
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
القرض الأفضل
(أم 19 : 17)
“من يرحم الفقير يقرض الر ب وعن معروفه يجازيه”.
تحدثنا هذه الآية عن قرضٍ هو اسمى القروض مكانةً وأقدسها غايةً، لا لنقترض بل لنُقرض، فقد ورد في بركات الله على شعبه ذلك الوعد القائل: “يفتح الرب لك كنزه الصالح، السماء، ليعطي مطر أرضك في حينه، وليبارك عمل يدك، فتقرض أمماً كثيرةً وأنت لا تقترض” (تث 28 : 12)، ومن المفارقات بين الشرير والصديق أن “الشرير يستقرض ولا يفي، أما الصديق فيترأف ويعطي … اليوم كله يترأف ويقرض” (مز 37 : 21و26)، وفي هذه المناسبة عينها جاء النهي المقدس معقباً عليه بالأمر المبارك في الوصية القائلة: “لا تكونوا مديونين لأحدٍ بشيءٍ إلا بأن يحب بعضكم بعضاً” (رو 13 : 8)، فالنهي ضد الاقتراض، والمحبة هي الإقراض.
هذا القرض في لغة الآية ليس مالاً نسلفه لإنسان، بل هو برٌّ وإحسانٌ، هو رحمةٌ ومعروفٌ، على وجه التشبيه، هو أحشاءٌ تتحرك في الإنسان الداخل فتحرِّك الإنسان الخارج، فتفتح اليد بالمال وتتقدم لفعل الخير والتوزيع، وإن قيل أن الأيادي قروضٌ فما هي إلا تلك الأيادي البيضاء التي تحركها تلك الأحشاء، وبلغة الأمر المشار إليه سابقاً يكون القرض في حقيقته ما هو إلا تلك المحبة الصادقة التي هي شمس السماء ترسل أشعتها وفيها الشفاء فتُحيي كل أعمال البر المائتة، “فإن أطعمت كل أموالي، وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس لي محبة قلا أنتفع شيئاً” (1 كو 13 : 3)، ومن أين لنا بهذه المحبة إلا أن تنسكب في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا؟ لأن “الله محبة” (رو 5 : 5 ، 1 يو 4 : 8و16)، وهل صليب المسيح مجرد كسر جسده وسفك دمه؟ أليس هو سكب قلب المحبة فائضاً مضحياً!
أما موضوع عمل الرحمة وفعل المعروف بقوة تلك المحبة السماوية فهو الفقير، ولماذا الفقير؟ ولم لا يتساوى الجميع فلا يكون فقيرٌ ولا غنيٌّ؟ هكذا قضت الحكمة الإلهية، ودبرت العناية الربانية، ورتبت النواميس السماوية، أن “لا تُفقد الفقراء من الأرض” (ثت 15 : 11) وإن فُقدوا فأين الميدان الذي فيه تتبارى قوات البر والإحسان؟ وكيف يتم أمر الله القائل: أنا أوصيك أن تفتح يدك لأخيك المسكين والفقير؟ “وأما من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت فيه محبة الله؟” (1 يو 3 : 17)، “فلا يسرق السارق في ما بعد، بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي من له احتياجٌ” (أف 4 : 28).
هذه الرحمة التي تُصنع مع الفقير، وهذا المعروف الذي يؤدَى إليه، وتلك المحبة التي بقوتها يتحركان، هذه جميعها هي ذلك القرض الذي نقرضه للرب، وبه يقف الرب منا موقف المقترض المديون، وهو تعالى “الذي بيده مقاصير الأرض، وخزائن الجبال له” (مز 95 : 4)، له حيوان الوعر، والبهائم على الجبال الألوف، عنده كل طيور الجبال ووحوش البرية له المسكونة وملؤها (مز 50 : 9 – 12)، ولكنه يأخذ جانب الفقير ويجعل نفسه تحت دين رحمة المعطين ومعروفهم ويقول: “جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني” إلخ، وإذ يقولون يارب “متى رأيناك”، يجيبهم الحق أقول لكم “بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” (مت 25 : 34 – 41)، فهل يشعر الفقير بعار دينٍ بعد أن يأخذ الرب هذا الدين على نفسه واقفاً موقفه؟.
بل، بعد أن ضَمن إبقاء القرض لصانع الرحمة وعامل المعروف، فإنه “عن معروفه يجازيه”، وأي معروفٍ له؟ وهل مِن فضلٍ له في ما يعطي؟ أليس الرب نفسه هو الذي أعطاه قوةً لاصطناع الثروة التي بها يصنع الرحمة ويعمل المعروف؟ بل أليست الرحمة ذاتها هي فعل الله فيه يحركه ويجعله أن ينتدب بسرورٍ لهذا العمل المبرور؟ هذا ما شعر به داود الملك حين انتدب هو ورؤساء أمته لبناء بيت الرب بقلبٍ كاملٍ وبفرحٍ، فأتى بكل ما أعطوا من ألوف الذهب والفضة والنحاس والحديد والحجارة الكريمة بأصنافها عند قدمي الرب قائلاً: “من أنا ومن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب هكذا، لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك” (1 أي 29 : 14، اقرأ 11 – 18).
ولكن الرب الذي تفضل فأخذ دين الفقير عليه، تفضل أيضاً بأن يوفي هذا الدين معتبراً صاحبه صاحب معروفٍ ليجازيه، والجزاء من حُسن العمل، “فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً” (غل 6 : 7)، “وإن من يزرع بالشح فبالشح أيضاً يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد” (2كو 9 : 6)، “النفس السخية تسمن والمروي هو أيضاً يُروى” (أم 11 : 25).
فأحسنوا وأقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً فيكون أجركم عظيماً وتكونوا بني العلي، “فإنه منعمٌ على غير الشاكرين والأشرار، فكونوا رحماء كما أن أباكم رحيمٌ، … أعطوا تُعطوا، كيلاً جيداً ملبداً مهزوزاً فائضاً يُعطون في أحضانكم”، “لأن الله ليس بظالمٍ حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه”.