبراً وتحملاً ونضوجاً في الأول.لكن قد يقود إلى الخطية ، وبهذه الكيفية لا يمكن إن تكون التجربة من عمل الله ، بل تنبع من نبع ردئ هو نفوسنا. وعندما تنبع من هنا حينئذ يختلف مسارها اختلافا كلياً بل ومتناقضا مع المسار الأول  .فأساس التجربة هنا يكون الرغبة الشريرة آو الشهوة في قلب الإنسان (ع14). هذه الشهوة تلد الخطية ، ومتى كملت الخطية تنتج موتا (ع15). هذا يختلف مع مسار المؤمن الذي يبدأ بالله نفسه الذي يقول عنه الرسول “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ. شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ (ع17و 18) .

     فالتجربة إذن تصبح حقيقة، وحقيقة مرة، إذا انحرفت بها شهوة قلوبنا، وتغلبت على القصد الصالح منها، وبذلك تهزمنا وتقودنا إلى الخطية والموت. ليس هكذا كما يفعل الله.

الموعظة الثانية : ناموس المحبة ( يعقوب 1: 19 – 2 :26 )

       آية العظة ( تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نسك ومن كل فكرك . هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها . تحب قريبك كنفسك بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء ( متى 22: 37 – 4. )

     يثير الإصحاح الثاني من هذه الرسالة مناقشات كثيرة نسبة لاختلاف الرأي في صلة الأيمان والأعمال . لكن هذه المناقشات نتجت أصلا من  عدم إدراك  ما يقصده الرسول من هذه المفاهيم :” العمل , الكلمة , الناموس” وصلتها بعضها بالبعض .” فالكلمة ”  أو ” كلمة الحق ” التي ترد في 1: 18 التي يصبح بها الإنسان ابناً لله، هي نفسها التي يسميها (( الكلمة المغروسة )) التي تخلص الإنسان وتؤكد له خلاصه (1 : 21) ،نفسها التي يحب أن يعملها الإنسان ولا ينساها حتى يكون مغبوطاً في عمله (1: 25)،وهى نفسها الناموس الكامل .. ناموس الحرية (1 : 25 ، 2 : 12 ) أ الناموس المكوكي ( 2 : 8 ) . وهنا تتضح الصلة الحقيقية بين هذه المفاهيم :فالناموس الكامل الملوكي .. ناموس الحرية هو الكلمة التي يحب أن يعملها الإنسان. وبهذا المعنى هو يختلف عن الناموس اليهودي ، أو الناموس بالمعنى اليهودي الذي يعتبره المسيحيون ناموس العبودية لأن نيره ثقيل. انه الناموس الملوكي. الذي يهب العاملين الملكوت الذي وعد به الله الذين يحبونه (2 : 5 ).

      وبهذا المعنى يكون العمل الذي يتطلبه الرسول يعقوب هو عمل المحبة. ويعطى أمثلة لذلك : (1 : 27 )” الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى و الأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم ” .

       وكذلك(1: 2 -9) أي عدم المحاباة والتمسح بالغنى ومحاولة إرضاء الغنى على حساب الفقير..

      وكذلك 2 : 14- 16 ((ما المنفعة يا إخوتي أن قال أحد أن له أيمانا ولكن ليس له أعمال هل يقدر الإيمان أن يخلصه ؟

      أن كان أخ أو أخت عريانين ومعتازين من للقوت اليومي , فقال لهما أحدكما امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم يعطهما حاجات الجسد فما المنفعة))؟. ألما تكن أعمال إبراهيم هو محبته الكاملة لله ؟(2:21-24 ) الم تكن أعمال راحاب هي محبتها للقريب )) (2:25)؟       

      فالإيمان المسيحي بحسب يعقوب هو بداءة ،هو سماع كلمة الله الحية ..ناموس الرب الكامل ثم القيام بأعمال المحبة ،وهذا  هو منطوق العهد الجديد كله , أليس هذا ما يقوله الرسول بولس في رومية 1.:8-15؟فيه.قل لأهل تسالونيكي “متذكرين بلا انقطاع عمل أيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائهم” (1 تسالونيكي 1:3) ؟ فالأيمان بدون أعمال هو إيمان ميت (يعقوب 2: 26 )والتسليم الداخلي للرب أن لم يظهر خارجاً ويمتد في أعمال المحبة الظاهرة لا نفع فيه. فبرهان الإيمان هو المحبة العاملة ” فان كنت أتكلم بالسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرن ، وان كانت لي نبوة واعلم جميع الأسرار وكل علم ،وان كان لي كل الإيمان حتى انقل الجبال ولكن ليس لي محبة فلست شيئاً،وان أطعمت كل أموالي وان سلمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا انتفع شيئاً ” (1كورنثوس 13: 1- 3) أن الناموس الذي أتمه هو ناموس المحبة ،الناموس الملوكي، ناموس الحرية . انه ليس الناموس اليهودي الذي قد يأمرني بان أطعم الفقراء والمساكين ولكن تكون هذه أعمال لا ثقيلة

                                           

 روتينية نفعية ، اعملها لكي انتفع شيئاً لنفسي ، أما ما يريدني السيد المسيح والرسول بولس والرسول يعقوب أن اعمله لأظهر إيماني وأتمه هو أن ” أحب الرب الهي .. وأخي كنفسي . هذه هي المسيحية – الديانة الطاهرة النقية .. ناموس المحبة.

الموعظة الثالثة:الكلام الشرير (يعقوب 3: 1، 4: 12)

       آية العظة ” ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان (متى 15: 11).

       هل يعتبر الكلام السابق لغزاً؟ أذن فتفسيره هكذا ” أن كل ما يدخل الفم يمضى إلى الجوف ويندفع إلى المخرج وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر وذلك ينجس الإنسان لان من القلب تخرج أفكار شريرة ،قتل، زنى ، فسق، سرقة ، شهادة زور،تجديف، هذه هي التي تنجس الإنسان ” (متى 15: 17- 2.).

      هذا ما يريد أن يضعه الرسول يعقوب أمام سامعيه الذين يريدون أن يأخذوا القيادة ليصبحوا معلمين للناس ، فمطلبهم هذا ليس سهلاً ولكنه مسئولية ، أنها مسئولية هائلة نظراً لما قد يحدث منهم ولهم (3: 1)،إنهم قد يؤدون خدمة عظيمة للخير والصلاح للمتعلمين وقد ينحرفون في كلامهم فيفسدون كل شيء ، ويضعون عثرة هائلة للناس ..إن عملهم هو الكلام ولكنه عمل خطير ..ولسانهم قد ينقذ السفينة ويقودها إلى الأمان كما تفعل الدفة ، وقد تحولها إلى الصخور حيث تلقى حتفها ..فما اخطر اللسان.

ولكن اللسان، إن اللسان، الذي يعبر عن الإنسان كله، قد تتصارع في مظاهر الخير والشر، فتخرج منه الصلاة والبركة وتعقبها اللعنة في معاملته

                                           

 مع الناس، كأنه ينبوع تخرج منه مياه نظيفة تروى الظمأ ثم ينقلب فيلفظ مياهاً قذرة فيها الموت، فهل يليق بمن هم لله ؟ هل يليق بالتينة أن تصنع زيوتاً أو الكرامة أن تصنع تيناً ؟ (3: 8- 12).

      أذن فهناك حكمتان يظهرهما المعلمون..هناك الحكمة الوديعة وهى حكمة سماوية ، هي طاهرة ثم مسالمة مترفقة مذعنة مملوءة رحمة وأعمالا صالحة عديمة الريب والرياء. تجعل صاحبها يزرع البر والسلام. ثم هناك الحكمة الأرضية التي تنبع من الإنسان نفسه لا صلة لها بالسماء بل بالشيطان، وثمارها غيرة مرة وتحزب في القلب وكذب على الحق.. أنها تجعل صاحبها يزرع التشويش وكل أمر رديء (3: 13- 18).

      وهنا يلقى الرسول يعقوب نظرة عامة على المجتمعات اليهودية كلها. .بمن فيها من أتباع موسى ومن تلاميذ السيد المسيح ويحذرهم بكل شدة على ما يبدر منهم من خصومات وشقاق ، يتشاتمون ويحاربون ويريدون أن يمتلكوا ولكنهم لا يملكون ..إن هذا المجتمع الذي ينهش بعضه البعض هو ذات المجتمع الذي كلمه الرب يسوع..مجتمع الكبرياء ومحبة العالم ، مجتمع الحسد والتظاهر مجتمع المرائين الذي يحتاج إلى تنقية اليد والقلب معاً(4: 1- 1. انظر مرقس7: 7- 23).

الموعظة الرابعة:الصبر (4: 13-5: 2.)

      الآية (مرقس 13: 13)  ” ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” .

                                           

 

       غالباً كانت هذه الآية،التي قيلت في إطار الخطاب الرؤى أو الاسخاتولوجي المذكور في مرقس 13 وما يقابله ، في عقل الرسول وأمام ناظريه عندما كتب أو وعظ هذه العظة الأخيرة ، لأنه يقول في عظته ” فتأنوا أيها الإخوة إلى مجيء الرب ” (5: 7) .لقد رجع مرة أخرى إلى الوصية الأولى التي بدأ بها عظاته إذ قال ” طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة .لأنه إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد به الرب الذين يحبونه ” (1: 12). ولكن يقدم هنا هذه النصيحة مع مثال مشهور هو أيوب الذي احتمل المشقات كواحد من الأنبياء المشهورين الذين تأنوا وصبروا ، ولأجل ذلك كافأهم الرب بعاقبة مجيدة ..لأن الرب كثير الرحمة ورءوف.

       وفى هذه العظة يبرز الرسول الموقف الذي فيه يجبان يظهر صبر الإخوة وهو الموقف الاجتماعي، وخاصة الناحية الاقتصادية فيه.فالصبر ضروريا للإخوة نظراً للظلم الاقتصادي الذي يقع على الإخوة.(5: 7-2.).

فالأغنياء يظلمون الإخوة ولذلك فهو يخاطب الاثنين:

       انه يخاطب الأغنياء الظالمين (4: 13-5: 6) فيوجه إليهم اقسي الكلمات لأنهم ظلموا الإخوة الذين عملوا معهم في الحقول ولكنهم لم يعطوهم أجرتهم (5: 4- 6)، وهناك من المفسرين من يعتبرون أن هذا الظلم هو ظلم ديني أكثر منه ظلم اجتماعي. وان الفعلة ليسوا هم فعلة حقول القمح الفعلية بقدر ما هم فعلة الإنجيل كما قال سيدنا ” الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده ”  (متى9: 37). وقال في موضع أخر ” لان الفاعل مستحق أجرته ” (لوقا 1.: 7).وهذا الفاعل هو في الحقيقة المرسل الذي يحمل كلمة الإنجيل إلى الناس (انظر 1 تيموثاوس 5: 18). إذا كان الأمر كذلك فيكون الهدف الذي يقصده

                                  

      الرسول بهذه الكلمات القاسية هم اليهود ” الأغنياء ” البعيدين عن الله الذين حمل إليهم هؤلاء الفعلة ” المسيحيون ” كلمة الإنجيل, ولكنهم قابلوهم بالرفض والمعاملة القاسية ( انظر متى 1.: 13 – 31 ) . ولكن إذ يضطهدونهم فأنهم يضطهدون البار نفسه ( يسوع ) الذي يتكلم فيهم ( 5: 6 أنظر أعمال 9: 4 ’ 25 )

     ثم يتكلم إلى الأخوة (  5 : 7 – 2. ) . ويخاطبهم كفلاحين . والفلاح ينتظر الثمر متأنياً إلىوالمتأخر,ر المبكر والمتأخر , وهكذا هم فليتأنوا إلى مجيء الرب وهو قد اقترب ( 7 – 9 ) . وليكن صبرهم مملوءا بالرجاء وعدم الأنين ( 9 ). إن صبرهم هو صبر المصلين, الذين إن واجهوا المرض أو الاضطهاد فليكن لهم الرجاء الكامل في إلههم, الذي يتحكم في العالم ويساند شعبه. ألم يفعل ذلك مع إيليا الوحيد أمام الملك وقواته ؟ لقد أجابه الرب إلى طلبه في منع المطر ثم إرساله مرة أخرى ( 17 و 18 ) , وهكذا سيأتي المطر  الاسخاتولوجي بمجيء الرب (7 و 8 ) . ولهذا فلير نموا بدلا من الأنين ويفرحوا بدلا من الانكسار (9 , 12, 13 ) .. إ أغنياء الشتات لا يمكن أن يهزموا فقراء الإخوة ،فلا يأس ولا خوف , بل بالمحبة يجب أن يخدموا بعضهم البعض وبالأكثر أن يحاولوا منع من يضل من الهلاك بل يردونه عن ضلاله لكي ينقذوا نفسه من الموت وهذه هي الخدمة المجيدة للرب . (19 -2. )                      

                  رسالة بطرس الأولى: “الكهنوت الملوكي “

      رسالة يعقوب تتكلم عن الناموس الملوكي و تنبر علية، الاهتمام الأول لرسالة بطرس الأولى فهو الكهنوت الملوكي، وهو الموضوع الذي اتخذه الكاتب أساساً لرسالته. هذه الرسالة هي الموضوع الذي اتخذه الكاتب أسالته. هذه الرسالة هي إحدى رسالتين تنسبا ن إلى الرسول بطرس، ومع أنه كان تلميذاٍٍ ورسولا له الأولوية بين التلاميذ ألا أن رسالتيه

صغيرتان بين كتب العهد الجديد ،وليس ذلك فقط بل أن العلماء يندهشون عندما لا يقرءون فيهما شيئاً عن حياة وعمل السيد ،الذي قضى معه الكاتب سنوات في شركة تلمذه مما حدا بكثير ين منهم أن ينكروا نسبة هاتين الرسالتين إليه .. ومع ذلك فالرسالة الأولى مع صغر حجمها فهي عظيمة الأهمية ، لأنها تتكلم إلى كل العصور ، ولكل المؤمنين ، وتحثهم على أن يعيشوا الله في وسط عالم يعيش بعيداً عن الله .

تاريخ الرسالة :

      رسالة بطرس الرسول الأولى له تاريخ طويل وراءها في الكنيسة، ولكننا سنجمله هنا في الأمور التالية:

      (أ) رأى كثير من العلماء أن هناك تشابهاً بين هذه الرسالة ورسالة أكليمندس الروماني كورنثوس .ويعتقدون أن أكليمندس قد اقتبس منها ،ومع ذلك فهو لا يذكر أنه يقتبس ، ولا يذكر اسم كتاب يقتبس منه

     (ب) بدأ الآباء يقتبسون منها – وهذه أمر مؤكد- منذ عصر إيناوس ،وكانوا يذكرون أنهم يقتبسون من رسالة الرسول بطرس . ولعل أسماء مشهورة كترتليان وأكليمندس الأسكندرى وثاوفيلس الأنطاكي كافية على أنها تعطى شهادة قوة لصحة نسبة هذه الرسالة .

     (ج) ومع ذلك فإننا نقابل شهادة نفى قوية وذلك في قائمة الموراتوري من الكنسية الغربية ، فالرسالة غير موجودة في هذه الوثيقة الهامة ، ولكن الرد على ذلك هو أن هذه القائمة لا تحتوى على الرسالة الثانية ولا الرسالة إلى العبرانيين ولا رسالة يعقوب . ويلوح أن هذه القائمة قد تهرأت فلم تظهر فيها هذه الرسائل .

       من هذه الأمور نستطيع أن نستنتج أن شهادة التاريخ الكنسي يرجح نسبة إلى بطرس.. وهذا تقليد قوى

مؤلف الرسالة :

      عرفنا سابقاً أن كثيراً من علماء العصر الحديث ينكرون نسبة هذه الرسالة إلى بطرس ، رغم قوة شهادة التقليد الكنسي الذي يدعم العكس ، ورغم المقدمة التي تعلن ذلك بكل وضوح (1بطرس 1 :1 ) . ويوردون البراهين التالية على إنكارهم هذا.

( أ ) لغة الرسالة وأسلوبها :

      تشهد لغة هذه الرسالة وأسلوبها على أن كاتبها كان رجلا ضليعاً في اللغة اليونانية بحيث يكتبها مثل أي واحد من أبنائها. وهناك تشابه كبير بينها وبين الترجمة السبعينية، مما يدل على أن الكاتب قد تأثر بها في صياغة العبارات والجمل، واقتبس منها اقتباساً مباشراً. وإلى جانب ذلك فانه يتميز بغزارة مفرداته وسهولة تعبيره وصحة لغته من حيث القواعد والتراكيب ، حتى أن أسلوبه اعتبر أكثر سهولة ويسراً من أسلوب الرسول بولس نفسه.

      هذا الأسلوب ألا يمكن أن يصدر عن شخص جليلي كبطرس عرف عنه عامي  (أعمال 4: 13 ) ويشهد عنه التقليد الكنسي الذي يسجله يوسابيوس أنه كان يحتاج إلى مترجم في أحاديثه وقد كان مرقس يقوم بهذه المهمة .

      على أن هذا الاعتراض ليس قاطعاً ويمكن الرد عليه . فالرسالة نفسها تشهد بأن الرسول قد استعان بسلوانس الأخ الأمين ( 5 :12 ) ولعله هو نفسه ” سيلا ” رفيق الرسول بولس الذي كان ضليعاً في اللغة اليونانية .                                                          

( ب) الصعوبة التاريخية:

      وفى الحقيقة ليست هي صعوبة واحدة بل هناك عدة صعوبات نقتصر منها على أهم اثنين : الأولى تختص بالاضطهادات التي يشير أليها الكاتب ، ولا شك أن المكتوب إليهم كانوا يجوزون في أتغاب كثيرة ومريرة : (1: 6، 12و 15، 4: 12و 14-16 ،5 :8و 9 ). وهذه نتيجة للاضطهادات التي كانت تقع عليهم لأنهم مسيحيون ، وهو يصفها مرة بأنها بلوى محرقة (4: 12) ونستخلص من الرسالة أن المسيحية كلها كانت تجوز في هذه البلوى (5: 9)، ولا يمكن أن يكون ذلك ألا إذا كان الاضطهاد اضطهاداً رسمياً بمعنى أن الإمبراطورية أو أجزاء منها كانت ضالعة فيه رسمياً . وتاريخ المسيحية يذكر أن هذه الاضطهادات الرسمية المبكرة كانت في عهد نيرون (65م) ودوميتيان (81-96م) وتراجان (98-117م). فهل هذا الذي تصفه الرسالة يشير إلى واحد من هذه؟.

      انه لم يكن في عهد نيرون ، وهذا أمر مقطوع به ، لان اضطهاد هذا الطاغية لم يتعد روما ، في حين أن هذه الرسالة كتبت إلى ” المتغربين من شتات بنتس وغلاطية وكبدوكية وآسيا وبيثينية”  (1:1) ,فالاضطهاد المقصود هنا إذا كان حقاّّ اضطهاداّّ- كان أوسع مدى من الاضطهاد الذي شنه نيرون ولهذا فلا بد وان الرسالة كانت تقصد اضطهاد متأخرا عن عهد نيرون الذي فيه قتل بطرس الرسول نفسه  ,وهذا يدل على انه لم يكتب هذه الرسالة

      ولكن هذا الاعتراض التاريخي ليس له ما يسنده في الرسالة نفسها .فالمسيحيون يتألمون ويحوزون في تعبيرات وأتعاب من اجل أنهم كذلك منذ أيامها الأولى (أعمال 4: 2 و 17.. الخ ). في حين أنه لا يوجد في الرسالة على أهذا الألم نتيجة اضطهاد رسمي منظم . والبلوى المحرقة قد تكون

 

إحدى الحوادث الفردية التي منى بها المسيحيون في مكان ما نتيجة لكراهية الناس لهم ، إذ لم يعودوا يشاركونهم  في أعيادتهم الوثنية وعاداتهم القبيحة ، فاعتبروهم لذلك مصدرا لعدم الراحة و القلق .

      أما الصعوبة الثانية في المجال التاريخي فتتعلق بصلة الرسول بطرس بهذه الكنائس التي وجهت إليها هذه الرسالة. فالرسول لم يكن له أية علاقة بها ، فهي كنائس نشأت  وقويت بفعل تبشير الرسول بولس ومجهوده ، فكيف يكتب إليهم الرسول بطرس ؟ وهذا أيضاً اعتراض ضعيف ولا يمكن أن يكون قاطعاً . لأنه ليس بمستبعد أن يكتب الرسول إليهم معزياً وخاصة بعد إن فقدوا رسولهم العظيم بولس ، وإذا لم يفعل بطرس الرسول ذلك فمن ذا الذي يفعل وهو الشخصية المرموقة المعروفة في كنيسة كلها ؟

(جـ) الصعوبة العقائدية:

      ويتلخص هذا الاعتراض في أن هذه الرسالة تعكس جزءاً كبيراً من أفكار ولاهوت الرسول بولس .فهناك  ، مثلاً ، تشابه بين افتتاحيتها وافتتاحية الرسالة إلى أهل أفسس. وهناك الأهمية الخاصة التي للصليب ى هذه الرسالة التي يستخدمها الرسول بولس مثل تشبيه الكنيسة بالبناء وتسميتها ” بأهل بيت الله ” . وغير ذلك مما يجعل الدارس يشك في أن الرسول بطرس هو الذي كتبها . لكن واحداً من تلاميذ الرسول بولس كان يعكس تفكير مدرسة معلمه العظيم.

      ولكن هناك من الشواهد التي تقف ضد هذا الاتجاه ، منها إن هناك أفكاراً هامة جداً وأساسية عند الرسول بولس لم تظهر في هذه الرسالة ،    

 ويعتبر عدم ظهورها مستغرباً جداً لو كان كاتبها أحد تلاميذ مدرسة الرسول بولس مثل التبرير بالإيمان ، الحرية من الناموس ، الحياة في الروح . ومنها أيضاً ظهور أفكار في هذه الرسالة لم يشر إليها الرسول بولس بالمرة مثل طاعة العهد ، الكنيسة ككهنوت ملوكي ، تبشير المسيح للأرواح التي في السجن ، وغير ذلك.

      أما وجود بعض التشابه فهو أمر لاستغرب خاصة وان الرسول بطرس قد استعان بمرقس وسلوانس رفيق الرسول بولس. ومع ذلك فإن طابع هذه الرسالة يدل على عقل خلاق ومفكر أصيل مثل الرسول بطرس.

      هذا كله يرجح الرأي التقليدي الذي يؤكد أن الرسول بطرس هو الذي كتب هذه الرسالة.

تاريخ كتابة الرسالة:

      يتوقف تحديد تاريخ كتابة الرسالة على تحديد الاضطهاد الذي يجرى وصفه في الرسالة، كما سبق ذكره. هناك بعض الشواهد تظهر في الرسالة تؤيد تاريخها المبكر دون أن ترتبط بأي تاريخ للاضطهادات ، ومنها النظام الكنسي الذي تظهره الرسالة . فأي قارئ لا يستطيع أن يلمح أي تطور متسع في التنظيم الكنسي أو في وظائفها مثلما ظهر في أواخر القرن الأول ، بل كان التنظيم بسيطاً يتفق مع التاريخ المقترح للرسالة أي حوالي 6.م.

      ولكن الرسالة تعكس صدى حادث ضخم جعل المسيحيون يهربون هنا وهناك ، فيسميهم الرسول ” المتغربين من شتات بنتس وغلاطية.. (1:1).ويعتقد بعض العلماء أن هذا الحادث هو قتل يعقوب أخي الرب بيد اليهود، وهو أمر حدث قبل خراب الهيكل سنة7. م ، أي انه يقارب الوقت التي كتبت فيه هذه الرسالة بحسب الرأي السابق.

      وهناك شاهد ثالث يدل على أن التاريخ الذي كتبت فيه الرسالة كان مبكراً وهو موقف الرسول من الدولة إذ يقول” فاخضعوا لكل ترتيب بشرى من اجل الرب أن كان للملك فكمن هو فرق الكل أو للولاة فكمرسلين الموقف كان مقبولاً لكل الكنيسة والرسل إلى سنة 64م حتى بدأ نيرون اضطهاده المرير.

      وعلى هذا فيمكننا أن نرجح التاريخ المبكر للرسالة، أي في أوائل الستينات الميلادية.

مكان الرسالة:

      يقول الرسول” تسلم عليكم التي في بابل المختارة معكم ” (5: 13). ولعله بهذا يكشف انه يكتب لهم من بابل، والتي تسلم عليهم هي الكنيسة هناك. فأي بابل يقصد؟ ليست بابل الحرفية ، أي تلك التي تقع فيما بين النهرين ، لأننا لم نسمع عن أي تقليد يؤكد أو حتى يشير إلى أن الرسول بطرس ذهب إلى هناك . وقد قيل انه يقصد مكاناً في مصر اسمه بابليون، ولكن كنيسة الإسكندرية لم تشر بتاتاً إلى هذا الأمر، ولم تظهر فيها أية إشارة على أن الرسول بطرس قد زارها أو سكن هناك، وهذا حدث لا يمكن أن نسكت عليه أو نخفيه.

      إن الغالبية العظمى من العلماء توافق على أن الرسول كتبها من روما ، أما اسم بابل فقد كان اسماً شائعاً عنها بين المسيحيين ، كما يظهر ذلك في سفر الرؤيا (ص17) ويلوح انه أطلق عليها كرمز أما لان الكاتب أراد أن يتجنب أي زيادة ى توتر الناس وإثارتهم ضد المسيحيين ، أي من قبيل

                                                     

      الأمان واتقاء ثورة الشعب أو الدولة ، أو لأن بابل هي رمز السبي والتغرب ،والرسول يكتب إلى المتغربين وشتات بنتس وغلاطية (1 : 1) .وهناك تقليد قوى عن استشهاد الرسول بطرس يؤكد أنه حدث في هذه المدينة ، ولعه بق هناك إلى أن استشهد بعد انفجار الاضطهاد ضد الكنيسة في أيام نيرون الطاغية وسط الستينات.

مضمون الرسالة :

      يعتبر الرسول بطرس ، بحسب التقسيم التبشيري في العهد الجديد ، رسول الختان ، بينما كان الرسول بولس رسول الأمم (غلاطية 2 : 8 ) . ومع ذلك فالرسول بطرس يوجه رسالته إلى وليس إلى اليهود (1 : 1) ،وهذا الأمر يعطيها أهمية خاصة  . ومن أبرز الميزات التي تتميز بها هو أن الرسول يضع الأمم فيها في الخط القديم، أي أنه يصفهم على أنهم قد صاروا من ضمن شعب الله الجديد، الذي لم ينفصل عن تدبير الله وعهوده و مواعيده التي أعطاها لشعبه قديماً. لقد أدخلوا في تلك الحظيرة لينعموا بكل ما فيها من امتيازات . وعلى هذا فقد أصبحوا جزءا لا يتجزأ من إسرائيل الجديد بكل عهوده وكهنوته ودعوته . وهكذا نرى الكنيسة ،في هذه الرسالة ، في هذه الصورة الجديد ، صورة إسرائيل الجديد ،بكيفية لم يظهر مثيل لها في أ سفر من أسفار العد الجديد في عمقها ووضوحها . هذه الصورة التي سنتتبع خطوطها ومعالمها في الصفحات التالية:

1- شعب في الشتات :

      يبدأ الرسول بطرس رسالته بنفس المقدمة التي تظهر في رسالة يعقوب، إذ يكتب كلاهما إلى شعب الله الذي في الشتات، ولكن مع فارق واحد هام: وهو أن الرسول يعقوب يكتب إلى المؤمنتين الذين من أصل يهودي

                                           

في كل العالم (يعقوب 1: 1) بينما يقصد الرسول بطرس المؤمنين الذين من أصل أممي في مناطق محدودة ” بنتس وغلاطية وكبدوكية وآسيا وبثينية ” (1: 1) ، جاءوا وافتدوا من عبادة الأوثان (4: 3و4) ، الأمر الذي لا يمكن أن يقال لليهودي. هذه الحقيقة تكشف على أن الرسول بطرس يستخدم كلمة ” الشتات ” لأفي معناها الحرفي ، بل في معنى مجازى ، أخذها الرسول بطرس في العهد القديم وأطلقها على فوضى العهد الجديد من أعضاء الكنائس الأممية التي يكتب إليها . ولأنهم في الشتات فهم إذن غرباء عن هذا العالم الذي يعيشون فيه (2: 11) ، ومسكنهم الحقيقي ليس أورشليم ولا هيكلها ولكن السماء ، وفى هذا المقام يقدم الرسول على تسمية الشتات الجديد بلقب لم يطلق عليهم من قبل ، أخذه من العهد القديم إذ يقول ”  وأما انتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء… وأما الآن فأنتم شعب الله ”  (2:9و1. أنظر خروج 19: 6). وإذا كانوا غرباء فلأنهم ينتظرون ميراثاً لا كالميراث الأرضي الذي انتظره إسرائيل في القديم ولكنه ” ميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السموات لا جلكم ”  (1: 4) وهذا الميراث سوف ينالونه بعد أن يذوقوا خلاصاًً سماويا ” مستعد أن يعلن ى الزمان الأخير . .عند يسوع المسيح ” (2: 5و7). ومع كل غربتهم وما يحيط بهم فيها فإنهم يعيشون في ” نعمة الله الحقيقية التي فيها تقومون ” (5: 12). نعم أنهم شعب الله في شتات العالم غرباء ولكنهم غير متروكين.

2-  شعب الطاعة:

      ماذا يرى رسول يسوع المسيح في هذا الشعب المتغربة في وسط عالم شرير مملوء بالفساد والخلاعة والنجاسة (4: 3 – 5)، عالم مغاير عدو

                                                              

لا يستريح بأن يرى المؤمنين في سلام، بل يجدفون ويشتمون سيرتهم الصالحة (3: 16، 4: 14 ) ؟ إن الرسول يرى فيه جماعة قد دخلوا مع الله في عهد هو الطاعة ، فهو يخاطبهم على أنهم المختارون ” بمقتضى علم الله الآب السابق في تقديس الروح للطلعة ورش دم يسوع المسيح ” . .  (1 : 2 ) هذه النظرة تبنى على ما حدث في العهد القديم في البرية ( خروج 24 ) عندما جاء موسى إلى الشعب بكلمة الله ووصيته ، فقال الشعب له كل ما أمر به الرب نفعله ونطيعه (ع 7 ) ، وعند ئد ذبحوا ثيران ، وأخذ موسى الدم في طسوت ورش على المذبح ثم رش النصف الباقي منه على الشعب لكي يقدسهم ، وقال لهم ” هو ذا دم العهد الذي عمله الرب معكم بحسب كل هذه الكلمات . . (ع 6 و 8 ). هذا ما فكر فيه الرسول بطرس، وهذا ما رأى أن الله أيضاً قد عمله في العهد الجديد مع شعب إسرائيل الجديد. ولكن ليس بدم ثيران وتيوس ولكن بدم ثمين كما من حمل بلا عيب دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم (1بطرس 1: 19 ). ولأجل ذلك . فكما قال الشعب العهد القديم، وهكذا قال شعب العهد الجديد إنهم يطيعون كل ما قاله الرب: فهم ” أولاد الطاعة ” ( 1: 14 ). هذه الطاعة هي التي تطهرهم كما يقول لهم ” طهروا أنفسكم في الطاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء فأحبوا بغضكم بغضاً من قلب طاهر بشدة ”  (1 : 22 ) كان في عقل الرسول أيضاً عندما يقول ذلك : اختيار يجوز فيه مؤمنو العهد الجديد وهو المعمودية ، ففيها قد دخلوا مع الله في عهد الطاعة . فالمعمودية في حقيقتها ، لا لإزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح ( 3 : 21 ) . ففي هذه الاختبار يعترف المؤمن أن يسوع المسيح الذي قام من بين الأموات هو الرب الذي يخضع له في طاعة كاملة لا يشوبها أي نوع من الرجوع إلى الوراء ولا العصيان . إنها الرد الحقيقي على كلمة الله

                                           

 التي تثبت إلى الأبد . . الكلمة التي بشروا بها (1: 25 ) فأمنوا بقلهم واعترفوا بفمهم وحياتهم بسلطان المسيح عليهم.  وعلى هذا الأساس يقول لهم الرسول ” فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة وكأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا منه. . إن كنتم قد ذقتم أنا لرب صالح )) (2: 1 – 3 ). إن المؤمنين الذين دخلوا مع الرب في عهد الطاعة يجب أن يظهروا هذه الطاعة لكلمة الله. . كلمة الحق التي بشروا بها في وسط العالم الشرير المعادى. 

شعب الكهنوت والهيكل (2 : 1 -3 ) :

       هذا الجزء من الرسالة ينقسم إلى قسمين : القسم الأول لاهوتي ( 2 : 1 – 1. ) والقسم الثاني تطبيق يبنى على الجزاء الأول (2 : 11 -3 : 22 ) .

       1 – في القسم اللاهوتي يستخدم الرسول عدة اصطلاحات هامة يبني عليها لاهوته: منها الخمر – البيت الروحي – الكهنوت المقدس. أما الحجر فإنه يشير به إلى المسيح إذ يقول عنه ” إذ تأتون إليه حجراً مرفوضاً من الناس ولكن مختار من الله كريم ” (2: 4 ) ثم يقول “.. حجر ذاوية مختار كريماً والذي يؤمن به لن يخزى … وأما للذين لا يطيعون فالحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية وحجر صدمة وصخرة عثرة ” (2: 6 8 ). هذه اقتباسات أخذت من القديم : ففي ( إشعياء 8 : 14 ) يصفه أعلى أنه حجر عثرة . على هذا الحجر الحي الكريم الذي رفضه البناءون بني المؤمنون ” كونوا أنيم أيضاً مبنيين كحجارة حية بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً ” (2:5 ). إنهم أيضاً حجارة حية تبنى على أساس المسيح لا بيتاً عادياً ولكن

                                           

 هيكل مقدس فيه تقدم العبادة والذبائح . وعلى هذا فالسيد ، الذي رفضه البناءون ظنوا أنهم يستطيعون أن يبنوا ويحموا هيكل الله هو نفسه قد صار أساس الهيكل الجديد . وفى هذا الهيكل الجديد الذي بنيا يعمل كهنوتا جديدا كهنوت مقدس. وهذا الكهنوت المقدس يقدم ذبائح جديد ليس من حيوانات أرضية ولكنها ” ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح ” ( 2: 5 ). ولكن ما هي هذه لذبائح الروحية ؟ إنه يقول لهم ” لكي تخبروا بفصل من دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب ” (2: 9 ). إذن فالذبائح المسيحية تفهم الآن بمعنى جديد وهو الشهادة لله الذي دعاهم من الوثنية ومن الحياة المنحلة حياة الظلمة إلى القداسة والكرامة والنور في المسيح يسوع. هنا المنعي الحقيقي الذي يستخرجه الرسول بطرس للحياة المسيحية، ولمعنى الصحيح لإظهارها في العالم. .  المعنى الصحيح للقداسة المسيحية، أنها ليست الخروج من العالم والانفصال عنه، أنها ليست لتطهير الطقس الذي كان في العهد القديم. .  إنها الحياة الحقيقية في وسط العالم ، إنها القداسة في الحياة وسط الناس والصراع معهم ، فالكهنوت الحقيقي ليس ذلك الكهنوت الذي يواجه العالم في شهادة الكهنوت الذي ناطقة حية لعمل المسيح ، وللتغيير الذي يحدث في الحياة ، ولهذا يصرح بكل قوة ” وأما أنتهم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء ” (2 : 9 ) هذا ما قاله السيد لشعب العهد القديم (خروج 19 : 5 و 6 ) ” والآن إن سمعهم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب ، فإن لي كل الأرض ، وأنهم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة ” .  فالكهنوت هنا ليس جماعة خاصة من بين شعب ما ، إنهم الشعب كله . .  الشعب الذي يطيع صوتا الله ويحفظ عهده.  . وبذلك يكونون أداة مصالحة للعالم كله .. هؤلاء أيضاً المؤمنون في العهد الجديد إنهم كهنوت ملوكي

                                           

 لكي يحملوا كلمة المصالحة إلى العالم كله لكي يقبل الجميع إلى المسيح كما جاءوا هم واختبروه.

      2 – هذا الهيكل المقدس المبنى على حجر الأساس المسيحي . . هذا الكهنوت الملوكي .  . هذه الأمة المقدسة، تظهر قداسها في موافق عملية ملموسة. ويذكر الرسول منها مجموعة من المواقف في 2 : 13 – 3 : 9 . وهذه الموافق تبنى على الطاعة والخضوع لمن السلطان سواء أكان ذلك في الخارج أو في الداخل. فهناك السلطان للحكومة العامة أو الحكومة المحلية ” فاخضعوا لكل ترتيب بشرى من أجل الرب إن كان للملك فمكمن هو فوق الكل أو للولاة فكمرسلين للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفا على الخير ” (2: 13 و 14 ). والعبيد للسادة، ” أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط بل للعتقاء أيضاً لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزانا متألماً بالظلم ” (2: 18 و 19 ). الزوجات لأزواجهن . ” كذلك أيتها النساء كن خاضعات لرجالكن حتى وإن كان البعض لا يطيعون الكلمة يربحون بسيرة النساء بدون كلمة . .” (3 :1 ) . في هذه جميعها يفهم الرسول بطرس المعنى الحقيقي للطاعة والخضوع المسيحيين: إنهما طاعة وكذلك خضوع في إطار أوسع وأشمل هو الطاعة لله نفسه، فالعبيد مثلا يخضعون لسادتهم سواء أكانوا سادة مسيحيين أو غير مسيحيين من السادة القساة. . ليس لأنهم عبيد لله يخافون الله. . والزوجات لا يخضعن لأزواجهن إلا نهن يطعن الله وبذلك يكون مرسلات من الله لربح هؤلاء الأزواج الذين لم يقبلوا المسيح ويؤمنوا به بعد . وكذلك يفهم الخضوع لكل الترتيب البشرى أي للحكومة ، إنهم يخضعون لهذا الترتيب البشرى لا لأنهم مجبرون في روح العبودية ولكن من

                                                     

 أجل الرب .إنهم مرسلون من الله فالخضوع لهم هو الخضوع لله نفسه . هذا يظهر أن الرسول بطرس يعرف تماماً أن الدولة الرومانية في ذلك الوقت كانت تعمل على حفظ المجتمع البشرى فتنتقم من فاعلي الشر ، وتكافئ فاعل الخير . إن الرسول في هذا الوقف يقول “فاخضعوا ” ولكنه لا يقول “أطيعوا ” .  فالطاعة لا يمكن  أن تكون إلا للرب الذي دخلوا معه في عهد الطاعة ، أما للملك البشرى فله الإكرام والخضوع ، ولكن طالما هو يؤدي الخدمة التي وضعها الله له . ولكن إذا ما حاد الحكام عن الطريق الإلهية ، وإذا ما صارت أوامره تقود إلى ما لا يمجد الله . . عندئذ يقول الرسول بطرس مع سائر الرسل “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس ” (أعمال 5: 29 ). 

4 – شعب الطاعة في البلوى المحرقة :

      الأمر الملاحظ هو أن الرسالة تبدأ من 3:13 في اتجاه آخر تسطير عليه روح التحذير من آلام كثيرة واضطهادات ، ومن يقارن العددين 3: 13 و 14 يجد تغيرا واضحا فهو يقول في 3 : 13 “فمن يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير ” كأنه يقول إن القانون والكلام المعينين من قبل الدولة الرومانية تحميكم إذا كنتم تفعلون الخير . ولكنه عندئذ يقول “ولكن وإن تألمتم من أجل البر فطوبا كم ” (3 : 14 ) فهل كان الرسول يلمح أن هناك شراً يتطاير في الجو ، وأن المؤمنين سوف يتألمون أيضاً ، لا من أجول الشر بل من أجل الخير الذي يعلمون ؟ ومن المفهوم هنا هذا الخير ليس هو مجموعة من الأعمال الطيبة ، ولكنه يتمثل في كون الإنسان مؤمناً ومسحياً. ولكن حتى ولو حدث ذلك فإنه يقول للمسيحي ” وأما خوفهم فلا تخافوه ولا تضطربوا بل قدسوا الرب الإله قلوبكم مستعدين دائماً لمجاوبة كل من

يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف ” (3 :14 و 15 ) . إن كان الاضطهاد أجل البر فالمسيحي الذي قطع عهداً من الله بدم المسيح، عهد الطاعة، فأن يقدس الله بطاعة كاملة رغم كل من يحاول أن يستجوبهم من الناس أو الحكام عن سبب إيمانهم بالمسيح. إن طاعتهم للعهد تعطيهم القوة للوقوف في وجه كل مضايقة (3 : 15 ).

       هذه الشجاعة تأتى من الرجاء في الله، وأن هذه الضيقات والمساءلة ليست هي النهاية في كل شيء.. إن الله نفسه سوف يقف وراء كل عمل، وهو الذي يستطع أن ينهى الأمور لشعبه. فالذين يشتون سيرتهم الصالحة من أجل مسيحيتهم ، والذين يجرونهم إلى المحاكم لا لسبب إلا لأنهم للمسيح ،سوف يقابلون هم أنفسهم تلك المحاكمة الشديدة أمام الديّان العادل الذي لا يخدع بشهود زور كما خدعوا هم كحكام الأرض ، إن لله سوف يحاكهم ويخزيهم (3 : 16 ) . أما أولئك الذين يفتحون عيونهم على ما في المسيحيين من خير وير ، فالله سوف يكافئهم “وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي تكونوا فيما يفترون عليكم كفاعلي شر يمجدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها ” (2 : 12 ).

      وفى هذا الموقف يضع الرسول أمامهم السيد نفسه مثالا لهم : إنه تألم من أجل الخطايا ، تألم البار من أجل الآثمة وبواسطتهم .. أماتوه جسدياً، ولكن الله لم يتركه هكذا بل أقامه أمام الجميع ورفعه وأعطاه اسماً فوق كل اسم (3:18 ). وهكذا كما تألم المسيح بالجسد لنأخذه مثالا لنا (14: 1 ).

      وهنا يذكر الرسول بعض الآيات الغامضة 3: 19 و 2. ) . ويلوح أن الرسول بطرس كان يعتقد – كما كان ذلك موجوداً في اليهودية أن سبب خطية الناس في العهد القديم هو الأرواح الشريرة بانين عقيدتهم      

                                                     

هذه على ما ورد في تكوين 6: 1-4 هؤلاء الذين عصوا ودفعوا الناس إلى العصيان لم يتركهم السيد بل كرز لهم السيد أيضا لعلهم يرجعون (2بطرس2: 4، يهوذا6). ولكن كما خلص نوح وأسرته في وسط الهلاك العظيم هكذا يخلصنا نحن من الضيقات المريرة المظلمة.

      فجأة يقول الرسول: “أيها الأحباء لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة لأجل امتحانكم كأنه أصابكم أمر غريب” (4 :12) فهل يعني هذا إن الرسول وهو يكتب هذه الرسالة وصله أخيرا إن الاضطهاد المرير الذي أحدثه نيرون قد بدأ؟ على كل حال من كل ما يكتبه بعد ذلك نجد أن الاضطهادات لم تكن لأجل مسيحيتهم فقط بل لأنهم في أعمالهم الحسنة يقلقون العالم.. وأن الشيطان يفتح عينيه “كأسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو”  .. ويحثهم على أن “يقاوموه راسخين في الإيمان عالمين إن نفس هذه الآلام تجرى على إخوتكم الذين في العالم” (5: 8و9). هل يمكن أن نقول أن 1: 1-4: 11 كتبها الرسول وهو يعلم اضطهاداً آتيا، ثم بعد ذلك كتب بقية الرسالة عندما عرف أن الاضطهاد قد بدأ ؟ هذا ما لا يمكن أن نجزم به غير أن اللغة التي أمامنا تظهر ذلك.

      ففي3: 14 يقول “إن تألمتم..” وفي 3: 17 يقول ” لأن تألمكم إن شاءت مشيئة الله …” أما في 4: 14 نترجم “نحن نعرف أنكم تعيرون “أن عيرتم” (4: 16). “ولكن أن كان كمسيحي. .” أي انه يتألم الآن كمسيحي..

      إن هذه الآلام هي فرصة لتمجيد الله.. هي فرصة إظهار الكهنوت المقدس .. الشعب الذي يطيع الله وحده..”

                                           

                         رسالة بطرس الرسول الثانية

      هذه الرسالة الثانية التي تنسب إلى الرسول بطرس واجهت من المعارضة ما لم يواجهه أي سفر آخر في العهد الجديد فنادراً ما يظهر دارس بروتستانتي يوافق على نسبتها للرسول.. ولكن قبل الخوض في هذه الدراسة لنبحث عن تاريخها في الكنيسة لأنه يعطي نوراً أوضح بالنسبة لهذه القضية.

تاريخ الرسالة:

       لا تظهر في القرنين الأول والثاني أية آثار لاقتباسات منها في أي من كتب آباء ذلك العصر، سوى في كتابين مرفوضين ومنسوبين أيضاً إلى الرسول بطرس وهما “أعمال بطرس” ثم “رؤيا بطرس” الأول كتب في سنة 2..م والثاني ظهر في النصف الأول من القرن الثاني.

         أما الشخص الأول الذي اقتبس منها وسماها باسمها فهو أوريجانوس المصري .. ومع ذلك أعلن أن الكثير من المسيحيين لا يقبلونها. ولهذا فلم تقبلها كنيسة الإسكندرية ككتاب قانوني إلا حوالي سنة 2..م. وقيل أن أكليمندس السكندري كتب تفسيرً لها ولكن لم يعثر له على آثر.

         أما يوسابيوس فيضعها في قائمة الكتب المشكوك فيها، ورأيه الشخصي أنها ليست من ضمن كتابات الرسول بطرس.

        ورفضتها كذلك مدرسة أنطاكية والقسطنطينية، واستمر الحال كذلك إلى سنة 4..م ولكن كان ذلك موقفهم تجاه كل الرسائل الجامعة.

        أما المدرسة الغربية فلم تعتبرها قانونية إلا حوالي سنة 36.م. ولهذا السبب لا تظهر في قائمة الموراتوري ولا يشير إليها إيريناوس ولا ترتليان ولا كبريانوس.

                                                              

من هنا كله يتضح إن تاريخها الكنسي ضعيف ولا يشجع الدارسين على قبول نسبتها إلى الرسول بطرس، ومن ذلك فإنهم يتجهون اتجاها قوياً إلى اعتبارها رسالة كتبها شخص غير معروف، نسبها إلى الرسول العظيم. وكان هذا الأمر شائعا في ذلك العصر ولم يكن هناك من يعترض عليه.

هل هناك صلة بين الرسالة والرسول بطرس:

      هناك ثلاث إجابات على هذا السؤال:

     1-الجواب الأول يخرج من جماعة المحافظين جداً في البروتستانتية ومن دائرة واسعة من علماء الكنيسة الكاثوليكية، وهؤلاء كلهم يؤكدون إن الرسول بطرس هو الذي كتب هذه الرسالة ويؤيدون رأيهم بمجموعة من الأدلة منها:

     ( أ ) الشهادة الخارجية – أي شهادة الكنيسة الأولى أنها ليست جازمة في نفي نسبة هذه الرسالة إلى الرسول بطرس. ومن أهم هذه الشهادات شهادة أوريجانوس (22.م) التي يعلن فيها أن بعض الناس يشكون في صحة نسبتها إلى الرسول ولكنه هو لم يؤيد ولم ينف هذا الشك، لأنه لم يقطع برأيه.

     (ب) الإشارات الشخصية التي تمتلئ بها الرسالة هي أقوى دليل على إن كاتبها هو الرسول بطرس. ففي مقدمتها يذكر الكاتب اسمه ويعتبر نفسه عبدا ليسوع المسيح ورسوله (1: 1) . ويؤكد أنه كان حاضراً وشاهداً لمجد المسيح على جبل التجلي وقد سمع الصوت السماوي الذي جاء من السماء. (ا: 16)، ثم يذكر أن هذه الرسالة هي الرسالة الثانية التي يكتبها لهم، مشيراً بذلك إلى رسالته الأولى (3: 1). وأخيرا ينسب لنفسه أرفع المراكز في الكنيسة – وهو مركز الرسولية. وبهذا المنطق يتكلم عن الرسول بولس

                                           

على أنه أخونا الحبيب، (3: 1) ويدافع عن رسائله ويوبخ الكثيرين الذين يسيئون فهمها.

      ( جـ) الفرق الشاسع بين هذه الرسالة والكتب الأخرى التي نسبت إلى الرسول مثل “أعمال بطرس” و “إنجيل بطرس”  و “رؤيا بطرس” وغيرها في الأسلوب والروح المسيحية والمعلومات المطابقة للأناجيل والتقليد الكنسي الأول، مما يدل على أن كاتبها لم يكن بعيداً عن الأحداث، ولهذا السبب وجدت قبولا ضخما من الكنيسة حتى وإن قد جاء متأخراً. هذا الفرق وهذا القبول الكنسي وضمها إلى الكتب القانونية يؤكد الشهادة إن كاتبها هو الرسول بطرس.

      2- أما الجواب الثاني فيجيء من الغالبية العظمى من العلماء البروتستانت ومن بعض علماء الكاثوليك: فيتلخص في أن هذه الرسالة لا صلة لها بالرسول بطرس، ولكن كاتبها شخص أخر غير معروف جاء في وقت لاحق بعد موت الرسول، ولذلك لم يكتب اسمه عليها بل نسبها إلى نفسه، وهذا – كما سبق ذكره – إجراء كان شائعاً في تلك العصور ولم تكن هناك غضاضة عليه. ويبني هؤلاء العلماء رأيهم على الشواهد التالية:

      ( أ ) الإشارات المتعددة التي يذكر فيها الكاتب أنه هو سمعان بطرس ويعدد بعض الحوادث التي حدثت في حياة الرسول، ليست شهادة لصحة نسب الرسالة إلى الرسول بطرس بل على العكس من ذلك دليل قوي على إن كاتبها شخص آخر جاء متأخرا عن عصر الرسول ونسب هذه الرسالة إليه. إنه يحاول جاهداً، عن طريق كر هذه الإشارات، أن يدفع القارئ إلى تصديق زعمه هذا. ولم يكن هذا الكاتب وحيداً في ذلك بل كانت تلك هي العادة المتبعة عندما يكتب آخر كتابا وينسبه إلى شخص عظيم سبقه في الوقت.

                                                     

      (ب) هناك سبب آخر يبنون عليه رفضهم نسبة هذه الرسالة إلى الرسول بطرس وهو صلة هذه الرسالة برسالة يهوذا. فمن يقرأ هذه الرسالة يجدها تحتوي على غالبية رسالة يهوذا، خصوصًا الإصحاح الثاني. فمن بين أعداد رسالة يهوذا الخمسة والعشرين يوجد تسعة عشر عددًا في الإصحاح الثاني في رسالة بطرس، بنفس الفكرة ونفس الترتيب. ومعظم الألفاظ المستخدمة. وهذا لا يقتصر على الإصحاح الثاني فقط بل يتعداه إلى الإصحاح الأول والثالث الذين يشتركان مع رسالة يهوذا في بعض الأفكار والعبارات. هذا كله يقطع بأن إحدى الرسالتين تعتمد كثيرًا على الأخرى. فهل نظن أن يهوذا أقتطع الإصحاح الثاني من رسالة بطرس وبنى عليه رسالته هذه، أم أن العكس هو الذي حدث؟ إن الرأي السائد بين العلماء هو أن رسالة يهوذا كانت سابقة على رسالة بطرس الثانية وأن هذه الأخيرة احتوت على رسالة يهوذا مع بعض الحقائق الأخرى التي تعتبر أساسية في رسالة بطرس، فقد كُتبت أصلا لكي تعالج الرفض والارتباك الذي اتصل بمجيء الرب الثاني وتأخيره على ذلك الوقت، فمداها إذًا أوسع من رسالة يهوذا مما يرجح أنها كُتبت بعدها، فليس من المعقول أن يأخذ يهوذا الإصحاح الثاني ويقتطعه من رسالة بطرس الثانية ويعمل منه رسالة قائمة بذاتها .. وعلى هذا فلا مفر من الاعتقاد بأن رسالة بطرس الثانية كُتبت في عصر متأخر عن العصر الذي استشهد فيه الرسول بطرس ولا يمكن نسبته إليه.

      (جـ) أما السبب الثالث لرفض نسبة هذه الرسالة إلى الرسول بطرس فهو موضوع الرسالة نفسه. سبق أن ذكرنا أن هذه الرسالة كُتبت أساسًا لتحارب الإنكار الذي أعلنه جماعة من الكنيسة ضد مجيء السيد الثاني، ولعل ما أورده الرافضون من حديث يبين الوقت الذي يرجح أن الرسالة كُتبت فيه. فهم يقولون “أين هو موعد مجيئه لأنه من حين رقد الآباء كل شيء باق هكذا من

بدء الخليقة (3: 4). هذا النوع من الرفض لم يظهر في مكان آخر في العهد الجديد، ولا يمكن أن يكون قد ظهر قبل خراب أورشليم سنة 7.م. إذ من المحتمل جداً أن يكون خراب أورشليم وعدم مجيء المسيح في ذلك العصر سبباً قويا لهذا الإنكار. ولا يوجد في الكتابات المسيحية المبكرة ما يعكس هذا الإنكار أو يحاربه سوى أكلمندس الروماني، ويذكر عبارة قد تكون اقتباسًا من هذه الرسالة أو قد يكون ترديدًا لقول شائع يذكره الاثنان دون أن يقتبس أحدهما الآخر. تقول رسالة اكليمندس “لقد سمعنا هذا حتى من أيام آبائنا وها نحن قد تقدمنا في الأيام ولكن شيئًا من هذا لم يحدث”. والمقصود بالآباء سواء في هذه الرسالة أو في رسالة بطرس (3: 4) المسيحيين من الجيل الأول، الذين رقدوا منذ مدة طويلة. وهنا يلاحظ أن التلاميذ لم يطلق عليهم لقب الآباء إلا بعد مدة طويلة من انتقالهم. وهكذا يرى الدارس إنكارًا واضحًا للمجيء الثاني نظرًا لمرور وقت طويل دون أن يحدث شيء. هذا بينما يظهر في الرسالة الأولى نوع من الانتظار والتطلع إلى هذا الحادث المرتقب دون أن يخطر على بال أحد من الكنيسة هذا الإنكار الواضح الذي يظهر في الرسالة الثانية، وهنا يحق التساؤل: هل يعقل أن يحدث هذا التغيير الجذري من الانتظار الواثق إلى الإنكار الشديد في مدة وجيزة كهذه، التي تفصل بين كتابة الرسالة الأولى 64م وبين استشهاد الرسول بطرس. هذا يدل على أن هذه الرسالة كُتبت متأخرًا عن ذلك الوقت.

      (د) هناك سبب رابع وهو الاختلاف الكبير بين رسالتي بطرس الأولى والثانية، مما يقطع أن كاتب الاثنين ليس واحدًا ومن هذه الاختلافات نذكر الآتي:

 

       1- اختلاف الكلمات: كلمات الرسالة الثانية، كلمة أما الرسالة الثانية فكلماتها 33. ولكن لا تشترك الرسالتان إلا في 1.. كلمة أي أقل من سبع عدد الكلمات. إلي جانب ذلك فالرسالتان كثيراً ما تعبران عن المعني الواحد بكلمتين مختلفين : فمثلا كلمة الشاهد ( 1 بطرس 5 : 1 ) وكلمة يعاين ( 2 : بطرس 1 : 16 ) يعنيان شيئاً واحداً مع اختلاف الكلمتين ، وكذلك كلمة عبرة أو مثال ( 1 بطرس 2 : 21 ، 2 بطرس 2 : 6 ) وغير ذلك ( ومن الأمور الطيبة أن الترجمة العربية تضع لكل كلمة ترجمة مختلفة كما في الأصل ) .

      والرسالتان تختلفان أيضاً في عدد الاقتباسات من العهد القديم . فبينما تقتبس الرسالة الأولي 31 اقتباساً ، يظهر في الرسالة الثانية سوي 5 اقتباسات والعجيب أن الفلك يظهر في الرسالتين  ولكن في معنيين مختلفين : ففي الرسالة الأولي يرمز إلي المعمودية ( بطرس 3 : 21 و 22 ) أما في الثانية فيعني الطوفان والموت ( 2 بطرس 2 : 5 ، 3 : 5 – 7 ) ، وتختلف الرسالتان أيضاً في العمق اللاهوتي وخصوصاً فيما بعقيدة المسيح . فالرسالة الأولي أكثر عمقاً من الثانية ، فبينما تقدمه هذه الأخيرة كموضوع الإيمان فقط ، تقدمه الرسالة الأولي مثلا للحياة المسيحية بكيفية معها المركز الحقيقي لهذه الرسالة والعنصر الحقيقي الذي يربطها من الأول الآخر.

    أما الاختلافات الهام بين الرسالتين فيتمثل في موقف كل منهما من المجيء الثاني للمسيح : وهذا يظهر في استخدام لفظين مختلفين لتعران عن نفس الحقيقة ، فالأولي تستخدم كلمة ” استعلان ” A poka Lupsis ( 1 : 7 و 13 : 4 : 13) أما الثانية فتستخدم كلمة ” مجيء ” parousia   ( 2 بطرس 1 : 16 ، 3 : 4 و 12 ) وكذلك في نظرتهما إلي تحقيق هذا الحادث ، ففي

 الرسالة الأولي ترقب للمجيء بين ساعة وأخرى ( 1بطرس 4 :7 و 17 ، 5 : 4 ) أما الثانية فتهاجم موقف الإنكار المتفشي بين جماعات كنيسة لأن المجيء قد تأخر ، وتعزو هذا التأخير إلي طول أناة الله ( 2 بطرس 3 : 8 و 9 ) : وأخيراً تختلف الرسالتان في تفسير معني المجيء الثاني ، فبينما تراه الأولي مجيء الدينونة والمجازاة ( 1 بطرس 4 : 5 و 17 ) فيه يهب الرب للمؤمنين فرحاً أبدياً ومجيداً ( 1 : 7 – 9 ، 4 : 13 ، 5 : 4 و 1. ) تراه الرسالة الثانية حدثاً عالمياً تصاحبه كارثة كونية تحترق فيه العناصر وتنحل وتذوب، وهذه فكرة لا مثيل لها في التفكير المسيحي الأول ( 2بطرس 3 : 7 ، 1.– 14 ).

        وهذه هي أهم الاختلافات التي  تظهر بين الرسالتين وهي التي دفعت بالكثيرين من العلماء أن ينكروا وحدة المؤلف لها لأن وراء كل منهما – كما يقولون – عقلية تختلف عن الأخرى . أما جيروم فإنه يقبل هذه الاختلافات ولكنه يري أساسها ليس في اختلاف المؤلف بل في اختلاف القراء .

      (هـ) الدليل الأخير على التردد في قبول نسبة هذه الرسالة إلي بطرس الرسول هو إشارتها ” الأخ بولس ” في معرض إشارة الكاتب إلي المجيء الثاني . وهذا الأمر يدل على أن هذا الكاتب كان يعرف مجموعة الرسالة.ة التي لم تظهر معاً إلا وقت متأخر من القرن الأول. وهذا دليل على أن بطرس لم يكن حاضراً وقت كتابة هذه الرسالة. لأنه كان قد رقد قبل ذلك بوقت طويل .

    بناء على هذه الشواهد القوية اتجه رأي قوي جداً في المسيحية إلي اعتبار الرسالة الثانية، المنسوبة إلي الرسول بطرس رسالة كتبها شخص آخر ونسبها إلي الرسول حتى يمكن قبولها في الكنيسة كلها، ولم يكن ذلك التصرف معيباً في عصره. 

   

       3- وهناك جواب ثالث يقف بين الاثنين السابقين ، لجماعة لا تريد أن تستهين بما هو موجود في الرسالة من شهادة قوية وتصريحات لا يمكن أن تؤخذ بأي حذر على أن كاتبها هو الرسول بطرس وفي نفس الوقت تعترف بوجاهة الاعتراضات التي توجه إلي هذه الرسالة ، كما سبق ذكر كل ذلك ، فاعتبرت أن كاتب هذه الرسالة شخص آخر غير الرسول بطرس . لكنها بنيت على أقوال الرسول. وغالباً كان الكاتب تلميذاً له سمعة وتعلم منه ، مثله في ذلك مثل مرقس الإنجيلي ،الرسول. الرسالة مستخدماً تعاليم الرسول ووصيته وذلك بعد أن استشهد الرسول بوقت كاف يفسر ما في الرسالة من شواهد تدل على تأخر وقت كتابتها. هذا الرأي لا يتمسك به الكثيرون لأنه يتفق والرأي الثاني هو أن كاتبها نسبها إلي الرسول.

       هذه هي الآراء الثلاثة بالنسبة لصلة الرسالة إلي الرسول بطرس.

مكان وزمان الكتابة:

       يتوقف الجزم في هذين الأمرين على موقف الدارس من شخصية المؤلف، ف‘ذا كان يتمسك بالرأي الأول وهو أن كاتب الرسالة هو الرسول بطرس، فيكون من السهل تحديد مكان كتابة الرسالة وهو روما، وزمانها قبل استشهاده بوقت قصير ( 1: 14 ).

    أما إذا كان يعتقد بأن الكاتب شخص آخر، سواء أكان تلميذا مباشراً للرسول أو لم يكن، فمن الصعوبة بمكان تحديد الزمان والمكان حيث كتبت هذه الرسالة. ويعتقد بعض علماء الكاثوليك أنها كنبت سنه 8.م لأن إنكار المجيء الثاني لم يظهر إلا بعد خراب أورشليم سنه 7.م. أما علماء البروتستانت فإنهم يبنون تكهناتهم على جمع رسائل بولس وعلى تقنين أسفار

 الكتب المقدس وعلي صفة الجماعة التي تحاربها الرسالة، ويعطون تاريخاً يتراوح ما بين 12. – 18.م وهذا أمر مبالغ فيه جداً .

مضمون الرسالة :

ما هي رسالة هذه الرسالة ،ما هو مضمونها ؟ وماذا يريد أن يقول كاتبها ؟ 

       ( أ ) هذه الرسالة هي رسالة وداع، فيها يعلن الكاتب قرب نهاية حياته الأرضية فيقول ” عالماً أن خلع مسكني قريب كما أعلن لي ربنا يسوع المسيح أيضاً (1: 4 ). ولهذا فهي شهادة الرسول الأخيرة. وبهذه الكيفية فهي إحدى أنموذج خاص من الخطابات المقدس.ل يظهر كثيراً في الكتاب المقدس . ولعل أهم خطاب وداع ذكره العهد ا).يد هو خطاب السيد لتلاميذه قبل ساعات من صلبه كما يظهر في إنجيل يوحنا ( يوحنا 14 – 16 ). هناك أيضاً خطاب الرسول بولس لشيوخ كنيسة الخطابات أفسس(أعمال 2. : 17 – 35 ) وكذلك رسالته الثانية إلي تيموثاوس . والعهد القديم يحتوي أيضاً الكثير من هذه الخطابات : كخطاب يعقوب أبي الأسباط لأولاده ( تكوين 49)، وخطاب موسى النهائي عندما دنت اللحظة الأخيرة ( تثنية 31 – 33 ) وغير ذلك كثير، هذا النموذج من الكتابات أو الخطابات يتميز بعدة مواصفات تجعل منها أسلوباً خاصاً موحداً سواء أكان كتابة أو كلاماً. فهي تكون عادة من أربعة عناصر : الإنباء عن الموت أو الفراق القريب الذي يعرفه الكاتب عن طريق إعلان سماوي أو شواهد قاطعة يراها أمامه .

       (ب) يذكر الشخص المودع بعضاً من الحوادث والذكريات الماضية تربط بينه وبين من يودعهم.

      (حـ) نبوة عما سيحدث في المستقبل ، وغالباً ما يتنبأ عن أيام صعبة قريبة المجيء وضلالات ضد إيمانهم ومعتقداتهم .

      ( د ) حث السامعين أو المكتوب إليهم أن يثبتوا في الإيمان وأن يعيشوا حياة تليق بدعوتهم.

    هذه العناصر الأربعة نجدها في هذه الرسالة . فهي تذكر أن الرسول يتنبأ بموته كما أعلن السيد ( 1 : 13 – 15 ) . وهو يذكر الأيام السالفة التي فيها كان مع السيد ورأي مجده ( 1: 16 – 18 ). ثم تنبأ بالأيام الصعبة القاسية ودخول الضلالات والمضلين ( ص1:، 3 : 3 – 7 ) . وأخيراً حث المكتوب إليهم أن يعيشوا بالإخلاص وفي الفضيلة ( 1 : 1 – 12 ، 3 : 11 – 18 ) . سواء أكان الكاتب هو الرسول بطرس أم أنها شهادة الرسول جمعها واحد أو مجموعة من تلاميذه الذين سمعوها منه ودنوها بعد موته ، لكنها هي شهادة حقيقية لواحد له سلطان رسولي يتم بالرعية وبالكنيسة في حياته فيقول ” ولكني أحسبه حقاً ما دمت في هذا المسكن أن أنهضكم بالتذكرة ” ( 1 : 13 ) : وليس ذلك فقط بل حتى بعد فراقه لهم سيكون قد عمل يساعدهم على الثبات وتذكر هذه الأمور فيقول ” فأجتهد أيضاً أن تكونوا بعد خروجي تتذكرون كل حين بهذه الأمور ” ( 1: 15 ) . ويقول بعض الدارسين إن الإشارة هنا بالأخص إلي إنجيل مرقس ، كان الرسول يقول لهم إنه سيري أن هذه الأمور كلها ستوضع لهم مكتوبة لكي يتذكرها على الدوام ، فهو بعد ذلك يذكر بعض الحوادث في حياة المسيح المجيدة على الأرض .

2- يقول السيد في إنجيل لوقا لوط.ا كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان. . . كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط. . ” ( لوقا 17 : 26 – 28 ) . هذان الشاهدان نوح ولوط يظهران في الرسالة في

 الإصحاح الثاني ( 2 : 5 – 8 ) ثم يردف بقوله ” يعلم الرب أن ينقذ الأتقياء من التجربة وبحفظ الأثمة إلي يوم الدين معاقبين ” ( 2 : 9 ) . فهل كان قصد الكاتب أن يذكر العالم بالعناية والتدبير الفائق للذين يصنعون البر والذين يؤمنون ، ثم بدينونته القاسية على هؤلاء الفجار والعالم الشرير الذي يعيش فيه هؤلاء القديسون متألمين من كثرة ما يرون ويسمعون من الفساد . هذا ما يظهر في الأعداد وغالباً ما كان يضعه الكاتب أمام القديسين في عصره .

       ولكن المتأمل في الرسالة كلها يري فمتمايزين:من التفسير اللاهوتي للتاريخ الذي يسير لا بحسب أهواء الناس وصراعاتهم بل بحسب تدبير عناية كبري وراءه . ولذلك يقسم الكاتب الناس إلي قسمين متمايزين : جماعة هم لله ، وجماعة الأشرار الذين يعيشون في العصيان والشر . ومع أن الجماعتين تعيشان معاً في عالم واحد، وتحت ظروف واحدة لكن الاثنتين تختلفان اختلافاً كلياً فالذين هم لله يميزهم بأمرين هامين: الأول سلبي، فيقول عنهم ” هاربين من الفساد ” ( 1: 4، 2: 18 و 2. ). والأمر الثاني إيجابي فقد ” وهب لنا المواعيد العظمية والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية. . . لأنه هكذا يقدم لكم بسعة دخول إلي ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي ” ( 1 : 4 و 11 ، أنظر 3 : 13 ) . هؤلاء هم القديسون وفي مقابلهم يقف أولئك الضالون المصلون الذين يتكلم عنهم في الإصحاحين الثاني والثالث .

    وبحسب تفسير الكاتب أيضاً ينقسم التاريخ إلي ثلاثة أقسام : ما قبل نوح ويسميه ” العالم القديم ” ( 2 : 5 ، 3 : 6 ) ثم من بعد نوح إلي مجيء المسيح الثاني ويسميه والأرض الكائنة الآن ” ( 3 : 7 ) ، ثم ما بعد المجيء الثاني ويسميه ” الملكوت الأبدي ” أو السموات الجديدة والأرض

 الجديدة التي يسكن فيها البر ” ( 1: 11، 3: 13 ) وفي هذا المجال فهو يسمي نوحاً ” نوحاً الثامن ” ( 2: 5 ). والثامن معناه، في المفهوم اليهودي وكذلك المسيحيين الأوائل، بدء حياة جديدة، فالسبعة هي عدد الكمال والثامن بدء شيء جديد. بهذا المعني كان يوم الأحد في المفهوم المسيحي هو يوما ابتداء الخليقة الجديدة إذ يتبع اليوم السابع أي يوم السبت. وهكذا كان نوح بداءة لعهد جديد لعهد جديد . وكما كان نوح ينتظر يوم الخلاص من وسط عالم شرير وفاسق ، هكذا أيضاً المسيحيون الذين يعيشون في ” السموات والأرض الكائنة الآن ” ينتظرون الخلاص من هذا العالم الذي هربوا منه في يوم يشابه يوم نوح عندما أهلك الله العالم ، ولكن في هذه المرة ليس بالطوفان بل بالنار كما فعل أيام لوط . إنه يوم يطلق عليه ط يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترف الأرض والمصنوعات التي فيها ” ( 3 : 12 أنظر 3 : 7 ) .

       3- ولقد لا حظ الدارسون غرابة هذا التقسيم، فإن الكاتب يقسم التاريخ على أساس تغيرات. جذرية ملحوظة وملموسة في العالم مثل غرقه بالطوفان في أيام نوح، ثم انحلال العناصر محترقة في مجيء المسيح الثاني. بينما يقسم المسيحيو التاريخ على أساس التغيرات الروحية التي يعرفونها بالإيمان. فالعهد الجديد يري التاريخ يتركز في نقطة حاسمة هي الفيصل النهائي فيه وهي التجسد كما يسميه الرسول بولس ” ملء الزمان ” ( غلاطية 4 : 4 ) . أما هنا فلأمر يختلف . فلماذا ؟ السبب الأساسي الذي جعل الرسول يفعل ذلك هو المواجه مع جماعة لا يعترفون إلا بالمظاهر الخارجية. والشيء المعروف هو أن الذين بدءوا المواجهة كانوا اليهود الذين كانوا يعيرون المسيحيين والذين كانوا يدعون أن لهم ” المواعيد العظمي والثمينة “. إنه لا يوجد أي تغير ملموس

في العالم ” لأنه من حين رقد الآباء فكل شيء باق هكذاويعقوب.خلقية (3 : 4 ) إن المسيا – على زعم اليهود – لا بد وأن يعمل تغييرات هائلة وجذرية في العالم ، ففي عهده سيسكن الذئب مع الحمل ، بل وسوف تنبت الصحراء وتزهر ، فماذا فعل يسوع الناصري ، الذي يزعم أتباعه أنه المسيا ؟ لم يفعل شيئاً فالحالة كما هي من أيام إبراهيم واسحق ويعقوب. .  

على أن المواجهة – بمرور الأيام – تغير رجالها فأصبحوا من داخل الكنيسة نفسها لا من خارجها ، وبدلا من أن يتخذوا مجيء السيد في الجسد هدفاً لهجومه اتخذوا وعده بالمجيء الثاني هدفاً لذلك الهجوم . ويقولون إن الكنيسة منذ بدء ظهورها كانت تنتظر المجيء السريع، ولكن أين هو موعد مجيئه. منذ أن رقد الجيل الأول الكنيسة كل شي باق كما هو، الطبيعة لم تتغير والتاريخ لم ينته . . والمسيح لم يأت ولن يحدث شيء.

        هذه المواجهة باقية أيضاً إلي الآن. . إنها تفرض في وجه المؤمنين الذين يتمسكون بمواعيد الرب الجديدة.الذين ينتظرون سماء جديدة وأرضاً جديدة. . ولكن حدث ؟ . . أين الله ؟ إن هذه الرسالة تكلم كل عصر وكل جيل. 

       4- ولكن الرسالة لا تترك العصر الحاضر بدون آية أو علامة، فهناك العلامة العظمي التي رآها الرسول بعينه وهي حادثة التجلي. هذه الحادثة هي البرهان الأعظم على ” أننا لم نتبع خرافات مصنعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع ومجيئه بل قد كنا معاينين عظمته لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى هذا ابني الحبيب الذي أنا سررت به ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلا من السماء إذ كنا معه في الجبل

 المقدس ” ( 1: 16 – 18 ). في هذه الحادثة يري يسوع يملك ويتوج بالمجد والبهاء فتحقق الوارد في مزمور 2 وخاصة قوله ” أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي ” ( مزمور 2 : 6 ) وهذا هو السبب الذي من أجله يصف الرسول جبل التجلي ” بالجبل المقدس ” لأن عليه توج المسيح . وحادثة التجلي أيضاً تعطي العربون والإشارة الواضحة إلي معني امتيازات المؤمنين في ” القدرة الإلهية ” ( 1 : 3 ). والمشاركة في الطبيعة الإلهية ( 1 : 4 ) وفي الدخول في الملكوت الأبدي ( 1: 11 ) .

       هذه الحادثة لا تقنع الناكرين المتحدين ، وهذا أمر ليس بغريب لأنهم لم يصد قوا لا نوح ولا لوط إلي أن جاءهم الهلاك . ولكن لها تأثير آخر مع المؤمنين : فالرسول يحث المؤمنين لأجل هذه المواعيد العظ1:والثمينة التي جسمتها لهم وجعلتها في موضع اليقين حادثة تجلي السيد ، أن يبذلوا ” كل اجتهاد قدموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة وفي المعرفة تعففاً وفي التعفف صبراً تقوي وفي التقوى مودة أخوية وفي المودة الأخوية محبة ” ( 1 : 5 – 7 ) . هذه القائمة التي تتوج بالمحبة هي الحياة التي تليق بالدعوة الإلهية لمؤمنين . وهذه أيضاً شهادة الرسول بطرس ينبر عليها ويذكرهم مراراً وتكرار بهذه الأمور ( 1 : 8 و – 12 و 15 ) . 

       5- بقي هناك سؤال واحد يجابه الدارس في هذه الرسالة وهو: هل يمكن إن تحدد شخصية هؤلاء الذين يصفهم الرسول بأشد الأوصاف في الإصحاح الثاني والثالث ؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن تحدد خطاياهم وأعمالهم الشريرة، وهذه يمكن تلخيصها في الأمور التالية:

      ( أ )المعلمون الكذبة ينادون بالإباحية وهم أنفسهم إباحيون ( 2 بطرس 2 : و 2 و 13 و 14 و 19 ).

      (ب) إنهم مدعون مملئون بالكبرياء يظنون أنهم2:تطيعون أن يفعلوا شيئاً ( بطرس 2: 18 ).

      (حـ) إنهم طماعون يجرون وراء المكاسب ( 2: 14 و 15 ).

      ( د ) يجدفون على ذوي الأمجاد والملائكة ( 2: 1. و 11 ).

      (هـ) قد وضعوا للهلاك ( 2 : 1 و 3 : 9 و 12 ) .

هنا يتضح أن مشكلتهم الكبرى هي مشكلة أخلاقية ولم يتضح فيها أي أمر عقائدي إلا إنكار مجيء الرب يسوع المسيح ورفضهم لهذه العقيدة . أما ما بقي من شرهم سلوكي وحياة دنسة ومنجسة ومتكبرة ، ولقد حاول كثير من العلماء أن يحددوا هوية هذه الهرطقة الأخلاقية وظن كثير من العلماء أنهم أتباع سيمون الساحر الذي وجده بطرس في السامرة ووبخه بشدة لأنه أراد أن يشتري الموهية بدراهم ، وقد وبخه الرسول بطرس توبيخاً شديداً وقيل إنه ضل في حياة شريرة مع أتباعه .

    على كل حال هم جماعة شريرة تستمر في شرها إلي أن يفاجئهم مجيء الرب الذي أنكروه وسوف يأتي عليهم الهلاك بغتة .

    هذه هي شهادة الرسول بطرس ومن يدري هل كتبها الرسول.ها شخص كان تلميذاً له ؟ سواء أكان هذا أم ذاك فإن هذه هي شهادة بطرس الرسول .

رسالة يهوذا

 هذه الرسالة الصغيرة لها موقف مع الكنيسة الأولية أقوي من رسالة بطرس الرسول الثانية. ففي سنه 2..م كانت واحداً من الكتب القانونية في العهد الجديد ، قبلتها الكنيسة الغربية ولذلك ظهرت في قائم الموراتورى

 ومن الآباء ترتليان . ثم قبلتها مدرسة الإسكندرية أكليمندس وأوريجانوس وإلي جانب ذلك قبلها كيرلس الأورشليمي ويوسابيوس المؤرخ الكنسي الشهير ، ووضعت في الكتب القانونية . ومع ذلك فقد شهد علماء الإسكندرية ويوسابيوس أن هناك دوائر كنسية وضعت هذه الرسالة في قائمة الكتب المشكوك في صحتها ، ولعلهم يقصدون بذلك علماء كنيسة إنطاكية الذين لم يقبلوا أربعة رسالة صغيرة ( يهوذا ، يوحنا الثانية والثالثة وبطرس ) وجعلوها في قائمة المشكوك فيها حتى سنه 4..م حين قبلتها الكنيسة العامة .

 مؤلف الرسالة :

       يذكر المؤلف عن نفسه أنه ” يهوذا عبد الجسد.مسيح وأخو يعقوب ” (1). وهو يبني سلطته على أنه أخو يعقوب ، فلا بد أن يعقوب هذا كان شخصاً صاحب مركز سام في كنيسة ، وغالياً هو يعقوب أخو الرب وأسقف أورشليم وأحد الأعمدة العظمي في الكنيسة ( غلاطية 1 : 19 ، 2 : 9 ، 1 كورنثوس 15 : 7 ) . وبذلك يكون يهوذا أيضاً أخاً للرب في الجسد . أما لقبه الأول ” عبد يسوع المسيح ” فيشير إلي أن يهوذا لم يكن يحسب نفسه واحداً من الرسل الأوائل”. ، ويؤيد ذلك قوله ” وأما أنتم أيها الأحباء فاذكروا الأقوال التي قالها سابقاً رسل ربنا يسوع المسيح ” ( ع 17 ) . ولقد ذكر اسم يهوذا على أنه واحد من أخوة الرب في مرقس 6 :3 . ولكن الكاتب لم يحاول أن يستثمر هذا الشرف العظيم لنفسه بل اكتفي بقوله إنه ” عبد يسوع المسيح ” .

       ولعل ما يؤكد أنه هو يهوذا أخو الرب وأن الرسالة هي حقاً رسالته وليست رسالة شخص آخر كتبها في زمن متأخر ووضع عليها اسم يهوذا ، هو أن الكاتب لم يذكر صلة النسب بالرب هذه ، ولم يحاول أن يستغل بعضاً

 من الحوادث لكي يعطي للقراء الانطباع الجاد بأنه يهوذا أخو الرب. زد على ذلك أن الكاتب الذي يريد أن يجعل لكتابه شهرة واسعة كان لا بد له وأن يختار اسماً معروفاً له رنة عالية في الكنيسة مما لا نجده في اسم يهوذا الذي يعرف نفسه بأنه أخو يعقوب.

    ومع ذلك فقد أنكر كثير من العلماء نسبة هذه الرسالة ليهوذا أخي يعقوب بزعم أنها تعكس جواً وزمناً لا يتفق والزمن الذي عاش فيه يهوذا هذا. فالرسالة تحارب نوعاً من الغنوسية التي ظهرت متأخراً عن ذلك العصر الأول . ولكن هذا لا يمثل الحقيقة فالرسالة تحارب جماعة خاصة ظهرت في الكنيسة وليست تياراً غنوسياً عاماً .

لمن كتبت الرسالة :

        مقدمة الرسالة تبين أنها كتبت إلي جماعة غير محددة، فالعبارة العامة ” إلي الكنيسة.لمقدسين في الله الآب والمحفوظين ليسوع المسيح ” ( 1 ) لا تشير إلي جماعة بعينها بل كأنها لكل المؤمنين وحتى نهاية الرسالة لا تظهر كأنها نهاية رسالة . ومع ذلك فلا يمكن أن تكون قد وجهت إلي كل الكنيسة بل إلي مجموعة من الجماعات الكنيسة . ويعتقد كل العلماء تقريباً قراءها كانوا من المسيحيين من  أصل يهودي نظراً لأن الاقتباسات جاءت من العهد القديم ومن الكتب اليهودية الغير قانونية ، هذه لا يفهمها ولا يقتبس منها إلا اليهود ، ولا وجهت إلي أمم فإنهم لا يعرفونها ولا تساعدهم على فهم مضمون الرسالة .

     ولكن هناك قليل من العلماء من يعارضون هذا الرأي العام، ويقولون إن مجموعة الخطايا التي تظهر في الرسالة، والموقف الذي يدينه الكاتب لا يمكن أن يكون موقف يهود ولا مسيحيين من أصل يهودي، بل ينطبق على الأمم.

وقد اعتقد بعضهم إنه ربما وجهها إلي جماعة من يهود الشتات الذين إليهم.ن يخرج منهم هؤلاء المعلمون الكذبة. على حال لا يستطيع الدارس أن يكون جازماً في تحديد نوع المكتوب إليهم .

مضمون الرسالة :

  يعترف الكاتب من الأول أنه غير الموضوع الذي أراد أن يكتب عنه. فهو يقول ” أيها الأحباء إذ كنت أصنع كل الجهد لأكتب إليكم عن الخلاص المشترك ، اضطررت أن أكتب إليكم واعظاً أن تجتهدوا لأجل الإيمان المسلم مرة للقديسين ، لأنه دخل خلسة أناس قد كتب من القديم لهذه الدينونة . . ” ( 2 – 4 ) . فمن هم هؤلاء الذين دخلوا خلسة إليهم فأجبروه على أن يغير هدف كتابته من التشجيع إلي التحذير ، ومن التعزية إلى الدينونة ؟ هذه الجماعة التي يكتب عنها ظهرت حديثاً في الكنيسة، لم يكونوا من البدء ولكنهم جاءوا إلي المسرح في وقت قريب ، ولأجل ذلك اضطر أن يعير من هدف كتابته . ولكنهم لم يكونوا غرباء ، لقد كانوا من الكنيسة ويشتركون مع كل الأعضاء في وليمة المحبة المسيحية التي كان يعقبها الاشتراك في عشاء الرب ( ع 12 ) وهذا أمر له خطورته لأنهم كالمرض الذي يظهر في الداخل . ولكن من أهم صفاتهم أنهم ضد كل ناموس، ولا يظهرون أي نوع من الحياة المنضبط”.ل هم كالحيوانات غير الناطقة يفسدون. ويصفهم الكاتب بصفات مرعبة عن نوع من الإباحية المنفلتة . ومع ذلك فلا يمكن أن يعرف الدارس نوع عقائدهم إلا إذا ترجم ( ع 4 ) بالقول ” . . وينكرون الإله الوحيد المسيطر ربنا يسوع ” فإذا أضيف إليها القول ” يتهاونون بالسيادة . . ” ( ع8 ) فهذا يعني أنهم ينكرون سلطان السيد المسيح ويفترون على كل سلطان . ولكن هذا الإنكار قد يكون إنكاراً لاهوتياً، وقد يكون

 إنكاراً عملياً يظهر في حياتهم وفي سلوكهم ، فيعني أنهم لا يخضعون لوصية المسيح ولا يسلكون بحسب المحبة .

    وإلي جانب ذلك فأنهم يفترون على ذوي الأمجاد ” (ناموس.ما يقصد بـ ” ذوي الأمجاد ” الملائكة ، وقد كان لهم المركز العظيم إذ كانوا واسطة في إعطاء الناموس ( أعمال 7 : 38 و 53 ، غلاطية 3 : 19 ، عبرانيين 2 : 2 ) . ومعني هذا أنهم لا يهتمون ولا يقيمون وزناً لأي ناموس . هذه هي الجماعة الفاسدة . وقد ظن كثير من العلماء أن هؤلاء الجماعة قد يشخصوا بأولئك الذين يطلقون على أنفسهم ” الروحانيين ” الذين يرتبطون بالنظام والناموس الأبدي الذي يحكم العالم ولذلك فهم أحرار ولا يمكن أن يقيدوا أنفسهم بأي ناموس آخر ويقاومون أوامر الله (ع15) ويتكلمون بكلمات صعبة فاجرة (ع15) والسبب في كل إنكارهم هذا هو أنهم لا يتمتعون بعطية الروح القدس (ع19) فلا يعرفون إلا الأمور الطبيعية (ع1.) . هؤلاء قد يكونون النيقولاويين المذكورين في (رؤيا 2 : 6 و 14 و 15أبدياً.

   ولكن الرب لن يتركهم بل سوف يدينهم بكل قوة وشدة ويعاقبهم عقاباً أبدياً.

2- يتميز هذا الكاتب بأنه يقتبس من التقليد القديم كله من العهد القديم ومن كتب الأبوكريفا ومن كتب السيد وجرفا مثل كتاب أخنوخ (ع14 و15 من أخنوخ 6. : 8 ) . أما قصة الملاك ميخائيل وإبليس فلم يرد ذكرها في كتب معروفة وإن كان أكليمندس الإسكندري يقول إنها جاءت في كتاب ( صلاة موسى )Assumption of Moses  نحن لا نعرف سواء اعتبر هذه الكتب من ضمن الكتب المقدسة ولكننا نعرف

 أنه كان يحترم كل كتاب لأنه جاء من الآباء، إنه لم يكن ينظر إلي الكتاب بصفته قانونياً، ولكن على أنه جاء من القديم. وللقدم هيبته وصدقه عنده .

3- أما الأعداد الأخيرة في هذه الرسالة  ( 2. – 24 ) فهي تكشف لنا ماذا كان إلي القديسين لو لم يكتب لهم هذا التحذير ويحثهم على مجابهة هؤلاء المندسين في وسطهم ، إنه في هذه الأعداد يكشف عن إيمان العهد الجديد ويقول لقارئيه ” وأما أنتم الأحباء فابنوا أنفسكم على إيمانكم الأقدس مصلين في الروح القدس واحفظوا أنفسكم في محبة الله منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية ” ( 2. – 21 ) هذه الكلمات تكشف عن إيجابية الكاتب ومعرفته الأساسية بالأيمان الأقدس الذي بيني عليه المؤمنين ، وأن ما يشعر به القارئ عندما يبدأ في قراءة الرسالة من غرابة يكون إحساساً وخيلا ، فالكاتب يكتب في وسط أزمة خاصة يجابهها بكل شدة ، ولكن عندما يكتب للمؤمنين مشجعاً وبانياً فإنه يكتب في مستوي العهد الجديد . . في مستوي الرسول بولس والرسول يوحنا والرسول بطرس وغيرهم .    

 

                                            المـــراجع

حيث إن المراجع التي رجعنا إليها لم تذكر في هوامش الكتاب، فقد استحسنا أن نذكر جزءاً كبيراً من هذه المراجع مرة واحدة هنا.

The Interpretation Dictionary of the Bible, 5 Vols, Nashville, 1954.

The interpretation’s Bible, 7 Vol. of New Testament, Nashville, 1954.

Peak’s Commentary on the Bible, London. 1962

International Standard Bible, Encyclopedia, Grand Rapides, 1947.

Theological Dictionary of the Bible, Commentary Known as Kittle.

The New Bible Dictionary, Inter-Varsity Press, 1976.

  1. Barker, W. Lane, J. Michaels, the New Testament New York, 1969.

Barnett: The New Testament, its Making and meaning, New York, 1946.

  1. K. Barnett: The New Testament Background, Selected Documents, London, 1956.

E.F. F. Bishop: Apostles of Palestine, London, 1958.

  1. F. Bruce: New Testament History, London, 1969.

E.W. Baumann: An Introduction to the: New Testament, Philadelphia, 1961.

  1. Bornkomm: Early Christian Experience, London, 1961.
  2. Conzelmann: A History of Primitive Christianity, Nashville, 1978.

F.R. Grawnfield: A historical Approach to the New Testament, New York, 196…

W.D. Davies and D. Daube:  the Background of the New Testament Eschatology:                                                                  Cambridge, 1956.

      W.D. Davies : Christian Origins and Judaism, London, Darton, Longman and Todd, 1962.

W.D. Davies: invitation to the New Testament London, 1967.

C.H. Dodd : According to the Scripture, London, 1952.

­­­­­­­­­­­————: The Apostle Preaching and its Development, London, 1936.

————-: History and Gospel, London, 1964.

F.V. Filson: Opening the New Testament, Philadelphia, 1952.

Donald Guthire:  New Testament Introduction, 3 Vol. Chicago, 1961.

  1. Dunn: Unity and Diversity in the New Testament, London, 1977.
  2. Henshow: New Testament Literature, New York, 1957.

Archibald M. Hunter: Interpreting the New Testament, Philadelphia, 1963.

————–: Introducing New Testament, Theology, London, 1963.

————–: Introducing New Testament, Theology, London, 1957.

  1. Philip Hayatt : The Bible in Modern Scholarship, New York, 1965.

F.G. Kenyon : The Text of the Greek Bible, 3rd  ed , A.W. Adams, London, 1975.

                                                      الأناجيل الثلاثة الأولى

                                                       وسفر الأعمال

F.F. Bruce: The Acts of the Apostle, 2nd Ed, Grand Rapid, 1953.

Bornkomm, Barth and Held: Tradition and Interpretation in Matthew, London, 1963.

  1. Conzelmann: The Theology of St. Luke, London, 196…

     W.D. Davies: The Setting of the Sermon on the Mount, Cambridge, 1964.

C.H. Dodd: The Parables of the Kingdom, London, 1961.

John Drury: Tradition and Design in Luk’s Gospel, London, 1976.

Xavier Leon-Dufour: The Gospel and the Jesus of History, Fountana Library, 1976.

E.E. Ellis: The Gospel of Luke, London, 1974.

  1. Jeremias: The central Message of the New Testament, New York, 1965.

————-: The Parables of Jesus, London, 1954.

  1. Manson: The Gospel of Luke (M. C.), 193…
  2. Munck: The Acts of Apostles, New York, 1967.
  3. E. Nineham: St. Mark, Penguin Book, 1963.

B.H. Streeter: The Four Gospels, New York, 1956.

                                            كتابات الرسول بولس

C.K. Barrett:  The Epistle to the Roman, New York, Harper, 1957.

————-: A Commentary on Paul’s first Letter to Corinthians, New York, 1968.

F.W. Bearre:  The Epistle to the Philippians, New York, 1968.

  1. Best: A Commentary on the Fist and Second epistle to the Thessalonians, New York, 1972.

F.F. Bruce: Paul A Free Spirit, Paternoster Press, 1977.

————-: 1-2 Corinthians, Philadelphia, 1975.

Bornkomm: Paul, London, 1971.

W.D. Davies: Paul and Rabbinic Judaism, London, SPCK, 1948.

C.H. Dodd:  The Epistle of Paul to the Roman, New York, 1932.

G.S. Dunkan: The Epistle to the Galatians, 1934.

P.N. Harrisson: The Problem of the Pastoral Epistle, London, 1921.

A.M. Hunter: Interpreting Paul’s Gospel, London, 1961.

—————: Paul and his Predecessors, London, 1961.

J.N.D. Kelly’s: The Pastoral Epistles, London, 1963.

T.W. Manson, on Paul and John, London, 1963.

  1. Munk: Paul and the Salvation of Mankind, 1959.
  2. Ridderbos: The Epistles to the Church of Galatia, Grand Rapid, 1976.

Scott: Paul’s Epistle to the Roman, London, 1947.

                                                      كتابات يوحنا

C.K. Barrett:  The Gospel According to Saint John, New York, Macmillan, 1955.

R.E. Brown:  The Gospel According to John, Garden City, N.Y. 1966.

F.F. Bruce: The Epistle of John, London, 197…

C.H. Dodd:  The Interpretation of the Fourth Gospel, Cambridge, 1953.

————-: Historical Tradition of the fourth Gospel, Cambridge, 1963.

————-: The Johannine Epistles, New York, 1946.

  1. Hoskyns: The Fourth Gospel rev. Ed. F.N. Davy London, 1947.

W.F. Howard: Christianity according to St. John, London, 1943.

  1. Morris: Revelation, Tyndale, 1973.
  2. W.R. Stoot: The Epistles of John, Tyndal, 1964.

B.F. Westcott: The Gospel According to St. John, Grand Rapid, 195…

                                   العبرانيين والرسائل العامة

F.W. Beare: First Peter, Oxford, 197…

  1. Best: First Peter, London, 1971.

F.F. Bruce: Commentary on the Epistle to the Hebrews, Grand Rapid, 1966.

  1. Guthire: the Epistle to the Hebrews in Recent Thought, London, 1956.

Dibelius and Greeven: James, Philadelphia, 1976.

  1. Hewitt: Hebrews, Tyndale, 1975.

T.W. Manson: The Problem of the Epistle, to the Hebrews, London, 1951.

———–: Students in the Gospels and Epistle, Philadelphia, 1962.

W.Mason:  The Epistle, to the Hebrews, London, 1951

  1. Moffatt: The Epistle, to the Hebrews, ICC, 1924.

  

 

  

 

نبذة عن الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *