
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
بعتم – اشتريتم
(إش 52 : 3) ، (1 كو 6 : 18 – 20) ، (1 بط 1 : 13 – 20) ، (رؤ 5 : 8و9)
“مجاناً بُعتم وبلا فضةٍ تفكون”، “لأنكم اشتريتم بثمنٍ”، “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياءٍ تفنى بفضةٍ أو ذهبٍ … بل بدمٍ كريمٍ”، “ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلةٍ ولسانٍ وشعبٍ وأمةٍ”.
بُعتم مجاناً، “مجاناً بُعتم وبلا فضةٍ تُفكون”، “اشتريتم بثمنٍ”، “افتديتم بدمٍ كريمٍ”، “اشتريتنا بدمك لله”.
بيعٌ وفكاكٌ يقابله بيعٌ وشراءٌ، والبيع والفكاك كان من شريعة العهد القديم، عهد موسى، العهد الذي نُقض، إذا بيع عبدٌ عبرانيٌّ لسيدٍ عبراني يصير له عبداً يُشترى بثمنٍ، يصير عبداً ست سنواتٍ وفي السنة السابعة يخرج حراً، هذه هي سنة الفكاك، يفك عقد البيع، يفك عقد الشراء، العقد الذي بيع بموجبه، مُشترى بثمنٍ لمدة ست سنواتٍ فقط، يخرج بعدها حراً، فالعقد يُفك والشراء يزول تأثيره، من هذه الشريعة يؤخذ القول: “مجاناً بُعتم بلا فضةٍ تُفكون”.
والكلام هنا تاريخي يشير إلى تاريخٍ مضى يثبت تاريخاً مقبلاً، فقد كان إسرائيل في مصر عبداً، العبودية مجانية، أشغالٌ شاقةٌ، آلامٌ مبرحةٌ مدة سنواتٍ عديدةٍ، وقد فُك هذا البيع المجاني وخرج الشعب من أرض مصر وهكذا أيضاً من ظلم أشور، ولكن كان أمام إشعياء النبي عبوديةً أخرى، بيع مجاناً أمامه، بابل الذي جاء ملكها نبوخذ نصر لإتمام النبوة وكانت النبوة قبل أن تتم ناريخياً، أتى الملك نبوخذ نصر وسبى الشعب وأخرب المدينة وهدم الهيكل وجعل الشعب مُذلاً زمناً طويلاً، سبعون سنةٍ، وإلى نهاية هذه السبعون سنةٍ ينطق إشعياء ناظراً إلى نهاية هذا السبي قبل أن يكون وقبل أن تتم الحرية من هذا السبي، رأى الشعب ورأى ما تم فيه من قول: “مجاناً بُعتم وبلا فضةٍ تُفكون”. هذه هي شريعة البيع والفكاك في العهد القديم، وإذا قلنا العهد القديم نقصد العهد الموسوي الذي “عتق وشاخ (وصار) فهو قريبٌ من الاضمحلال”، بل قد انتهى واضمحل.
بعتم بيعٌ تاريخيٌّ والإشارة فيه إلى البيع الروحي، فكاكٌ تاريخيٌّ والإشارة فيه إلى الفكاك الروحي لجميع الجنس البشري، فجميع الجنس البشري مباعٌ يتم فيه قول الرسول: “مبيعٌ تحت الخطية”، وتم القول : “مجاناً بُعتم”.
ماذا اكتسبنا وماذا ربحنا؟ وماذا أخذنا إذ بعنا أنفسنا للخطية وللنجاسة وللشهوات الردية، أي ثمنٍ كان لنا؟ أي كسبٍ حصلنا عليه؟ مجاناً بل خسارةً، فالأرواح انزهقت، بل عقاباً أبدياً، مجاناً كل ذلك بلا ثمنٍ، لا كسب فيه البتة، “مجانا بُعتم”، بعتم أنفسكم، ماذا فعلت يا آدم نائباً عن كل الجنس البشري؟ بعت نفسك وبعت جميع البشر معك لشهوة الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة، بعت نفسك إذ أخذت من الشجرة التي أُمرت أن لا تأخذ شيئاً منها، “رأت الشجرة أنها جيدةٌ للأكل وأنها بهجةٌ للعيون وأن الشجرة شهيةٌ للنظر”، جيدةٌ للأكل (شهوة الجسد)، بهجةٌ للعيون (شهوة العيون)، شهيةٌ للنظر (الكبرياء – الارتفاع)، “شهوة الجسد، شهوة العيون، تعظم المعيشة”، لكي أكون مع العظماء، أمراء، في معيشةٍ عاليةٍ في هذا العالم، لنا سلطانٌ عظيمٌ ومراكز القوة، تعظم المعيشة، كل هذا يقول الرسول : من إبليس الذي تصلَّف، امتلأ قلبه بالكبرياء بتعظم المعيشة ليرتفع فوق ابن الله، لم يحفظ مركزه فكانت النتيجة السقوط الهائل، سقط مثل البرق من السماء إلى هاوية الجحيم بقيودٍ أبديةٍ تحت الظلام، هذه هو البيع، الذين باعوا أنفسهم تحت الخطية في آدم وفي أعمالهم الشريرة فيما اختاروه من هذا العالم، أصبحوا مباعين للشيطان لعمل الشر، للفساد، للخطية، لقيودٍ أبديةٍ تحت الظلام.
هذه هي الصورة التي يعلنها لنا الرائي إشعياء: “مجاناً بُعتم”، وماذا كان لنا؟ ليسأل كلٌ منا نفسه أي مكسبٍ يكون لنا إذا أتممنا شهوة الجسد وعملنا شهوتنا العين وتعظمنا في المعيشة؟ ماذا يكون لنا أخيراً في طريق الكبرياء، في طريق البهجة العالمية، في طريق الشهوة الدنيوية؟ قيودٌ أبديةٌ تحت الظلام، مجاناً، لم نكتسب شيء، ماذا اكتسب آدم؟ العار “سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريانٌ فاختبأت”، العار، فقد كان عرياناً لا يخجل ولكن العار، شعر بالعار والاستهزاء، الهزء، مهزلة، مهزأة، عار، اختبأت، ابتعادٌ عن الله، اختفاءٌ عن العزة الإلهية وراء الأشجار، ولكن هل تبقى وراء أشجار الجنة؟ أخرج، فطرده طرداً لكي لا يمد يده إلى شجرة الحياة لأن نهايته، ليس العار فقط ولا الطرد من أمام الله فقط ولا الطرد من الجنة فقط، بل أيضاً للموت، موتاً، مجاناً، الخطية للنجاسة للموت.
على أن الكلمة بعتم هي في الأصل صيغة للمجهول، من هو البائع، الإنسان باع نفسه لم يحفظ الوصية، تعدى، عثر فتكبر حتى شعر بالعار، عثر فطُرد من الجنة، أسلم نفسه للهوان فحُكم عليه، وهنا العامل الأكبر، الحكم الأكبر السماوي، إذ أسلم نفسه للهوان، سُلم للهوان، تُرك ليفعل الشر، بيع وهو لا يدري، حُكم عليه بأنه قد باع نفسه، فقضى الله في البيع وأسلم الإنسان لشهوة نفسه ليفعل كل نجاسةٍ وكل شرٍ “لأنه أحب الظلمة فأتته”، حذر الخير فابتعد عنه، “مجاناً بُعتم”.
هنا أجمل الوعد بعد هذا الإعلان القضائي: “بلا فضةٍ تُفكون”، “مجانا بُعتم” مجانا تُفكون، اشتريتم، افتديتم، كلمتان عظيمتان في تاريخ الفداء البشري، اشتريتم، افتديتم، الشراء والفداء، المباعون اشتروا، الذين تحت سلطان الموت افتدوا، شراء وفداء مجاناً، كما أننا لم ندفع شيئاً لم نكتسب شيئاً إذ بعنا أنفسنا فبُعنا، هكذا أيضاً لم ندفع شيئاً به نشتري أنفسنا، مجاناً بلا فضةٍ، لم ندفع شيئاً في عملية الفداء، افتدينا لا بفضةٍ ولا بذهبٍ من سيرتنا الباطلة التي تقلدناها من الآباء، لا بفضةٍ ولا بذهبٍ، لم ندفع شيئاً، ومن أين نأتي لندفع، ماذا نستطيع أن نقدم عن النفس التي قال عنها السيد أن من أهلك نفسه يفقد كل شيء، من ربح العالم كله وأهلك نفسه فقد خسر كل شيء ولو ربح العالم كله ولو كان السلطان المضمون، ولو كان رئيس الأرض شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً ممتلكاً كل شيء لا ينتفع شيئاً يخسر كل شيء “لأن العالم يمضي” وشهوته تمضي والكل يزول.
افتديتم، لم تدفعوا شيئاً لأن كل شيءٍ لكم، أنتم “غرباء ونزلاء” يقول الرب لنا، الأرض لي وأنتم غرباء فيها، أي مُلك لنا؟ ماذا نستطيع أن ندفع؟ أين الفضة أين الذهب؟ ولو جُمعت فضة العالم وذهب العالم لا تنفع شيئا، لا تستطيع أن تزيل خطأً واحداً.
اشتريتم، إذاً من دفع الثمن؟ اشتريتم بثمنٍ ولو افتديتم مجاناً ولو بلا فضةٍ تُفكون كما يُفك العبد في السنة السابعة لأنكم اشتريتم بثمنٍ ليس منا وبثمنٍ غالٍ لا يُقدر، لا بفضةٍ ولا بذهبٍ ولا بأحجارٍ كريمةٍ، أغنى أغنياء العالم لا يستطيع أن يفتدي نفسه، مالك كل الأرض لا يقدر أن يفدي نفسه، مبيعٌ تحت الخطية، أين الفداء؟ أين الشراء؟ بثمنٍ؟ مجاناً بالنسبة لنا ولكنه في حقيقة الأمر بثمنٍ، لم ندفع نحن فيه شيئاً، لا شيء البتة، ولا كلمة، لا شيء البتة، لم ندفع، فمن دفع؟ أين الثمن؟ وما هو الثمن؟ يقول لنا الرسول بطرس: “بدمٍ كريمٍ كما من حملٍ بلا عيبٍ دم المسيح”، هذا هو الثمن، دم المسيح، هذا هو الذي رنمت له الحيوانات الأربعة والأربعة والعشرين شيخاً نواباً عن كل الخليقة، المفتداة في العالم أجمع وفي كنيسة الرب يسوع التي اشتراها بدمه مرنمين: “مستحقٌ أنت أن تأخذ المجد والكرامة لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلةٍ ولسانٍ وشعب وأمةٍ”، فسنملك على الأرض ملوكاً وكهنةً، هذا هو الفداء، هذا هو الفكاك، هذا هو الشراء، “اشتريتم يثمنٍ”، “افتديتم … بدمٍ كريمٍ”، “اشتريتنا … بدمك”.
وهكذا اتفق الرائي القديم وبنى على هذا الاتفاق الرسل الذين أرسلهم السيد المسيح قال لنا: “بلا فضةٍ تُفكون”، فقال: “اشتريتم بثمنٍ”، فقال: “افتديتم”، فقالوا: “ذُبحت واشتريتنا لله بدمك”، وهنا يلتفت النظر إلى المشتري، إلى المفتدي، إلى الدم المدفوع الثمن، أيُّ دمٍ؟ دم المسيح، ومتى؟ قبل تأسيس العالم، قبل أن يُخلق كائنٌ ما، قبل أن تكون خليقةٌ على الأرض، قبل أن تكون الأرض، منذ تأسيس العالم وقبل إنشاء الخليقة كان الفداء.
“اشتريتم”، “افتديتم لا بأشياءٍ تفنى بفضةٍ أو ذهبٍ من سيرتكم الباطلة (لا بفضةٍ ولا بذهبٍ) بل بدمٍ كريمٍ بلا عيبٍ ولا دنسٍ دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم”، فلم يكن الصليب سوى مجرد مظهر، ولم تكن الجلجثة سوى مجرد منظر، منذ تأسيس العالم، قبل تأسيس العالم ذُبحت أيها الرب المسيح، ذُبحت قبل تأسيس العالم لا في الجلجثة ولا فوق الخشبة لنرتفع إلى فوق، إلى المكتوب أزلاً، إلى القصد الأبوي، لنرجع إلى الآب الذي بحسب قصده السماوي الأبوي “أحب العالم .. وبذل ابنه” فإن كان المسيح قد بذل نفسه إطاعةً لأبيه “أخلى نفسه آخذاً صورة عبد وإذ وجد في الهيئة كإنسان أطاع حتى الموت موت الصليب”، إطاعة، ماذا قال في هذه الطاعة؟ كيف عبر عن هذه الطاعة؟ “يا إلهي” جاعلاً نفسه عبداً، “أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت”، ماذا تريد؟ “أذنيَّ فتحت”، ثقبت أذنيَّ في الباب، أراد أن يفعل بحريته، مستعبداً منذ الأزل قبل إنشاء العالم فماذا يقول؟ هذا ما لنا، اشتريتم.
فما علينا؟ اشتريتم بثمنِ “قمجدو الله في أجسادكم التي هي لله”، يقول لنا كلنا أنتم الآن لستم ملكاً لأنفسكم، لأرواحكم وأجسادكم، أنتم لله، مفتداةٌ، روحاً وجسداً مفتداً لله، أرواحكم وأجسادكم مفتداةٌ فمجدوا الله فيكم.
فماذا علينا؟ افتديتم من سيرتكم الباطلة، فلنترك الباطل ونترك العالم، والعالم باطل باطل، فلنترك الباطل ولنتبع الحق، نترك الفاني ونتبع الأبد، للحياة الأبدية.
ماذا لنا؟ نسجد، نسجد أمام الحمل مسبحين: “مستحقٌ أنت أن تأخذ المجد والكرامة لأنك ذُبحت واشتريتنا لله أبيك”.
أيها الآب أنت الذي رأيتنا في المذلة وأرسلت ابنك لأجلنا، قدسنا لك، ثبتنا فيك، لمجد اسمك الكريم آمين.
الأزبكية الأحد 23 / 7 / 1978