
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
الطريق الصائب لانتظار مجيء الرب
قصدت لجنة الاحتفال أن تجعل موضوع هذا المساء، الطريق الصائب لانتظار مجيء الرب، وقصدت أن يكون هذا الموضوع في خدمة عشاء الرب، وكأنها أرادت أن تذكرنا في نهاية احتفال الصلاة هذا بقول الرسول في (1 كو 11 : 26): “فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء”، ففي هذا القول المأثور ما يحقق لنا في عشاء الرب “إخباراً” و “انتظاراً”، إذ فيه نذكر الماضي، وننظر إلى المستقبل، نلقي نظرة إلى الوراء حيث رب المجد على الصليب، وأخرى إلى الأمام حيث ملك الجلال في مجد المجيء، هنا نتحقق أن الذي أُظهر مرةً عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه، بعد ما قُدِّم مرةً لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه، هنا نؤكد أن الذي مات ودُفن هو الذي قام في اليوم الثالث، وهوالذي صعد مع سحب السماء “مثل ابن الإنسان أتي وجاء إلى القديم الأيام فقرَّبوه قدَّامه فأعطى سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطانٌ أبديٌّ ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض”، اقرأ (دا 7 : 13و14 مع مز 2 ، في 2 : 7 – 11 ، 1 كو 15 : 22و28).
هذا هو “الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء” (أع 3 : 21)، ومنها “سيأتي (ثانية) مع السحاب وستنظره كل عينٍ والذين طعنوه وينوح عليه جميع قبائل الأرض” (رؤ 1 : 7 ، أع 1 : 9 – 11)، هذا هو الذي سيظهر للخلاص للذين ينتظرونه، “فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح، الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كل شيء” (في 3 : 20و21)، وإزاء هذا نتظار نبحث الآن عن:
الطريق الصائب لانتظار مجيء الرب:
أولا: من وجهته السلبية: كأني باللجنة قد أحسَّت أنه يوجد طريقٌ غير صائبٍ لهذا الانتظار، وإني أراه مثلثاً يتضمن في البحث عن ثلاثة أشياء من وجهة مجيء الرب هي: (1) متى يأتي؟ (2) أين يأتي؟ (3) كيف يأتي؟
(1) متى يأتي؟
منذ ما نطق المسيح بموعد مجيئه إلى يومنا الحاضر والناس الذين يهمهم الأمر منشغلون بهذا المجيء، على أن بعضهم أخطأوا طريق الانتظار بانشغالهم بتعيين زمان المجيء، ويظهر من بعض التلميحات الكتابية أن المسيحيين الأولين كانوا ينتظرون مجيء السيد في زمانهم، ومن بعض التعبيرات كالقول “ماران أثا”، الرب يأتي، (1 كو 16 : 22)، وكالقول: “الرب قريب” (في 4 : 5)، وكالقول: “نهاية كل شيءٍ قد اقتربت” (1 بط 4 : 7)، “وهي الساعة الأخيرة” (1 يو 2 : 18)، وكقول بولس: “نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب”، من هذه الأقوال وغيرها استدلَّ البعض على أن يوم الرب على وشك المجيء، حتى أن بعض التسالونيكيين تركوا السعي في أعمالهم المعتادة وسلكوا بلا ترتيبٍ منتظرين مجيء الرب حتى التزم بولس أن يكتب إليهم مصلِحاً هذا الخطأ (2 تس 3 : 11و12)، وقد فعل هذا كثيرون من الناس في كل عصرٍ معينين زمان المجيء، بانين على أرقامٍ حسابيةٍ في نبوَّات دانيال وسفر الرؤيا وغيرها، فحددوا اليوم والساعة، وقد خاب حسابهم فخاب رجاؤهم، وزلّ يقينهم فارتدوا عن الإيمان.
وقد أثبت التاريخ حادثة جرت في لندن تُنبيء أنه قام نفرٌ من الفلاسفة في أحد أيام الأربعاء وأنبأوا أن العالم سينتهي في يوم الجمعة وأقنعوا المدينة بذلك فصرفوا الأيام الثلاثة في بكاءٍ ونوحٍ وصيامٍ مجتمعين في المعابد، تاركين ملذاتهم وشهواتهم، عابدين الرب بعزم القلب بنية التوبة والندامة على عيشة الشر السابقة، وهكذا انتظروا النهاية بهذه الصورة الخشوعية إلى أن جاء يوم الجمعة ولم تصدُق نبوة المتنبئين فانقلبت الحال وصار رد الفعل بما لا يتصوره عقل، إذ تبدلت المعابد بالحانات والنوح بالغناء والرقص والخشوع بالتهكم والاستهزاء، فتأمل.
تقدَّم التلاميذ إلى سيدهم ذات يومٍ لكي يروه أبنية الهيكل، فأنبأهم بأنه “لا يترك ههنا حجرٌ على حجرٍ لا يُنقض”، فقالوا له: “متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟”، وإذا تأملنا مليًّا جواب السيد عن هذا السؤال لا نجد فيه يوماً معيَّناً ولا ساعةً محددةً، بل نرى فيه بالعكس تصريحاً أن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعلم بها أحدٌ ولا ملائكة السموات، وقد ورد في هذا الجواب كثيرٌ من التحذيرات الدالة على هذه الحقيقة، وكل ما جاء في هذا الجواب عبارة عن ذكر علامات كما يسمُّونها إذا تبيناها جلياً لا نرى فيها إلا مجرد حوادث تحدث قبل مجيء المسيح، وهي في حقيقة الأمر حوادثٌ جاريةٌ في أزمنةٍ متعددةٍ لا يختصُّ بها ذلك المجيء، قلا يمكن بها تعيين ذلك الزمان.
أما حقيقة القول في زمان مجيء الرب فتتضح لنا في ما قاله رب المجد لتلاميذه عند صعوده جواباً على سؤالهم له: “هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟”، فقال لهم: “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه”. وأمام سلطان هذه الكلمات الإلهية يجب أن يصمت كل متكلمٍ، ويمسك كل كاتبٍ قلمه، ويوقف كل باحثٍ بحثه قي زمان مجيء الرب، فاليوم في سلطان الآب وحده دون سواه.
“العبد الرديء يقول في قلبه سيدي يبطيء قدومه فيبتديء يضرب العبيد رفقاءه ويأكل ويشرب مع السكارى، أما سيده فيأتي في يومٍ لا ينتظره وفي ساعةٍ لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان”، “لأنه حينما يقولون سلامٌ وأمانٌ حينئذٍ يفاجئهم هلاكٌ بغتةً كالمخاض للحبلى فلا ينجون”، وهل أعطيَ للمؤمنين أن يعرفوه؟ إنه لا يدركهم كلصٍّ ليس لأنهم يعرفون زمانه، بل لأنهم ساهرون منتظرين سيدهم متى يرجع من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت، سواء أتى في الهزيع الثاني أو في الهزيع الثالث من الليل، “اسهروا إذا لأنكم لا تعلمون في أية ساعةٍ يأتي ربكم”، “لذلك كونوا أنتم أيضاً مستعدِّين لأنه في ساعةٍ لا تظنون يأتى ابن الإنسان”، “فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمارٍ وسكرٍ وهموم الحياة فيصادفكم ذلك اليوم بغتةً، لأنه كالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه كل الأرض”.
هل تعلم ملائكة الله بذلك اليوم؟ “ولا الملائكة الذين في السماء” وهم قريبون للعرش، إذ ليس لهم هم أيضاً أن يعرفوا في نظام الفداء وتدبيره الخاص ما لا تعرفه الكنيسة إذ أنهم لا يُعرَّفون بحكمة الله المتنوعة إلا بواسطتها (أف 3 : 10و11).
وهنا آتي إلى أرضٍ مقدسة أقف عليها أمام الابن نفسه إزاء زمان مجيئه فليخلع كل منا نعله من رجليه ويغطي وجهه بجناحي السرافيم وليسمع باحترامٍ قول الابن المبارك: “ولا الابن إلا الآب وحده”، نعم لأنه وهو رب العلم قد أخلى نفسه تحت مشيئة الآب وسلطانه لكي لا يعلم، وكأني أراه قي تدبير الفداء الأزليّ يقطع عهداً مع أبيه، عهد خضوعٍ تامٍ، قابلاً على نفسه أن تكون الأزمنة والأوقات في سلطان الآب فلا يبحث عنها ولا يفكر فيها، بل ينتظر صدور الأمر الأبوي في كل درجات الفداء.
وكأني أتصورالابن إذ جاءت إليه رسالة الآب وصدرت إليه الأوامر السامية، في ملء الزمان جاء مُرسلاً، مولوداً من امرأةٍ، وإذ جاءت الساعة صدر إليه الأمر بالذهاب إلى أورشليم وتسليم نفسه ففعل بعزمٍ ثابتٍ، وإذ حانت النُصرة أرسل الآب ملاكاً ليدحرج الحجر الموضوع على قبر ابنه، الخاضع لسلطان الموت، حتى يصدر له الأمر بالقيامة، وإذ أُعلن الأمر بالحجر المدحرج قام ظافراً بالموت، وإذ حان زمان المُلك سمع الأمر القائل: “اجلس عن يميني” فجلس وسيبقى جالساً إلى حين زمان المجيء ثانيةً كما هو في سلطان الآب، فيتحرك موكب الابن الآتي في مجده، وحينئذٍ يظهر في السحاب. الابن نفسه لا يبحث في زمان مجيئه، وليس له في عهد تدبير الفداء أن يعرفه إذ جعله الآب في سلطانه برضى الطرفين المتعاهدين فهل نبحث نحن؟
(2) أين يأتي؟
في أي مكانٍ يأتي؟ ماقيل في شأن زمان المجيء يقال في شأن مكانه أيضاً، ويمكننا أن نقرر بلا تردد أن المسيح لم يعيِّن مكان مجيئه، وإننا لا نقدر أن نعيِّنه مما جاء في السطور المقدسة، ويجدر ينا إزاء هذا الأمر الخطير أن نسمع السيد نفسه وهو يحذِّر، ويحذِّر بشدة قائلاً: “إن قال لكم أحدٌ هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا، لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آياتٍ عظيمةٍ وعجائب حتى يضلُّوا لو أمكن المختارين أيضاً، ها أنا قد سبقت وأخبرتكم، فإن قالوا لكم ها هو في البرية فلا تخرجوا، ها هو في المخادع فلا تصدقوا، لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضاً مجيء ابن الإنسان” (مت 24 : 23 – 27). فسيأتي مع السحاب كالبرق وتراه كل عينٍ كما أن كل عينٍ ترى البرق في السحاب، ستراه جمبع قبائل الأرض وجميع المؤمنين يلاقونه في الهواء، مختَطفين إليه كما على أجنحة النسور، ويكونون معه كل حينٍ لأنه “حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور”، وإليه تجتمع جميع الشعوب للدينونة حيث يكون كرسيّ مجده، فليس يهمنا أين يكون فإننا سنكون معه على أي حال.
(3) كيف يأتي؟
ماذا تكون هيئة ظهوره في ملكوت مجده؟ لقد مُسح السيد ملكاً بقضاءٍ ازليٍّ: “إني أُخبر من جهة قضاء الرب قال لي أنت ابني أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك” الخ (مز 2 : 7و8)، فهو ملكٌ بمسحة أبيه، ولو أراد ملوك الأرض وأمم العالم أن يقطعوا قيده ويطرحوا عنهم ربطه، ولو قالوا: “لا نريد أن هذا يملك علينا”، “الساكن في السموات يضحك، الرب يستهزيء بهم”، حينئذٍ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه، ويعلن مُلك ابنه على أسماعهم قائلاً: “أما أنا فقد مسحتُ ملكي على صهيون جبل قدسي”، ما كان في القضاء أُعلن بالمواعيد العظمى وتمثل في صورةٍ منظورةٍ قي مملكة أبيه داود إلى أن جاء الوعد بولادته مثبتاً أنه ملك: “ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع، هذا يكون عظيماً وابنُ العليّ يُدعى ويعطيه الرب الإله كرسيّ داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية” (لو 1 : 31 – 33 اقرأ إش 9 : 6و7).
على أن اليهود الذين لهم المواعيد والعهود رسموا لأنفسهم من النبوات التي بين أيديهم عن المسيح صورةً خاصةً لظهور المسيح في ملكه قد اتضح جلياً في ظهور المسيح أنها صورةً مغلوطةً، وليست هي التي قصدتها النبوات، ولا هي التي رسمها الأنبياء، لذلك عند ظهوره لم يقبلوه لأنهم لم يروا فيه تلك الصورة المرسومة في الأذهان، صورة الملك الأرضيّ الذي يجلس جلوساً حرفياً على كرسيّ داود ليخلِّص إسرائيل من أعدائه، وكل ما أتاه المسيح من البينات قولاً وفعلاً لإقناع اليهود أنه المسيا المنتظر الآتي ذهب سُدىً بدليل أنهم بعد طول الزمان وبعد وضوح البرهان جاءوا مرةً يسألونه قائلين: “إلى متى تعلِّق أنفسنا، إن كنت أنت المسيح فقل لتا جهراً”، أجابهم يسوع: “إني قلت لكم ولستم تؤمنون” (يو 10 : 24و25). وكيف يؤمنون والصورة التي في أذهانهم لم تتحقق أمام عيونهم، وكم قد انكسر قلب يسوع عندما سأل تلاميذه سؤاله المشهور قرب نهاية خدمته: “من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟” فجاءه الجواب: “قومٌ يوحنا المعمدان، وآخرون إيليا، وآخرون إرميا أو واحدٌ الأنبياء” (مت 16 : 13و14). فلم يدرك أحدٌ أنه المسيح.
وهل من الغريب أن يعثر فيه يوحنا المعمدان نفسه قائلاً: “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟” (مت 11 : 3)، ولماذا صليب المسيح عثرةً لليهود؟ لأنه قضى على كل آمالهم التي بنوها على المسيا في مجيئه، حتى التلاميذ أنفسهم بعد تعليم ثلاث سنوات قالوا أخيراً أمام الصليب بلسان حال اليأس والخيبة: “ونحن كنا نرجو أن هذا هو المزمع أن يفدي إسرائيل”.
أين النبوات؟ وما هو مدلولها؟ إن الأنبياء أنفسهم تنبأوا “باحثين أيَّ وقتٍ أو ما الوقت الذي كان يدِل عليه روح المسيح الذي فيهم”، ومن كان منهم يدري أن إيليا المزمع أن يأتي هو يوحنا المعمدان الذي جاء ليُعد الطريق أمام المسيح؟ ومن كان يستطيع أن يدرك ذلك مهما فكر لو لم يقل المسيح أنه يوحنا؟ قابل (ملا 4 : 5و6 مع لو 1 : 17 ، مر 9 : 11 – 13 ، مت 11 : 10 – 14).
وهل كان يمكن من النبوات أن يعرف سمعان أن الصبي يسوع الذي مع أبويه هو المسيا المنتظر، تعزية إسرائيل، هذا أمرٌ يستلزم الإعلان الخاص في وقته (لو 2 : 25 – 35) لتحقيق النبوة وإدراك مدلولها، وإعلان صدق ما أنبأت به على حد المبدأ القائل: “أقول لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون أني أنا هو”، مع العلم أن ما يكون لا يحقق النبوة عنه إلا للذين يأتيهم الإعلان الجليّ بنعمة الإيمان الصادق.
ألا يُخشى إذاً ونحن نبحث في النبوات أننا نرسم لأنفسنا ونصور في أذهاننا صورةً لمجيء المسيح في ملكوت مجده لا تنطبق على الحقيقة فلا نعرفه إذا جاء، وتحول هذه الصورة دون قبولنا إياه، عندما يأتي، فتكون الدينونة أعظم. إنه سيُعلن لنا في وقته ما دمنا متمسكين بالانتظار والرجاء بقوة الإيمان، فسنراه ونعرفه، لا بفضل النبوة بل بإعلان الروح يتحقق ما جاءت به النبوة، فلندعه يأتي متى شاء وأين وكيف شاء الآب، ولننتظره في:
الطريق الصائب لانتظار مجيء الرب
ثانياً: من وجهته الإيجابية والعملية: وهذا أيضاً طريقٌ مثلث يتضمن في القيام بثلاثة أمور جوهرية:
(1) إتمام المأمورية العظمى.
(2) الاستعداد لملاقاة الرب.
(3) انتظار مجيئه بالصبر. وبعبارةٍ أخرى، العمل التبشيري وحياة القداسة واحتمال الصليب.
(1) إتمام المأمورية العظمى:
وهي متضمنةٌ في الوصية الأخيرة للسيد لتلاميذه عند صعوده: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر. آمين”، وفي هذه المأمورية نستطيع أن نرى أن مأمورية الكنيسة العظمى هي الكرازة بالإنجيل، فإن كانت تعمِّد أو تعلِّم أو تفعل أي شيءٍ آخر فهي إنما تتمم مأمورية الكرازة ليس إلا، وإن صنعت عشاء الرب فهي إنما تصنعه لكي تخبر بموته وآلامه، وتعلن إنجيل مجيئه بارزاً أمام العيون، وفي نظاماتها وتأديباتها وهيئاتها ما هي إلا “بيتاً روحياً كهنوتاً مقدساً”، بل هي “جنسٌ مختار وكهنوتٌ ملوكيٌّ، أمةٌ مقدسةٌ، شعبُ اقتناء، لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب”. وفي أعمالها ما هي إلا نوراً للعالم، لتضيء في وسط جيلٍ معوجٍ وشرير، وليرى الناس أعمالها الحسنة ويمجدوا الآب الذي في السماء.
فالكرازة إذاً هي المأمورية العظمى التي تقوم بها الكنيسة لرد كل شيء، فإن كلمة الصليب هي قوة الله، وإنجيل الله هو قوة الله للخلاص، وقد استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة.
أما كلمة الكرازة فهي “سيف الروح”، وهي كلمة “حية وفعالة وأمضى من كل سيفٍ ذو حدين”، قادرة أن تحكِّم للخلاص، بل قادرة أن تخلص نفوسنا، ولا غرابة فهي سيف الروح القاطع، روح المسيح الذي كان يكرز مرةً في أيام نوح والذي كان في الأنبياء “يشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها”، والذي فاض على شخصه العجيب بلا كيلٍ عند المعمودية، وكُرز به مناديًّا بالإيمان والتوبة في أيام تجسده، روح الحق الذي به يحل المسيح في القلب، ويجدد ويعزي ويشفع بآناتٍ لا ينطق بها، فإننا الآن لا نعرف المسيح بعد حسب الجسد، إذ يجب: “أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر” (أع 3 : 21)، هذا الروح القادر سيتمم الكرازة بالإنجيل شاهداً للمسيح، وبما له، إلى انقضاء الدهر وسيخبر في العشاء الرباني بموت الرب إلى أن يجيء، ويجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحدٍ، ويأتي بالمختارين من قريبٍ ومن بعيد ليُعد عروس المسيح المجيدة.
هل يأتي المسيح قبل أن تتم هذه العملية، وقبل أن تقوم الكنيسة بمأموريتها العظمى بقوة يوم الخمسين التي لبستها من الأعالي؟ “لا يتباطأ الرب عن وعده، كما يحسب قومٌ التباطؤ، لكنه يتأنَّي علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناسٌ، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة”، هل يأتي قبل أن تكمل عروسه؟ كأني بالروح والعروس وهما ينظران إليه قائلين: “تعال” قد شعرا بأنه يجب أن تتم الكرازة قبل مجيئه فأطلقا النداء: “من يعطش فليأتِ ومن يُرد فليأخذ ماء حياة مجاناً” (رؤ 22 : 12و17).
إذاً يكون أصوب طريق لانتظار مجيء الرب وللقول “تعال أيها الرب يسوع” هو أن نهتم بإتمام مأمورية الكرازة قبل انقضاء الدهور “وأن يُخبر بموته إلى أن يجيء”.
(2) الاستعداد الشخصي لملاقاة الرب:
“لتكن أحقاؤكم ممنطقةً وسرجكم وموقدةً، وأنتم مثل أناسٍ ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس، حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت” (لو 12 : 35و36)، ” أي أُناسٍ يجب أن تكونوا أنتم في سيرةٍ مقدسةٍ وتقوى، منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب” (2 بط 3 : 11و12)، “استعد للقاء إلهك يا إسرائيل” (عا 4 : 12).
يستلزم الاستعداد الشخصي لمجيء الرب أمرين:
أولهما: استعمال هذا العالم باعتبار كونه عالماً زائلاً “سيأتي كلصٍّ في الليل يوم الرب الذى فيه تزول السموات بضجيجٍ، وتنحل العناصر محترقةً وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها، فبما أن هذه كلها تنحل أيُّ أُناسٍ يجب أن تكونوا أنتم؟” (2 بط 3 :10- 12). يجب أن نعيش في عالمٍ يكون هذا حاله في يوم مجيء الرب كغرباء ونزلاء، ممتنعين عن الشهوات العالمية التي تحارب النفس، وأن تكون سيرتنا بين الأمم حسنة (1 بط 2 : 11و12)، لأن كثيرين يسيرون وهم أعداء صليب المسيح، “الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيات. فإن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح” (في 3 : 19و20).
فما أجمل في هذا الصدد أن نتبع مشورة بولس الرسول في قوله: “أيها الإخوة الوقت منذ الآن مقصِّر لكي يكون الذين لهم نساءٌ كأن ليس لهم، والذين يبكون كأنهم لا يبكون، والذين يفرحون كأنهم لا يفرحون، والذين يشترون كأنهم لا يملكون، والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه، لأن هيئة هذا العالم تزول” (1 كو 7 : 29 – 31).
أما ثاني الأمرين: فهو النظر إلى يسوع الآتي جالساً فوق عرش الدينونة. إن يوم مجيءالرب رهيب فيه تسقط تيجانٌ وعروشٌ، فيه تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، وتسقط النجوم، وتتزعزع قوات السماء، وتتزحزح الجبال والجزر من مواضعها، وتهرب الأرض والسماء ولا يوجد لهما موضع، “وملوك الأرض والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء، وكل عبدٍ، وكل حرٍّ أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال وهم يقولون للجبال والصخور اسقطي علينا واخفينا عن وجه الجالس على العرش وعن غضب الخروف، لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف”، نعم متى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذٍ يجلس على كرسيّ مجده، وأمامه يجتمع جميع الشعوب، أمامه يقف الأموات صغاراً أو كباراً، أمامه تُفتح أسفار الأعمال، أمامه يُفتح سفر الحياة قانوناً، وحينئذٍ يُنطق بحكم الدينونة المجيد (قابل مت 24 : 29 – 31 ، رؤ 6 : 12 – 17 ، مت 25 : 31 – 46 ، رؤ 20 : 11 – 15).
الآن هو يتأنَّى في مجيئه، لامتباطئاً في وعده، بل متأنيًّا، “وهو لا يشاء أن يهلك أُناساً بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة” (2 بط 3 : 9)، فهل “تستهين يغنى لطفه وأمهاله وطول أناته غير عالمٍ أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة، ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو 2 : 4 – 6)، لذلك نحترص أن نكون مرضيين عنده (2 كو 5 : 9و10)، ولنعلم أن أحسن طلب لسرعة مجيء يوم الرب هو السيرة المقدسة التي هي القدوة الحسنة المؤثرة في تغيير العالم وتكميل المختارين لإعداد الطريق لمجيء يوم الرب.
(3) الصبر على احتمال المظالم:
جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يُضطهدون (2 تي 3 : 12) فالمؤمنون في العالم معيَّرون ومطرودون من أجل البر، مضطهدون من أجل الإنجيل، متألمون من أجل اسم المسيح. كما هو مكتوب “إننا من أجلك نُمات كل النهار، قد حسبنا مثل غنمٍ للذبح” (رو 8 : 36 ، مز 44 : 22)، وقد رأى يوحنا في رؤياه نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم، رآهم تحت المذبح وسمعهم يصرخون بصوتٍ عظيم قائلين: “حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي ولا تنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض” (رؤ 6 : 9 – 11)، وكيف لا يصرخون ليلاً ونهاراً والمظالم شديدة؟
على أن الله متمهلٌ وقد رآه يوحنا وقد أعطى الصارخين إليه ثياباً بيضاء، وقيل لهم: “أن يستريحوا زماناً يسيراً حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا”، ويعقوب البار وهو شريك المتألمين ورفيقهم يناديهم برفقٍ قائلاً: “تأنوا أيها الإخوة إلى مجيء الرب …. تأنوا وثبِّتوا قلوبكم لأن مجيء الرب قد اقترب، لا يئن بعضكم على بعضٍ أيها الإخوة لئلا تُدانوا، هوذا الديان واقفٌ قدام الباب” (يع 5 : 7 – 11).
وإن كان قاضي الظلم أنصف الأرملة الصارخة إليه من ظلم خصمها “أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً وهو متمهلٌ عليهم؟” إنه ينصفهم سريعاً (لو 18 : 1 – 8)، “إذ هو عادلٌ عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً، وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته، في نار لهيبٍ معطياً نقمةً للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح الذين سيعاقبون بهلاكٍ أبديٍّ من وجه الرب ومن مجد قوته متى جاء ليتمجد في قديسيه ويتعجب منه في جميع المؤمنين” ( 2تس 1 : 6 – 10)، “فكما وُضع للناس أن يموتوا مرةً ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضاً بعد ما قٌدم مرةً لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانيةً للخلاص للذين ينتظرونه” (عب 9 : 27و28)، نعم “إنه ينصفهم سريعاً، ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟” (لو 18 : 8)، فقد يبطيء قدومه حتى يقول العبد الشرير “سيدي يبطيء قدومه”، ويقول المستهزئون “أين هو موعد مجيئه؟” وحتى منتظروه عندما تبلغ الروح الحلقوم وتشتد أزمة الضيق، يتولاهم اليأس من الإنصاف وتقول صهيون “قد تركني الرب وسيدي نسيني”، أما تعزيتنا فهي أنه عندما يأتي الوقت المعيَّن لا يتأثر موعد الآب في مجيء الابن بعدم إيمان الإنسان فلا بد أن يأتي “كلصٍ في الليل”.
إذا لمجيء الرب ثانيةً جانبان جانب إلهي هو جزءٌ من نظام تدبير الفداء يختص بزمان المجيء ومكانه وكيفيته، هذا جعله الآب في سلطانه، وسيعلنه في حينه كما أعلن لسمعان الشيخ وآخرين في المجيء الأول.
أما الجانب الثاني فهو جانب إنساني يتضمن مسئولية الإنسان في انتظار الرب ويقوم بإتمام مأمورية الكرازة بالإنجيل بحسب الأمر الإلهي، وبالعيشة في سيرةٍ مقدسةٍ وتقوى، وفي احتمال المظالم بالصبر والصلاة والإيمان.
فاحذر أيها المؤمن من أن تنشغل بالبحث في الجانب الأول عن القيام بمسئولية الجانب الثاني “لأنه لا بد أننا جميعاً نُظهَر أمام كرسيّ المسيح لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شرًّا” (2 كو 5 : 10).
خطاب ألقاه جناب القس غبريال في خدمة عشاء الرب
في مؤتمر الصلاة سبتمبر 1925