
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
الكتاب إذ سبق فرأى
(تك 11 : 27 – 32) ، (غل 3 : 8)
“والكتاب إذ سبق فرأى أن الله بالإيمان يبرر الأمم سبق فبشر إبراهيم أن فيك تتبارك جميع الأمم”، أو كما جاءت هذه الألفاظ في سفر التكوين الأصحاح الثاني عشر والعدد الثالث: “وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض”.
جميع الأمم هي جميع القبائل “من كل قبيلةٍ ولسانٍ وشعبٍ وأمةٍ”، من أربعة أطراف الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، من جميع الخلائق من آدم إلى نهاية العالم، “والكتاب إذ سبق فرأى أن الله بالإيمان”، لا بالأعمال، لا بأعمال الناموس، والناموس قد أُعطيَ بعد هذا الوعد، “أن الله يبرر الأمم” بناءً على الوعد الذي أُعطي لإبراهيم “تتبارك فيك جميع قبائل الأرض”، هذا الناموس أتى بعد الوعد بأربعة عشر جيلاً وأكثر، فالوعد ثابتٌ والكتاب سبق الناموس وقال قبل أن يأتي الناموس بأربع مئة وثلاثين سنة، الكتاب رأى، سبق فرأى وسبق فبشر، فالبشارة قبل الناموس، الإنجيل قبل جبل سيناء، الوعد لإبراهيم قبل إعطاء الناموس لشعبه، لإسرائيل، فالبشارة أسبق والإنجيل أسبق، ولم يأت الناموس ليُبطل الوعد أو ليلغي الإنجيل والبشارة، بل جاء الناموس ليعد قصاصاً للمتعدين غير المؤمنين غير المبشرين بالإنجيل الذي بدأ بالوعد لإبراهيم.
ونحن الآن أمام هذا الإنجيل، أمام هذه البشارة التي أُعطيت لأبينا إبراهيم قبل الناموس بأربعمائة وثلاثين سنةٍ، فالكتاب في سفر التكوين سبق فرأى أن الله بالإيمان، لا بالناموس، بالإيمان لا بالأعمال، “سبق فرأى أن الله بالإيمان يبرر الأمم” أعطى الوعد، أعطى البُشرى، “سبق فبشر إبراهيم أن فيك تتبارك جميع الأمم”، وهل الكتاب في سفر التكوين هو الكتاب الذي أُعطي لموسى؟ والذي تحدث به موسى حين كتب قبل أن يأتي جبل سيناء المضطرم بالنار، جبل الزلازل والزوابع والرياح المخيفة، جبل الرعود والبروق وأصوات البوق المرعبة واستعفى الشعب أن يسمعوا للمتكلم على جبل سيناء، وموسى نفسه قال: “أنا مرتعبٌ ومرتعدٌ”.
قبل هذا الجبل أتى “جبل صهيون مدينة الله الحي، أورشليم السماوية … ربواتٌ هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات”، قبل أن يأتي موسى وسيط العهد الأول على جبل سيناء أتى وسيط العهد الجديد قبل جبل سيناء بزمنٍ طويلٍ في هذا الوعد المبارك الذي وعد به الله إبراهيم أن “فيك تتبارك جميع قبائل الأرض”، مدعماً بصيغةٍ أخرى، بعد ما قدم إسحق جاءه هذا الوعد: “يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض”، ففي إبراهيم وفي نسله تتبارك الأرض كلها شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، كل الآفاق من كل قبيلةٍ ولسانٍ وأمةٍ وشعبٍ يتبارك في إبراهيم وفي نسله.
ومن يكون نسل إبراهيم؟ نتقدم قليلاً في هذه الرسالة فنسمع القول: “وأما المواعيد – التي قيلت لإبراهيم – فقيلت في إبراهيم وفي نسله ولا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين”، وكان لإبراهيم أنسالٌ عديدون، بل يقول: “وفي نسلك – واحد – الذي هو المسيح”، تركيزٌ صريحٌ في نسلٍ واحدٍ لإبراهيم هو المسيح الذي فيه تتبارك قبائل الأرض وكل أمم العالم وكل أطراف المسكونة، المسيح، وبهذا المعنى يقول لنا ذات الرسول في رسالةٍ أخرى أنه ليس بحسب الناموس بل بمقتضى الوعد، لأن الناموس لم يكن قد أُعطيَ بعد يوم صدور ذلك الوعد، فيقول في هذا الشأن: ليس بحسب الناموس صار إبراهيم أو نسله أباً لجميع الأمم، لجميع الأمم، أولاداً لإبراهيم، فاحتكار إبراهيم أباً خطأٌ واضحٌ كما قال المعمدان حيث قال: لأن الله كما قال لليهود “لا تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً لأن الله قادرٌ أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم”، وهذا هو قول السيد المسيح وهم يقولون أنهم أولاد إبراهيم، يقول: “لوكنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم”، أنتم أولاد إبليس، ذاك لم يعمل أعمال إبراهيم هكذا أنتم.
إذاً نسل إبراهيم لا عن طريق الأعمال ولا عن طريق الناموس، بل عن طريق وعدٌ مقدسٌ الذي نطق به الكتاب كما يقول موسى، عينٌ باصرة، “إذ سبق فرأى”، ولم يقل عن إبراهيم بعد وهو لم يرى إبراهيم بعد، فالكتاب ليس كتاب موسى ولو أن الذي كتبه موسى، “الكتاب إذ سبق فرأى” قبل كل الدهور المكتوب أزلاً في سفر الحياة الأبدية، الكتاب الأزلي في قصد الله هو الذي سبق فرأى وسبق فبشر إبراهيم بهذا الوعد الذي لا يمكن أن يُمحى.
أما موقف الوعد فهو بالإيمان تكون بركة إبراهيم للأمم: “ويأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات”، من المشارق والمغارب لا من أمةٍ خاصةٍ لا بأعمال الناموس بل بالإيمان.
أولاً لم نسمع ذات الكتاب يعلن لنا إعلاناً صريحاً أنه عندما اختص الله إبراهيم ليريه السماء في نجومها وقال إن كنت تستطيع أن تعد النجوم هكذا يكون نسلك كالرمل الذي على شاطيء البحر، كنجوم السماء التي لا تُعد، وهكذا آمنت سارة بالوعد “وحسبت أن الذي وعد صادقاً”، فمن واحدٍ ابن الوعد، من واحدٍ هو ابن الوعد، من إسحق تتفرق أممٌ، لا عند جبل سيناء بل بالإيمان لا بالناموس ولا بأعمال الناموس، يتبررون بالإيمان كما “آمن إبراهيم بالله فحسب الله له الإيمان براً” لا بالأعمال.
فإذا رجعنا إلى كتابٍ آخر في ذات الكتاب، في ذات كتب موسى: “ملعون كل من لا يثبت في كل ما هو مكتوبٌ في كتاب الناموس ليعمل به”، هنالك نرتعد أمام اللعنة، اللعنة المخيفة، ولكننا نرجع إلى الوعد السابق الذي قيل: “فيك تتبارك جميع قبائل الآرض”، نرجع إلى البركة فتسقط اللعنة ولا نرتجف عند جبل سيناء ولا نرتعب ولا يملأ القلب خوفٌ مرعبٌ، لأنه بالإيمان تصير بركة إبراهيم للأمم، “والكتاب إذ سبق فرأى أن الله بالإيمان يبرر الأمم سبق فبشر إبراهيم أن فيك تتبارك جميع قبائل الأرض”، جميع قبائل الأمم، وكيف يكون ذلك؟ وكيف تُرفع لعنة الناموس؟ وكيف يأخذ الإيمان مفعوله؟
يرينا الرسول في ذات الرسالة أيضاً ضداً للكتاب القائل: “ملعون كل من لا يثبت في كل ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به”، كتابٌ آخر: “ملعون كل من عُلق على خشبةٍ”، والمسيح الذي نال البركة وقع تحت اللعنة إذ عُلق على خشبةٍ ليصير هو بر الله لنا ونحن نتبرر بالإيمان، هذا هو الكتاب الذي سبق قبل الناموس بأجيالٍ عديدةٍ فبشر إبراهيم، وهل نستطيع أن نرجع إلى ما قبل ذلك فنجد بشارةً أخرى في جلود الغنم، الأقمصة التي أعدها الله لتغطية عُري وخزي أبوينا الأولين، قصدا أن يسترا أنفسهما بأوراق التين، بعمل الأيدي، بأعمال البشر، بتفكير البشر، بأذهان البشر ففشلا، خجلاً واختبآ، لذلك أعد لهما الله أقمصةً من جلدٍ من ذبائح الحيوانات، من الدم وبمقتضى هذا البر الذي يلبسنا الله إياه، بهذا المعنى يقول الرائي ثيابٌ بيض، “أشير عليك أن تشتري مني ذهباً مصفىً بالنار لكي تستغني، وثياباً بيضاً لكي تلبس، وكحل عينيك بكحلٍ لكي تبصر”، كل ذلك أعده الله لنا.
فما أجمل أن نرى أخيراً ذلك المنظر الذي رآه الرائي: “نظرت وإذا جمعٌ كثيرٌ لم يستطع أحدٌ أن يعده من كل الأمم والشعوب والقبائل واقفون أمام العرش وأمام (الحمل) الخروف متسربلين بالثياب البيض وفي أيديهم سعف النخل (يعيدون عيد المظال الأبدي) ويصرخون الخلاص لإلهنا ….. وأجاب واحدٌ من الشيوخ قائلاً لي هؤلاء هم المتسربلون بالثياب البيض من هم ومن أين أتوا؟ فقلت له يا سيدي أنت تعلم، فقال: هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسّلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف من أجل ذلك هم أمام عرش الله ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله والجالس على العرش يحل فوقهم، لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد ولا تقع عليهم الشمس ولا شيءٌ من الحر” (رؤ 7 : 11 – 17). يقودهم راعٍ أمين هذا الراعي هو الحمل.
مجداً وشكراً للعزة الإلهية لأجل هذا التدبير العجيب، فلنسمع ولنصغي.
الأزبكية الأحد 11 / 12 / 1977