
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
تجربة المسيح في البرية
(مت 4) ، (مر 1 : 1 – 13)
“أخرجه الروح إلى البرية وكان هناك في البرية أربعين يوماً يُجرب من الشيطان، وكان مع الوحوش، وصارت الملائكة تخدمه”.
الروح – الشيطان – الوحوش – الملائكة. الروح القدس – الروح النجس – الوحوش البرية – الملائكة السماوية.
ويسوع هو النقطة المركزية في وسط هؤلاء جميعاً، هذا هو بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله، وهو في سن الثلاثين من عمره، وهي السن القانوني بمقتضى الترتيب الإلهي في النظام الموسوي للدخول في الخدمة المقدسة، وصل يسوع إلى هذه السن، سن الثلاثين، ليدخل إلى خدمته الجهارية وقد صرف هذه الثلاثين سنة في الناصرة خاضعاً لأبويه بمقتضى الشريعة السماوية، إلى أن جاء الوقت، وهو ينتظر الأمر من السماء صابراً بصبرٍ عجيبٍ ثلاثين سنةٍ، حتى يأذن الآب له بالدخول إلى خدمته في السن القانونية.
والآن وهو على أعتاب هذه الخدمة وفي بدء إنجيله الذي كرز به وإعلان الخلاص في خدمته المقدسة، الآن هو في البرية يُجرب، إلى البرية أخرجه الروح، في البرية كان يُجرب من الشيطان وكان مع الوحوش وصارت الملائكة تخدمه، الروح القدس أخرج المسيح إلى البرية، الشيطان جربه، الوحوش آنسته، والملائكة خدمته.
الروح القدس أخرجه إلى البرية وقد أتى به من الأردن حيث كان يعتمد من يوحنا المعمدان، وفيما هو صاعدٌ من الماء رأى السموات قد انشقت وروح الله نازلٌ من السماء عليه بهيئةٍ جسميةٍ، حمامةً بيضاء، رآها يوحنا المعمدان وقد استقرت على هذا الشخص الوحيد وسمع يوحنا أيضاً صوتاً من السماء ينادي، هو صوت الآب السماوي يقول له: “أنت ابني الحبيب”، وفي إنجيل آخر: “هذا هو ابني الحبيب”، فالإعلان مزدوج، إعلانٌ بأن هذا هو ابن الله، إعلانٌ ليوحنا، يعلن ليوحنا بقوله: “هذا هو ابني الحبيب”، وقد قال يوحنا: “أنا رأيت الروح نازلٌ عليه وسمعت الصوت قائلاً…”، وأنا آمنت بمقتضى هذا الصوت وهذا الإعلان بأن “هذا هو ابن الله”، وإعلانٌ لابن الإنسان نفسه من الآب يقول له: “أنت ابني الحبيب” الذي أرسلتك إلى العالم قاحتفظ بهذه الشهادة، وها أنا معك، أنت ابني الذي به سررت، وقلبي معك “مختاري الذي سُرت به نفسي”.
بهذه القوة وبقوة هذا الإعلان أخرجه الروح القدس الذي حل عليه عند المعمودية للوقت من ماء المعمودية من الأردن إلى البرية، كان أول عمل يعمله الروح القدس بعد حلوله على السيد المسيح إذ مسحه للخدمة، كان أول عمل يعمله أن يخرجه إلى البرية، ويقول متى: أنه “أُصعد إلى البرية من الروح”، فالروح عليه ومعه يقوده ويرشده، وهو تحت تأثيرات الروح أخلى نفسه وجعل نفسه تحت قيادة الروح، روح الآب الذي أرسله إليه، وإطاعةً للروح وتسليماً لقيادته وإرشاداته، سار معه بقوته إلى البرية، وكان القصد واضحاً عن الروح أن يبدأ المسيح خدمته الجهارية بالمقابلة وجهاً لوجهٍ مع العدو الألد الوحيد، الشر الكامل والشرير الذي وضع في جلعاد، وهذا يصل بنا الأمر مع السيد إلى البرية أربعين يوماً هنالك في البرية، صائماً، لا يمارس فريضة الصوم، بل مستعدا لهجمات العدو متصلاً بالسماء في بريةٍ قاحلةٍ لا خبز فيها ولا ماء، مجرداً كل اليوم وكل الأيام في معركةٍ مستمرة بعدوه اللدود الذي وضعت العداوة بينه وبينه في كلماته مع تلك الحية: “ملعونةٌ أنتِ من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنكِ تسعين وتراباً تأكلين…. وأضع عداوةً بينكِ وبين المرأة وبين نسلكِ ونسلها، هو يسحق رأسكِ وأنت تسحقين عقبه”.
كان عمله أن يبدأ خدمته بهذه المقابلة مع العدو الذي جاء يسحق رأسه “وإله السماء يسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً”، كما يقول الرسول، ويبين أن الملاقاة مع هذا العدو وجهاً لوجهٍ، العدو الذي جاء ليسحقه بالأقدام ويدوسه وفي ذات الوقت وقد جاء ابن الله لينقض أعمال إبليس، وقد جاء المسيح إلى البرية من الروح مُقاداً به ليبدأ عمله بهذه المقابلة الأولى في الخدمةالجهارية. هكذا كان إبليس وقد سمع أن “هذا هو ابن الله”، وتحقق أن هذا هو نسل المرأة الذي أُعطيَ السلطان ليسحق هذا الشيطان، فأعدّ نفسه ولا بد أنه أعدّ جنوده، وتقابل العدوان شخصياً وجهاً لوجه وبدأت المعركة واشتدت وتسلح ابن الله بكلمة الله بسيف الروح، بكلمة الحق المعلنة من السماء، وإذ بدأ هذا العدو يهاجمه بقوة وبقصد أن يشككه في كونه ابن الله تشكيكاً تاماً “إن كنت ابن الله”، وقد سمع هذا الإعلان ورأى الروح نازلاً عليه من السماء، فقد كان حاضراً بين الجماهير عند الأردن وسمع الصوت عالياً وقوياً ولا بد أنه ارتجف حينئذٍ، ولكنه جمع قواه إذ علم أنه له زمانٌ بعد ولم يأت بعد الوقت الذي يُلقى فيه في بحيرة النار، ولو أنه مقيد بسلاسل الظلام مدوساً بالظلام، فقصد أن يجمع كل قواه لمهاجمة ابن الله الذي جاء ينقض أعمال إبليس.
وهنا نرى سلطانان، سلطان إبليس وملكوت ابن محبته، ولعل من المفروض أن ينتقل الإنسان الذي تُجرى هذه المعركة لأجله “من سلطان الظلمة إلى ملكوت ابن محبته”، إذ يرى الشيطان نفسه أمام ملك الدهور ملك الأبد، الملك المختار من الله ليبيد قوة الشيطان ويبدد كل قوته ويقوى على أبواب الجحيم. فقصد إبليس أن يحول المسيح عن قوة المُلك وسر مملكته أي الصليب فيهاجمه ليحول نظره عن الصليب، عن الذبيحة الكفارية، لذلك قال له عندما قال: “قل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً” ولماذا؟ ألست أنا ابن الله، ألا يقدر أبي أن يُعد لي مائدةً كما أعد المن لإسرائيل وأن ينطق فتأتي الملائكة بالخبز، أنا ابن الله ألا يقدر أبي أن يعد لي مائدةً كما فعل بالشعب أربعين سنةً، إذ أكل الشعب خبز الملائكة، ألا يقدر أن يرسل إليَّ كما أرسل إلى إيليا الخبز واللحم صباحاً والخبز واللحم مساءً، ألا يقدر أن يعولك كما أعال إيليا في بيت الأرملة، وقد أواها وأعالها الله وأمرها أن تعوله، فبأي أمرٍ يخرج من فم الله يعد مائدةً، فلا حاجة لأن أصنع خبزاً وأن يأكل الناس ويشبعوا ويختطفوني لأكون ملكاً. “اذهب يا شيطان”، وهكذا في باقي التجارب عندما قال اذهب فذهب ولكن إلى حين.
وقد وقف أمامه الشيطان، أشبه بالذين شبعوا بالخبز، وظهر له كما ظهر بطرس عند الصليب، قائلاً: “اذهب يا شيطان”، وبموته أباد ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، بذبيحته الكفارية خلُص من يد هذا العدو وأنقذ ونُقل من سلطان الموت والظلمة إلى ملكوت ابن محبته.
هذا هو الشيطان، إبليس، العدو الألد، بقوة الروح القدس الذي أخرجه من البرية هزم قوة الشيطان الذي جربه في البرية.
على أن مرقس تميز بذكر الوحوش والبرية، برية الوحوش، أربعون يوماً مع الوحوش، وهل نقدر أن نتصور هذا المنظر؟ هل نراه في وسط الوحوش والوحوش تشاركه مسالمة كموعد القائل: أقطع لكم عهداً مع وحوش البرية للمسالمة وللسلام، وهل درت الوحوش أن هذا هو الذي جاء من السماء ليعتقها من عبودية الفساد ومن وحشيتها وشرها القاتل إلى حرية مجد أولاد الله، لأن “الخليقة أُخضعت للبُطل ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها”، خطية آدم، وحكم الله على الأرض على الرجاء، وهذا هو الرجاء: “أن الخليقة نفسها ستُعتق من الفساد إلى حرية مجد أولاد الله” في سماءٍ جديدة وأرضٍ جديدة يسكن فيها البر والخليقة كلها تئن وتتمخض متوقعة هذه الحرية وهذا المجد.
وهل نقدر أن نتصور ابن الله بين الوحوش مع عبده دانيال ليلة كان مع الأسود الكاسرة؟ وهل نقدر أن نتصور دانيال وهو نازلٌ إلى الجب وكل الأفكار أنه قد سُحق وكل الأسود تستقبله ضاحكةً مبتسمة لا مكشرة ولا مندفعة إلى إنزاله، بل استقبال حبيب باستقبال الفرح والتهلل والوجوه باسمة، كأنها تبتسم وتهلل وتفرح وتعلن سرورها بكل طريقةٍ ممكنة بحسب طبيعة تلك الوحوش إذا تحررت من وحشيتها، وهل نرى ابن الله مع دانيال كالملاك الذي أنار السجن لبطرس فاستنار به، وصرخ دانيال في نور العهد المقدس مع الوحوش الباسمة فرحاً وابتهاجاً، منظرٌ لم يره في حياته ولم يشعر به، في سلامٍ تام كل أيامه الماضية.
هذا هو الرجاء المبارك أن تنتهي وحشية العالم وشر وحوشه الكاسرة وقوة الافتراس لأولاد الله فتحول الوحوش الوحشية الى الإنسانية “فيسكن الذئب مع الخروف والنمر مع الجدي والشبل والمسمن معاً والعجل أيضاً، ويلعب الطفل على ظهر الشبل، لا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتليء من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر”، تتغير الحياة الوحشية إلى إنسانية، وتصير الخليقة جديدة وأرضٌ جديدة وسماءٌ متجددة، وأن يسكن بينهم البر وعروس الحق و”هوذا مسكن الله مع الناس”، وقد تحققت للسيد بعد أن فارقه الشيطان تلك الحقيقة التي تحققت لشعب إسرائيل في تذمراتهم إذ أرسل الله إليهم خبزاً بيد الملائكة، وكانوا يخرجون من بيوتهم ويرون شيئاً أبيض كالدقيق ويقولون من هو؟ فدُعيَ المن، وكانوا يأكلون المن الذي خرج من فم الرب أمراً إلهياً للملائكة لينزلوا به إلى الشعب، وهذا كان انتظاراً لابن الله في البرية لا ليصنع خبزاً ليأكل بل ينتظر أباه لتخرج كلمة أبيه من فمه ليرسل الملائكة بأمره، فكان منتظراً أمر أبيه، لا يهتم لشيءٍ ولا يقلق لشيءٍ محققاً أن أباه يعتني به في البرية كما اعتنى بالشعب بحسب المكتوب القائل: “أذلك وأجاعك وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه أباؤك لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب”.
وقد أمر الرب وأرسل المَنْ مع الملائكة، أرسل الملائكة في البرية لإعداد المائدة لابنه الحبيب فأكل وشرب والملائكة تخدمه، وهنا إشارة إلى مجد أولاد الله، إذ تنتهي الآجال ويخرجوا من برية العالم بانتصار، وقد عبر السيد عن هذه النصرة العجيبة بالقول: إن السيد نفسه يتكئهم في متكئات الراحة والشبع والسرور والفرح لا الأشياء المادية “لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً بل هو برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس”.
يتكئهم ويعد لهم مائدة شهية روحية تتفق مع روحانيته والأجسام الروحانية، تتفق مع المجد الأبدي، يتكئهم ويتمنطق ويخدمهم “أليس جميعهم (الملائكة) أرواحاً مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” الذين هم أبناء الخلاص، وهل نقرأ – في حياتنا الجسدية – ألا يخرج من فم الآب، وهو الآب: “لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه”، لماذا تقلقون؟، بأي شيءٍ يكون همّكم؟ “فاطلبوا اولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم”.
14 / 11 / 1969