تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الأرشيف » دراسة عن إنجيل مرقس

دراسة عن إنجيل مرقس

الكاتب

الدكتور القس فهيم عزيز 

العميد الأسبق لكلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة 

 

نأتي الآن إلي دراسة كل إنجيل من الأناجيل الثلاثة على حدة ولنبدأ بإنجيل مرقس .

في الدراسات التقوية والتفسيرية للأناجيل الدارسة عادة بإنجيل متى لأنه هو الأول في الترتيب المكاني بالنسبة لها.

أما الدارسون دراسة علمية فيبدأن بإنجيل مرقس لأنهم يعتقدون أنه هو الذي كتب أولا زمنياً ” وأن كاتبي الإنجيلين : الأول ( متى ) والثالث ( لوقا ) قد اتخذاه مرجعاً لهما في كتابة إنجيلهما ، ولعله من المفيد هنا أن نوضح بعض الأسباب التي جعلت هؤلاء العلماء يعتقدون بذلك .

السبب الأول :   هو أن مرقس يعتبر في حقيقة حلقة الوصل ما بين متى ولوقا ، ويظهر ذلك في أنه في حالة اختلاف متى ولوقا في تريب قصة المسيح فأن مرقس يتفق مع واحد منهما ويختلف مع الآخر أي أنه يتفق مع متى ويختلف مع لوقا أو مع لوقا ويختلف مع متى ، ولكن لا يمكن أن يتفق لوقا ومتى ويختلفان مع مرقس لنأخذ مثلا لذلك ( مرقس ص 2 ، 3 ) . مرقس 2 : 1 – 22 مع متى 9 : 1 – 17 ولوقا 5 : 17 – 39 لكن إنجيل متى يختلف عن مرقس ابتداء من متى 9 : 18 – 11 : 42 بينما لوقا يستمر في الاتفاق مع مرقس ترتيب الحوادث .

أما في مرقس 2 : 23 – 3 : 6 فيتفق مع متى 12 : 1 – 14 ولو 6 : 1 – 11 ن ولكن لوقا يختلف بعد ذلك عن مرقس في لوقا 6 : 20 – 8 : 3 بينما يتفق متى ومرقس فيها ما عدا مرقس 3 : 13 – 19 ، متى 12 : 33 – 45 . ولا يرجع لوقا إلي ترتيب مرقس إلا عند 8 : 4 ولكن ابتداء من مرقس 6 : 7 نادراً ما يختلف متى ولوقا عن الترتيب الذي يتبعه مرقس وهذا يدل – كما يقول العلماء أن إنجيل مرقس هو الأساس وحلقة الوصل في ترتيب الحوادث بين الإنجيليين الآخرين متى ولوقا 

        وهناك سبب ثان هو أسلوب مرقس في سرد قصة السيد ، ففي بعض الأحيان يضيف تفاصيل دقيقة في القصة يحاول الإنجيلان الآخران ، وخصوصاً متى ، أن يتخلصا منها مثل جلوس الخمسة آلاف علي العشب الأخضر ( مرقس 6 : 39 و 40 مع متى 14 : 19 ويسوع كان علي وسادة نائماً (مرقس 4 : 38 مع متى 8 : 24 ) ، ووصف حالة المرأة النازفة الدم ( مرقس 5 : 26 مع متى 9 : 20 ، لو 8 : 43 ) ولعلهما كانا يفعلان ذلك لكي أسلوب إنجيل مرقس أيضاً الصراحة التامة في سرد القصة مما جعل البشيرين متى ولوقا يحاولان تخفيف وقع هذه الصراحة قارن ( مرقس 6 : 5 مع متى 13 : 58 ، مرقس 3 : 21 ) وغير ذلك .

       ولعل أهم مثل علي ذلك هو رد المخلص علي سؤال التلاميذ بخصوص سبب التعليم بالأمثال ( مرقس 4 : 11 و 12 مع متى 13 : 13 و14 ) فبينما يذكر مرقس أن الغرض من الأمثال هو جعل ملكوت الله شيئاً غير مفهوم

وغامض، يظهر متى أن غموض الأمثال يتحقق فقط أولئك الذين تعمدوا ألا يفهموها فأغمضوا عيونهم لئلا ينظروا.

   وهناك قانون يسير عليه دارسو النصوص يقول : إنه إذا شابه نصان في كل شيء ولكن كان أحدهما أكثر صعوبة عن الآخر من ناحية القراءة أو المضمون ، فإن النص الأخير يعتبر أقدم من الآخر لأنه من المقول أن الكاتب المتأخر يحاول جهده أن يصقل النص ويجعله أكثر سهولة وقبولا – أما أن يتقلب الأمر فيجعل الشخص المتأخر من النص السهل نصاً أصعب ، فهذا أمر لا يقبله الدارسون بسهولة . وعلى هذا الأساس فقد فهموا من وجود هذه الصعوبات في مرقس شهادة على أنه كتب قبل الإنجيليين  الآخرين ، وأن متى ولوقا البشيرين حاولا بأن يصقلا أسلوبه بطرق كثيرة .

معلومات أولية عن إنجيل مرقس :

قبل أن نقوم بدراسة مفصلة نوعاً عن إنجيل مرقس يستحسن أن نذكر شيئاً عن بعض المعلومات الأولية المساعدة لفهم هذا الإنجيل ، هذه المعلومات يسميها دارسو الكتاب ” المقدمة ” أو ” المدخل ” وهي التي تفتح الطريق إليه .

        كاتب الإنجيل :

يعتقد كثير من الناس ما دام الاسم قد كتب في مقدمة الإنجيل فقد انتهي كل أمر ولم  يعد هناك مجال حتى للسؤاالكاتب.ية الكاتب ، ولكن ليس هذا هو واقع الأمر ، فقد بدأ بعض الناس يتساءلون عندما قرءوا العنوان ” الإنجيل بحسب مرقس ” من يكون هذا الشخص ؟ واستمرت الدراسة المستفيضة في تاريخ الكنيسة وفي شهادة الكتاب نفسه وفي كل العهد الجديد حتى يمكن التأكد القاطع من شخصية الكاتب.

أما عن إنجيل مرقس فإن يوسابيوس في تاريخه الكنسي يقتبس ما قاله بابيلس .

  ” ولقد قال الشيخ أيضاً إن مرقس الذي صار مفسراً لبطرس قد كتب بكل دقة كل ما تذكره من أقوال وأعمال ليس بالترتيب ، لأنه لم يسمع الرب ولم يتبعه ولكن كما قلت قبلا عن بطرس الذي ذكر من تعاليم السيد ما يوافق حاجة السامعين بدون أن يهدف إلي كتابة كل ما قاله الرب وعمله ، وهكذا فصل مرقس ، إنه لم يعمل خطأ واحداً في كل ما ذكره وكتبه . . . ” وهذه هي أقدم شهادة عن مرقس الذي أخذ عن بطرس كل ما كان يعلم به ويذكره من أقوال وأعمال الرب ، وهي شهادة أخذ بها كل الدارسين تقريباً وفي العصر الحديث لم يجد العلماء ما يعترضون به على نسبة هذا الكتاب إلي مرقس . فمن هو مرقس هذا ؟

   لقد ورد ذكر هذا الاسم في سفر الأعمال 3 مرات أولا 12 : 12 حيث ذكر أن الكنيسة كانت تجتمع في بيت أمه ، ويقال إن العلية التي كان يجتمع فيها الصعود كانت هذا البيت ( أعمال 1 : 13 ) ولعلها كانت العلية التي مارس فيها الرب أول عشاء رباني ( مرقس 14 : 15 ، لوقا  22 : 12 . أما المرة الثانية ورد فيها اسم مرقس فهي أعمال 12 : 15 حيث يذكر أن شاول وبر نابا أحضرا مرقس معهما من أورشليم .

والمرأة الثالثة ذكر في قصة رحلة بر نابا وشاول التبشيرية حيث تركهما في فريجية ( أعمال 13 : 13 ) وقد رفض الرسول بولس أن يرافقهما مرة أخري في رحلتهما الثانية وافترق عن بر نابا لهذا السبب ( 14 : 36 – 39 ) .

 وقد ذكره بولس  في رسائله ثلاث مرات أيضاً في كورنثوس 4 : 10 حيث يبلغ الكنيسة تحياته ويذكر عنه أنه ابن أخت بر نابا . ثم في فليمون

 24 حيث يذكر عنه أنه يعمل معه مع آخرين ، وأخيراً تيموثاوس 4: 11عندما يمتدحه ويقرر أنه نافع للعمل جداً ويطلب من تيموثاوس أن يحضوه معه .                      

   وأخيراً يذكر مرقس في 1 بطرس 5 : 13 ” تسلم عليكم التي في بابل المختارة معكم ومرقس ابني “ويلوح أن بطرس كان يعمل مع مرقس في روما في ذلك الوقت ن ويستدل على ذلك أيضاً من شهادة بابياس سالفة الذكر حيث يذكر أن بطرس كان في روما ن مرقس كان معه 

هذا هو يوحنا مرقس في العهد الجديد أما في التقليد الكنسي فإنه يذهب إلي مصر مرتين : المرة الأولي حوالي سنة 37 م حيث أرسله بطرس الرسول فدخل الإسكندرية حوالي سنة 40م ومكث هناك إلي سنة 44م . ثم ذهب مع بطرس إلي روما وهناك كتب إنجيله وفي حوالي سنة 49 م رجع إلي مصر وهناك بقي إلي نهاية حياته يبشر في مصر بكل نشاط وهمة .

هذا هو مرقس في العهد الجديد والتقليد وحيث أن هدف هذه الدراسة هو إعطاء المعلومات فقط فلا داعي للدخول في مناقشات لا طائل تحتها .

تاريخ كتابة الإنجيل:

هناك اختلاف في الرأي عن التاريخ الذي كتب فيه هذا الإنجيل . 

1- الذين يتمسكون بالتقليد المصري يؤكدون أن الإنجيل كتب في منتصف الأربعينات .

2- هناك عالم اسمه س . س تورى Torry  يذكر انه كتب فيما بين  سنة 39 و 40 م بانياً رأيه على العبارة ” فمتى نظر تم رجسة الخراب قائمة حيث لا ينفى ” ورجسة الخراب هي صورة كاليجولا .

وقد وضعت في الهيكل كما يعتقد هذا العالم، ولكن هذا رأي مشكوك في صحته ومبني علي أساس ضعيف

 قال عالم آخر اسمه هارينك إنه كتب في الخمسينات .

معظم العلماء يعتقدون أنه كتب فيما بين سنة 64 – 70م ويبنون عقيدتهم الأمور التالية شهادة إبرينايوس الذي يقول إن مرقس كتب إنجيله بعد موت بطرس وبولس .

ثم أن الإصحاح 13 يصف الحالة في أورشليم قبل خرابها ثم تأكيد الاضطهادات والألامات بعكس الفترة التي كتب فيها وهي في الستينات ومات بسبها بطرس وبولس . ( مرقس 8 : 34 – 38 ، 10 38 و 39 ، 13 : 9 – 13 . . . الخ ).

وأخيراً التأكيد على حرية الأمم مما يدل على أن المناقشة في هذا الموضوع كانت مشتعلة إلي ذلك الوقت (ص7).

هذه الآراء قوية ولا يمكن أن يتجاهلها دارس.

مكان كتابته:

    هناك 3 نظريات بخصوص المكان الذي كتب فيه هذا الإنجيل :  

1- ما قاله كريسستم ( يوحنا فم الذهب ) من أن الإنجيل كتب في مصر ولكن هذا يناقضه أكليمندس الإسكندري وأوريجانوس .  

2- هناك رأي يقول إنه كتب في أنطاكية . فيوحنا الشيخ الذي يقتبس بابياس شهادته كان يسكن في الشرق . ثم أن طهور بعض الكلمات الآرامية في الإنجيل يؤيد ذلك ، ولكن الآراء غير مقنعة .

3- أما غالبية العلماء فيعتقدون أنه كتب في روما. فشهادة إبرينايوس وإكلميمندس الإسكندري يؤيد ذلك، ثم هناك حقيقة تفسير الكلمات الآرامية .

تفسير الكلمات الآرامية : مثل طاليثا قومي ( 5 : 41 ، انفثأ 7 : 34 ) وغير ذلك وإلي جانب ذلك يعطي تفسيراً لعوائد اليهود وطقوسهم بطريقة تجعل القارئ يفهم أنه لم يكتب لجماعة يهود أو قريبين من اليهودية وذلك واضح في ص 7 : 3 و 4 .

   مما يدل على أن القراء غرباء عن الآرامية ، وأخيراً طهور بعض الكلمات اللاتينية في الإنجيل ” دينار ” ، ” لجئون ” كل هذه أدلة قرية على أن روما هي المكان الذي كتب فيه إنجيل مرقس .

        الطابع الأدبي للإنجيل :

للإنجيل طابعه الأدبي الخاص به ومجمل أراء الدارسين عنه ما يأتي:

لقد كتب بأسلوب شعبي بسيط يماثل كثيراُ أسلوب التعامل اليومي الذي ظهر في أوراق البردي والنقوش اليونانية التي وجدت خاصة في مصر.وهو بذلك يخلف عن أجزاء كثيرة فصيحة في إنجيل لوقا وسفر الرؤيا الأعمال ورسالة يعقوب ورسالة العبرانيين . ثم أنه يستخدم الجمل القصيرة الغير مركبة ولهذا يستخدم أداة الربط بكثرة وهي ” و ” ، ” أيضاً ” . الخ.لخ .

ولكن هذا الأسلوب يمتاز بحيوية دافقة ميزت هذا الإنجيل عن غيره من كتب العهد الجديد، وتظهر هذه الحيوية في كثرة استخدام ألفاظ السرعة مثل ” حالا “، ” للوقت “، وتظهر هذه الألفاظ حوالي 41 مرة، مما يعطي القصة حركة سريعة مستمرة. ومما يزيد قصته حركة وسرعة استعمال البشير لما ” المصارع التاريخي ” أي أنه يستخدم الفعل المضارع عندما يذكر قصة عن يسوع، وقد ظهر المضارع التاريخي هذا حوالي 141 مرة في الإنجيل كله ( طبعاً هذا يظهر في اللغة اليونانية ).

وإلي جانب ذلك فالبشير يذكر تفاصيل مثيرة مما يؤكد أن من يذكرها هنا كان شاهد عيان ولم يكن سامعاً من آخرين ، أو قارتاً لقصة كتاب سبقوه ، فالخمسة آلاف أطعمهم يسوع مئة وخمسون خمسون وذلك على العشب الأخضر ( 6 : 39 و 40 ) . ويسوع كان في المؤخرة على وسادة نائماً في المركب ( 4 : 38 ) . وعند ما يقبل الأطفال إنه يحتضنهم ويضع يديه عليهم ويباركهم ( 10: 16 )، وهكذا مما يجعل للقصة قوة وتأثيراً كبيرين.

ويضف هذا الإنجيل عواطف يسوع بطريقة واضحة قوية. فيسوع عندما يسمع الشاب الذي يسأل عن الحياة الأبدية ” ينظر إليه ويجبه ” ( 10 : 21 ) وعندما يقابل المريض ويشفيه فإنه  ” أن ” ( 7 : 34 ) ، ثم يتنهد من قساوة الناس ( 8 : 12 ) ، ولكنه يتحنن عليهم ( 6 : 34 ) ، أحياناً يتعجب من عدم إيمانهم ( 6 : 6 ) ، ويغتاظ من أبعاد الأطفال عنه ( 10 : 14 ) ، ويغضب ويجزن على العناد الجاهل يراه في الفريسيين والكتبة ( 3: 5 ) ، ولم يقدر أن يعمل آية واحدة لقساوتهم ( 6 : 5 ) .  

وعندما يتكلم الإنجيل عن التلاميذ فإنه يذكر أيضاً أشياء جريئة حاسمة فعلامة الأرغفة عندما أشبع الآلاف بأرغفة قليلة لم تؤثر فيهم لأن قلوبهم كانت غليظة ( 6 : 52 ، 8 17 و 21 ) ، وكانوا يحفظون الكلام دون أن يفهموه ( 9: 10 و 32 ) ، وكانوا يتحيرون من أشياء كثيرة يقولها ويعملها ( 10 : 24 و 32 ) ، ولم يقتصر الأمر على تلاميذه ولكن تعداه وبصورة أشد وأقسى إلي أقربائه فقد خرجوا لكي يمسكوه لأنهم حسبوه أنه مختل ( 3 : 21 ). وسامعوه من الشعب كانوا يتحيرون من عملة وتعاليمه ( 1 : 27 ).

هذه الصراحة التامة في كتابة هذا الإنجيل تعطي لقصته كل حيوية ، بل تعطي الإحساس بأنه كان موضوعياً في كتابته ، فلم يتأثر بأي عاطفة ، بل كتب كل ما وجده من قصة يسوع الرب وما سمعه . هذه الصراحة ينفرد بها مرقس البشير دوناً عن أي إنجيلي آخر ،ولعل مثلا واحداً أو مثلين يكفيان لتبيان هذا الموقف المنفرد فبينما يذكر مرقس أن أقرباء السيد كانوا يظنون أنه مختل ، يذكر متى البشير هذه القصة دون أن يشير إلي أي نوقف من أقرباه ( متى 12 : 46 – 50 ) وكذلك لوقا البشير ( لوقا 8 : 19 – 21 ) . أما في إنجيل يوحنا فإن الموقف يذكر بطريقة أخرى ، إذ يكتب أنهم لم يكونوا يؤمنون به ( يوحنا 7 : 5 ).

وهناك مثل آخر : ففي وطنه قابل يسوع عدم إيمان عنيف ن ولهذا يقول مرقس إن يسوع ” لم يقدر أن يضع ولا قوة واحدة ” ( مرقس 6 5 ) ، في حين أن متى البشير يذكر هذه الحادثة ويقول ” ولم يضع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم ( 13 : 58 ) . وما أبعد الشقة بين التعبيرين ، أما لوقا فلم يذكر شيئاً من هذا القبيل مع أنه يذكر الموقف نفسه بتفصيل واسع ( لوقا 16 – 30 ) .

  وهكذا يظهر تفرد إنجيل مرقس بهذه الخاصية مما يجعل لقصته حيوية وموضوعية متمايزتين .

2- اهتمامه بالقصة أكثر من التعاليم :

  وهذه ميزة أخري ينفرد بها مرقس البشير . ويستحسن أن نعمل مقارنة : بين متى لوقا جانب ومرقس من جانب آخر ، وبذلك نستطيع أن نعرف القدر الضئيل لأقوال السيد المذكور في إنجيل مرقس إذا قورنت بالإنجيلين الآخرين، ناهيك عن إنجيل يوحنا . فإذا مرقس بإنجيل متى فإننا تجد الفرق الكبير ، فمثلا تجد في إنجيل متى الموعظة على الجبل ( ص 5 – 7 ) ولا نجد لها أثراً في إنجيل مرقس سوي بعض الأجزاء الصغيرة المنثورة هنا وهناك في مواقف مختلفة ومتعددة ( مرقس 4 : 21 – 25 ) .

وبالمثل في الأمثال فإننا نجد 4 أمثال في (ص 4 ) بينما نجد 7امثلة في الإصحاح المقابل له في إنجيل متى (ص 13 ) . وفي إرسالية المسيح لتلاميذه ( متى 10 ، مرقس 6 ) . ففي متى يلقى تعليمات في 37 عدداً بينما مرقس يذكرها في 6 أعداد فقط ، وهكذا في مقابلة الإنجيلين ، وبالمثل نجد نفس الأمر بينه وبين لوقا .

من هذا يتضح أن مرقس البشير لم يهم كثيراً بالتعليم نفسه مع أنه – كما سنرى فيما بعد – عندما نتكلم عن لاهوته وسلطان المسيح ، كان يعتبر تعليم المسيح عنصراً أساسياً من عناصر سلطانه (1 : 22 ) .

وأهم أنواع التعاليم التي يحتويها إنجيل مرقس ثلاثة : المثل ثم الأقوال ثم الكتابة الرؤية .

الأمثال:

كل الأمثال التي وردت في إنجيل مرقس أربعة فقط وهى مثل الزارع وتفسيره (4 : 2 –21 ) ، ثم النبات الذي ينبت سراً (4 : 26 – 29 )

 ومثل حبة الخردل ( 4 :30 –32 ) ، وأخيراً مثل الكرامين الأردياء، (12 : 3 –12 ) . ولقد قال الرب الأمثلة الثلاثة الأولى في الجليل، ثم ذكر الأخير في أورشليم. وفي تعليم السيد بالأمثال يذكر عنه إنجيل مرقس قولا هو في الحقيقة اقتباس من إشعياء “..وأما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا، لئلا يرجعوا فتغفر لهم خطاياهم (4: 11 و 12 ).ولقد استمر هذا القول لغزاً لدى جميع المفسرين ، إذ كيف يتكلم المسيح بأمثال لكي يغلق على الناس مفهوم ملكوت السموات ؟ وما غرضه من ذلك ؟ هل هو حقيقة يفعل ذلك لكي لا يرجعوا إلى الله فتغفر لهم خطاياهم؟ وهل يتفق هذا الموقف مع مجيء السيد نفسه ورسالته ؟

إن كثيراً من المفسرين يفهمون كلمة “مثل” في هذا المواقف بمعني آخر – خاصة في كلمة الرب نفسه ن وأما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء ( ع 11 ) – أمثال هنا مرادفة لكلمة ” ألغاز ” ، وهي  لا تنطبق فقط علي نوع واحد من تعاليم السيد أي الأمثال ، ولكنها تنطبق علي كل تعاليم كلها هي عبارة عن الغاز لدي هؤلاء الناس لا يستطيعون فهمها . وهذا التفسير ليس غريباً علي الكتاب المقدس .

وعلى هذا فقد المسيح قول إشعياء الذي يصف صدود الناس عن سماع كلمة الله وصفاً ساخراً ، كأن الرب نفسه هو الذي طمس أذهانهم وقلوبهم حتى لا يرجعوا فتغفر لهم خطاياهم . فإذا كان هذا المعنى والتفسير “ألغاز” ينطبق على كل تعاليم المسيح بالنسبة للذين هم من الخارج ، الذين قسوا قلوبهم فهذا لا يضير تعاليمه بالأمثال ،ولا يمكن أن نصفها علي أنها معميات بل هي حقائق عظيمة سامية توضع في قوالب سهلة ،أخذت من حياة الناس لكي توضح لهم هذه الحقائق ، أما هم فلقساوة قلوبهم لم يفهموها ،شأنها في ذلك شأن سائر تعاليمه . فمهما كان نور الشمس باهراً فإنه لا ينفع الأعمى شيئاً.

الأقوال أو إعلان حقائق روحية:

هذا هو النوع الثاني من تعاليم يسوع في إنجيل مر قسا. ويقصد بذلك أن هناك قصصاً قصيرة؛ ومواقف خاصة جاز قيها السيد وتلاميذه، وفي هذه المواقف أعطى إعلاناًُ سامياً وحقيقة روحية عميقة، تكشف عن الأعماق الجديدة التي للعهد الجديد. ولقد ذكر إنجيل مر قس حوالي 19 موقفاً منها، ذاكراً في نهاية كل منها إعلان حقيقة نطق بها المسيح.

2 : 5 – 10 قصة شفاء المفلوج وفيها يعلن السيد : ” أن لا بن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا ” .

2 : 16 و 17 انتقاد الكتبة والفريسيين للمسيح على أنه يأكل مع عشارين وخطاة وفي هذا الموقف يعلن “لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضى ، لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلي التوبة ” .

2 : 18 –22 السؤال عن عدم صيام تلاميذ المسيح وهنا يعلن “هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم ؟ .

2 : 23 –26 قطف التلاميذ السنابل وانتقاد الفريسيين لهم ، وينهى السيد كلامه بالقول “السبت إنما جعل للإنسان لا الإنسان لأجل السبت ، إذن ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً . ” .

3: 1 –6 شفاء يد الرجل اليابسة في السبت، فيها يتساءل السيد ” هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر تخليص نفس أو قتل ؟ .

3 :22 –26 اتهام الكتبة إياه أنه ببعلزبول يخرج الشياطين فقال “كيف يقدر شيطان أن يخرج شيطاناً وإن انقسمت مملكة علي ذاتها لا تقدر تلك المملكة أن تثبت “

3 : 31 –35 أقرباء المسيح الحقيقيون “من أملا وأخواتي ؟ ها أمي وأخواتي لأن من يصنع مشيئة الله هو آخي وأختي وأمي ” .

7 : 1 –8 عن غسل اليدين وعادات اليهود يقول السيد رداً علي انتقادهم للتلاميذ . لأنهم لم يغسلوا أياديهم ” حسناً تنبأ عنكم إشعياء ،  هذا الشعب بكرمي بشفتيه . . ” .

7 –    – 13 إعلان يسوع عن القربان : ” . . . لأن موسى قال أكرم أباك وأمك . . ” .

9 : 38 و 39 يوحنا يذكر لسيدة أنهم منعوا شخصاً يخرج الشيطان باسمه وهو ليس يتبعهم يقول السيد ” لا تمنعوه لأن ليس أحداً يصنع قوة باسمي ويستطيع سريعاً أن يقول على شرا ” .

10 : 1 – 9 عن الطلاق والزنى إذ يقول ” من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية . . “

10: 13 – 16 عند تقديم الأولاد ليباركهم يقوم ” دعوا الأولاد يأتون إلي. . . ” .

11 : 27 – 33  عندما سأله رؤساء الكهنة عن السلطان الذي له لكي يخرج الباعة من الهيكل ” فسألهم يسوع بدوره ” وأنا أسألكم . . معمودية يوحنا من السماء كانت أم من الفريسيين له بكلمة  ” . . 12:ا ما لقيصر وما لله لله”.

12 : 18 – 27   عن القيامة وقصة المرأة التي صارت زوجة للسبعة قال ” . . ” أليس لهذا تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله. . . ” .

12 : 28 – 34   الوصية الأولي في الناموس قال يسوع ” . . تحب الرب إلهك وتحب قريبك كنفسك ” .  

12 : 35 – 37   عن المسيح وكونه ابن داود ” كيف يقول الكتبة إن المسيح ابن داود لن داود نفسه يقول بالروح القدس قال الرب لربي  . . . ” .

12 : 41 – 44  عن فلس المرأة إذ قال السيد ” الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة . . . ” .

13: 1 – 2     عن خراب الهيكل إذ علن أنه ” لا يترك حجر على حجر لا ينقض “.

هذه هي المواقف التي أعلن فيها السيد الإعلانات الجديدة ويظهر من دراستها أن البشير في ذكره لهذا المواقف والإعلان كان ينبر بالأكثر على هذا الإعلان ويعتبره الجزء الأهم في القصة كلها، وما والمواقف إلا إعداداً لهذا الإعلان السامي.          

3- الكتابة الرؤية:

  ما نقصده بالكتابة الرؤية هو ما جاء في ص 13 ولعل هذه التسمية غير صحيحة في كثير من جوانبها، فالجزء الرئوي في هذا الإصحاح لا يتعدى 13 عدداً وهي أعداد 7 و 8 و 14 – 20 24 – 27. والكتابة الرؤية ، وهي التي كتب بها سفر الرؤيا وأجزاء من سفر دانيال ، تتلخص في وصف الحروب والصراع الذي بين الله وشعبه من ناحية والشرير أو الشيطان ومن له من ناحية أخري ، وصفاً تتدخل فيه القوي الطبيعية من زلازل وبراكين وسقوط نجوم من السماء ، وتظهر فيه ألغاز يمكن حلها إذا عرف مفتاحها ، ولا بد أن ينتصر شعب الله أخيراً ويملك الله . هذا هو أسلوب الكتابة الرؤية. ومقياساً على هذا نستطيع أن تقول إن هذه الأعداد السابقة الذكر تشابه إلي حد كبير هذا النوع من الكتابة مع أنها تختلف في بعض نواحيها. ” فمثلا لماذا لا نجد في نهايتها وصفاً لنهايةالرؤية. وإلقائه إلي أسفل ؟ ووصفاً للدينونة النهائية وزوال الشر من الوجود ؟ هذه العناصر التي لا بد من وجودها في الكتابة الرؤية .

لكن إلي جانب هذا الجزء يوجد باقي خطاب المسيح ، ولكن سنبقي دراسة هذا الإصحاح كله إلي أن نصل إلي الجزء الخاص بلاهوت إنجيل مرقس لكي نتفهم معناه .

      نظرية نهاية الإنجيل :

في النسخة العربية التي بين أيدينا ينتهي الإنجيل عند 16: 20، ولكن هناك مشكلة كبيرة بخصوص الأعداد 9 – 20 من هذا الإصحاح وتتلخص المشكلة في أمرين:

هل هذه الأعداد 9 – 20 أصيلة في الإنجيل ، بمعني هل كتبها مرقس في نهاية إنجيله ليختمه ؟ ظهر هذا السؤال نتيجة لعاملين جداً : الأول هو أن أهم مخطوطتين قديمتين وهما الفاتيكانية . والسينمائية لا توجد بهما هذه الأعداد . وكذلك مخطوطات أخري أقل أهمية منهما إلي جانب ذلك عدد كبير من الترجمات القديمة المعتمدة مثل السريانية والآرامية .

ويتصل بذلك أن بعض المخطوطات والترجمات تتضمن نهايتين إحداهما كبيرة 9 – 20 والأخرى صغيرة ، ومنها الترجمة القبطية الصعيدية والبحيرية وفي مخطوطة واحدة لاتينية قديمة لا توجد سوي النهاية في الصغيرة ولكنها لا تحتوي على الأعداد 9 – 20 .

وإلي جانب هذه النهايات المختلفة يظهر . وخاصة في اللغة اليونانية ـ  اختلاف واضح في الأسلوب بين الأعداد 9 – 20 وبقية الإنجيل والكلمات المستعملة فيه . وكذلك فإن من يدفق الدراسة فإنه يدهش لما بيديه ( ع 9 ) بخصوص مريم المجدلية كأنها ذكرت للمرة الأولي في الإصحاح لأنه يحاول التعريف بها نفس الوقت الذي يذكرها في العدد الأول على أنها شخصية معروفة ولا تقل في ذلك عن مريم أم يعقوب وسالومة.

على أساس هذين الاعتبارين فقد اعتقدت الغالبية العظمي من الدارسين أن هذه النهاية ليست من وضع البشير نفسه ، وأنها قد أضيفت إلي الإنجيل بعد ذلك .

2- وهنا يواجهنا الأمر الثاني وهو أن العد 8 الذي يظن العلماء أنه نهاية الإنجيل لا يصلح أن يكون نهاية ، فالجمة الحرفية له تنتهي بكلمة ” لأنه ” ولا يعقل أن ينتهي كتاب هكذا ، وليس ذلك فقط ، بل كيف يمكن لمرقس وهو الإنجيلي الذي يظهر رسالة الإنجيلي في أول كتابه وأن ملكوت قد جاء بنهي هذا الكتاب نفسه بوصف حالة النساء بأنهن كن خائفات – إن المنطق لا يقبل ذلك .

وعلى هذا الأساس ينتهي الدارسون إلي النتيجة المنطقية بأن مرقس لم يترك إنجيله هكذا ، لابد وأنه كتب له نهاية ولكنها فقدت لسبب ما , كأن قطعت الورقة أو تشوهت الكتابة ، وإلا فإن مرقس عندما وصل إلي العدد 8 حدثت له حادثة منعته عن التكملة .

إن كل شيء جائر إلا ينتهي الإنجيل بنهاية عدد 8.

هذه هي مشكلة النهاية ، ويلوح أن أحد الكتبة الأقدمين أضاف النهاية الصغيرة التي ذكرت من قبل لكي يتفادى النقص الموجود في النسخة التي بيده . ثم أضيفت النهاية الكبرى لإعلان ظهور المسيح لتلاميذه وإرساله لهم وذلك في أسلوب مختصر يحتوي على ظهورات كثيرة في أعداد قليلة بخلاف الأناجيل الأخرى

هذا ما يؤكده الغالبية العظمي للدارسين .

ولاستكمال الدراسة يستحسن أن بذكر هنا النهاية القصيرة التي وجدت في الترجمة القبطية وبعض المخطوطات اليونانية الأخرى وكل ما أمروا به أخبروا به بطرس ومن معه. وبعد هذه الأمور ظهر يسوع نفسه ومن الشرق إلي الغرب أرسل معهم الكرازة المقدسة الباقية دائماً . . الكرازة بالخلاص ” .

رسالة إنجيل مرقس :

   ما هي الرسالة ينفرد بها هذا الإنجيل ؟

 1 – إذا اعتقدنا أن إنجيل مرقس هو أول إنجيل كتب فهذا يعني أن القديس مرقس قد أوجد نوعاً جديداً من الآداب لم يكن معروفاً من قبل . فمن يقرأه قد يظن تاريخ حياة لأنه يجد فيه قصصاً من حياة ورسالة يسوع. ولكن كما سبق وقلبا، لم يكن هذا الإنجيل يهدف إلي هذا أساساً. إنه لم يذكر هذه القصص لكي يعرفنا بتاريخ حياة السيد، ولكنه كان يقصد شيئاً آخر يظهر بمجرد أن يبدأ الدارس في القراءة إنه يبدأ بالقول بدء إنجيل يسوع المسيح ” ابن الله “. إن هذا الكتاب مملوء بالعقيدة والتفكير اللاهوتي، ولكنه مع ذلك لا يمكن أن نعتبره كتاب لاهوت أو مقالة لاهوتية كتبت لهذا الغرض.

إن أصدق وصف لهذا النوع من الكتابة أنه ” كرازى ” kerygmatic  ، إنه إعلان خبر أو حقيقة للمجتمع، وهو يستخدم القصص التي حديث في حياة هذا الإنسان ، يسوع الناصري ، وعقيدته فيه ، لكي يوضع هذه الحقيقة أو هذه الحادثة الجديدة ويشرحها . إنه إنجيل . وهذا يعني أن المادة التي يحتوي عليها لها خاصة بالبشارة المسيحية الأولي تسجلها كير جما kerygma   وفي هذا لبشير مرقس مع من تبعوه في الكتابة مثل القديس متى والقديس يوحنا . 

     2- إذا استرجعنا ما سبق وقيل عن المميزات الأدبي لهذا الإنجيل، كاهتمامه بالقصة والخبر أكثر من التعليم، وطريقة تقديمه للمادة التي لديه، والأسلوب الذي كتب به. . ذلك الأسلوب الحي المتدفق، فيجب أن نذكر هنا أنه كتب هكذا الهدف والغرض أساسي سوف نعرفه بعد أن نذكر صفة أخرى في إنجيل مرقس. لقد قيل عنه بحق، إن أساسه هو قصة آلام السيد، أي قصة الأسبوع الأخير بما يتخلله من مجابهات وآلام ثم موت السيد وقيامته هذه القصة تسبقها مقدمة طويلة تمهد لها. فحجم قصة أسبوع الآلام الأخير . أقل قليلا من نصف الكتاب ، وقد ذكرت بتفاصيل دقيقة ، وتتابع يومي لا مثيل له في بقية الإنجيل ، مما يدل علي أن هذا الأسبوع وما حدث فيه وما تبعه بعد ذلك كان الهدف الأساسي من الكتابة ويلاحظ القارئ لهذه المقدمة الطويلة أنها تقوده بالتدريج وتكشف له الغطاء رويداً رويداً ، فكلما تقدم في القراءة كلما أحس أنه يقترب من قصة الآلام ، أو من مثل هذه النهاية التي ينتهي بها الكتاب . . ولعل أهم مثال لذلك تلك الأقوال التي نطلق بها السيد مشيراً موته وألمه وقيامته بدأ بالتلميح ، إلي ذلك ، ثم بدأ يكشف رويداً وتدريجياً حتى يتمكن من وضعها في قلب وعقل هؤلاء التلاميذ ، لكي يتحملوا الصدمة ولا يتحطموا نهائياً عند حدوثها . فبدأ بالصيام : إنهم يصومون رفع العريس عنهم ( 2: 20 ) ثم تقدم إلي وصف الصراع الذي دار بين السيد والفريسيين ( 3 : 5 ) ثم إلي التصريح العلي بقتله ( 8 : 31 ) ، وهكذا سار ( أنظر 9 : 12 و 31 و 10 : 33 و 34 و 38 و45 و 12 : 9 – 8 و 14 : 8 و 17 – 21 و 22 – 25 و 27 و 34 و 36 – 38 و 41 و 42 و 48 و 49 ) . وبهذا الأمر يكشف الإنجيل أن الهدف الأساسي لعمل السيد وتعاليمه هو هذا العمل الأخير وهو ألمه وموته وقيامته من بين الأموات.

ولكن في هذا الجو . . جو الألم لا يرسم الإنجيل صورة مقبضة لمسيح مظلوم : كشاة سيف إلي الذبح وهو منكسر ويستسلم لأعدائه دون مقاومة لأنه  ضعيف لا يقدر أن يفعل غير ذلك . . كلا هذه ليست الصورة الأساسية للسيد، أنه بنفسه إلي أورشليم مثبتاً وجهه (10: 1 و 32 – 34 ) فيذهب إلي المكان والجماعة التي ستقتله. إنه يواجه الفريسيين بكل شجاعة لكي يعلن لهم الحقيقة والحق ، حتى ولو أدي ذلك إلي مؤامرتهم عليه لكي يقتلوه ( 3 : 5 و 6 ) ويتحداهم في شرهم ويخرج تجارتهم من بيت الله بسوط من حبال ، ( 11 ، 15 – 18 ) . وفي محاكمته أمام جميع ممثلي قوي العالم اليهودي والروماني وقف يشهد ، ويمتنع عن الكلام ، كما يجد الوقف مناسباً لذلك . ( 14 : 61 – 65 ، 15 : 2 – 5 )             

3- وهناك أمر آخر ينبر عليه الإنجيلي في كلامه عن السيد، وذلك عندما على الأعمال العظيمة يقوم بها يسوع.

فبعد أن قام السيد بكثير من أعماله العظيمة أوصي الذين شفاهم أو الذين رأوا أعماله يظهروه أو يتكلموا عنه كمسيا ” فعندما أرادت الرواح التي طردها من المرضي أن أخر سها وأمرها بألا تتكلم بما تعرفه ( 1 : 25 و 34 ، 3 : 11 ) والذين رأوا معجزاته أو اختبروها أمرهم ألا يذيعوها ( 1 : 44 ، 5 : 34 ، 7 : 36 ، 8 : 26 ) . واستمر يفعل ذلك حتى بعد اعتراف قيصرية فيلبس ( 8: 30 ) وبعد أن أظهر نفسه لتلاميذه علي جبل التجلي ( 9: 9 ). واتسمت تعاليمه كذلك بالسرية ، فعندما كان يشرع أسرار ملكوت السموات لم يكن معه غير تلاميذه ( 4 : 10 – 12 ) وفعل نفس الشيء في تعليمه عن آلامه وموته ( 8 : 31 ، 9 ، 10 : 33 ) ، وعن المجيء الثاني ( 13 : 3 – 37 ) . وكانت له رحلات سرية يقوم بها وهو لا يريد أن يعلم أحد بها ( 7 : 24 ، 9 : 30 ) . وهكذا فرض السيد سرية تامة على شخصيته وهويته ولم يرد أن الجماهير تعلم بها. فلماذا ، ولماذا ينبر مرقس على هذه الحقيقة أكثر من أي إنجيلي آجر ؟

إن السبب الرئيسي وراء ذلك هو تلك الفكرة الخاطئة التي كانت تملأ عقل الناس عن نوعية المسيا ، وأعلن السيد مسيانيته ( أي مرة مركزه كمسيا ) فحاول الناس أن يثنوه عن رسالته الأصلية وطلبوا منه رسالة أخرى خاطئة ، ليست لها صلة بعمله لا بما أراد أن يتممه في الأرض . فقد حاولوا أن يخطفوه لكي يجعلوه ملكاً يذكر يوحنا ذلك ( يوحنا 6 : 15 ) . وقد فعلوا ذلك عندما أشبع بطونهم وجوعهم بالخبز . إنهم يريدون مسيا نسجوه هم من حاجتهم الجسدية ، وخيالهم الأرضي ، أما مسيا يتألم ، مسيا يطيع الآب ، مسيا له ملكوت ليس من هذا العالم ، يشفي الناس من الخطية الشر ، فهذا ما لم يخطر لهم على بال . إن خطأ الفكرة عندهم جعلته يطلب من كل من عرفوه ألا يتكلموا عن ، حتى يقوم من الأموات ، وبذلك يكشفون بكيفية حاسمة نوع مسيانيته ، وبذلك يؤمنون لا بما صورته خيالاتهم بل بالمسيح المخلص ن المسيح عبد الرب الذي جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك .

هذه الحقيقة الني بذكره الإنجيلان أن متى ولوقا ينبر عليهما إنجيل مرقس بتأكيد أكثر ، فهل كان هناك سبب خاص به وراء اهتمامه الزائد بها ؟ نعم وسنكتشف أن الموقف الخاص دفعه لكتابة إنجيله جعله يفعل ذلك.                 

     4- ومع ذلك فإنجيل مرقس يكشف حقيقة أخرى مناقضة للحقيقة السابقة تماماً ، فيذكر قصة جماعة أخرى عرفت حقيقة يسوع معرفة صحيحة وكاملة . معرفة لا يمنعها السيد بل بالحري يشجعها . كان ذلك في حادثتين هامتين ، اختتمت أولا هما النصف الأول من إرسالية السيد وهي اعتراف بطرس العظيم في قيصرية فيلبس ( 8: 29 ) وجاءت الثانية في اختتام النصف الثاني من هذه الإرسالية الفدائية وهي اعتراف قائد المائة وهو ينظر السيد على الصليب ( 15 : 39 ) الاعتراف الأول من رجل يهودي يمثل اليهود ، والاعتراف الثاني من رجل أممي يمثل الأمم . وتتميز هذه المعرفة بأمرين في غاية الأهمية: الأمر الأول هو أنها معرفة لا تعتمد على المظاهر بل يمكن أن يقال بكل ثقة إنها معرفة حقيقة بشخصية السيد رغم المظاهر القاسية التي لا توحي بها. لهذا يقول السيد لبطرس ” طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحما ودماً لم يعلن لك ولكن أني الذي في السموات ” أنظر متى 16 : 16 ) . وهل كان يمكن لقائد مائة أممي لا يعترف إلا بالقوة والشجاعة البدنية في الحروب أن يعترف بإنسان مهان محطم الجسد ، وقد رفع على الصليب ، لا حول له ولا قوة عالمية ، ويقول عنه إنه ” ابن الله ” إنها معرفة لا تنبع من الأرض بل من السماء . أما الحقيقة الأخرى التي تتميز بها بطرس بالمسيح حتى أعلن لهم السيد أن ابن الإنسان سوف يسلم إلي أيدي الكهنة والشيوخ ويقتل ، وكانت معرفة قائد المائة بالسيد على الصليب نفسه ، حين قتلوه . في هذا الجو بزغ نور المعرف الحقيقة، وظهرت شخصية المسيح وعرفوه من هو. كان هذا أمراً غريباً ، ففي وقت القوة والانتصار على القوات المعادية ضل الناس عن معرفته ولكنهم عرفوه على الحقيقة في وقت الألم والضعف ، فهل كان البشير يقصد هذا عند كتابته ذلك ؟

     5- من كل ما تقدم ، يمكننا أن نتلمس حقيقة هامة يرجح أنها كانت تحدو القديس مرقس في انتخابه للمادة وضعها في إنجيله فقد أرشده روح الله القدوس أن ينتقي من حوادث حياة السيد وتعاليمه ما يلاءم الرسالة التي من أجلها كتب هذا الإنجيل . فالسيد في هذا الإنجيل يقوم بعمله في إطار ومواجهة الأزمة ، فهو لم يكن يعمل ويتكلم من واقع لا صلة له بالحياة أو ترف أو إظهار قوته سلطانه الشخصي بقصد الاستعراض كما كان يفعل معاصروه ، ولكنه كان بفعل ذلك في مواجهة أزمة بل , أزمات متتالية . فأهم إعلاناته قالها في مواجهة التحدي الشديد الذي واجهة به اليهود. ففي بدء خدمته نجد خمس مواجهات حادة ( 2: 1 – 3: 6 ) وهي: غفران: الخطايا (2: 1 – 12 ). ثم مخالطته للعشارين والخطاة ( 2 : 13 – 17 ) ، الصوم ( 2 : 18 –23) ، السبت ( 2 : 23 – 28 ) . الشفاء في يوم السبت ( 3 : 1 – 6 ) . وكانت هذه المواجهات كلها في الجليل . وفي  مقابل ذلك كانت هناك خمس حوادث أخرى فيها مواجهات مع اليهود في أورشليم ، وكان ذلك في أو أخر خدمته وقيامته ( 11 : 27 – 12 : 37 ) . وهي : سلطان لتطهير الهيكل . ( 11 : 27 – 33 ) غضبهم منه من أجل مثل الكرامين القتلة ( 12 : 1 – 12 ) ثم مسألة الجزية لقيصر ( 12 : 13 – 17 ) . ومشكلة القيامة ( 12 : 18 – 27 ) وأخيراً عن صلة المسيا بداود كيف يكون ابنه وربه في نفسر الوقت ( 12 : 35 – 37 ) . ويذكر القديس مرقس بين هاتين المجموعتين من المواجهات الأولي والأخيرة في حياة السيد مواجهتين أخريين : اتهامهم إياه بأنه ببعلزبول يخرج الشياطين ( 3 : 22 – 30 ) ثم المناقشة الطويلة عن الطاهر والنجس ( 7 : 1 – 23 ) . في كل هذه المواجهات يعطي السيد الإعلانات التي تكشف عن نفسه وعن سلطانة الذي يرتقي إلي سلطان الله نفسه. 

      وظهرت شخصية يسوع في المواجهة لحاجة الإنسان الملحة وفي إسعاف المحتاجين ابنه الوحيد يعرف حاجة الإنسان العميقة كما يظهر ذلك في غفران خطايا الرجل المفلوج ( 2 : 1 – 12 ) وشفاء الرجل الذي به اللجئون ( 5 : 1 – 20 ) .

     لقد واجهته القوى الأخرى كالشياطين، والوحدة المؤلمة لكنه انتصر، كما حدث في نصرته في تجربته في البرية (1: 12 و13و 24 -17 و 24)

     كما واجه الطبيعة والبحر المهتاج بالأعاصير وبكلمة واحدة أعادها للهدوء ( 4 : 37 – 41 ) في كل هذه المواقف أعلن السيد نفسه ، وقد جمعها القديس مرقس معاً في كنابه .    

  • من كل هذه التحليل والدراسة لإنجيل مرقس من حيث الأسلوب الذي كتب به البشير الإنجيل والمادة التي جمعها فيه والطريقة التي رتبت بها هذه المادة ينتج أمراً هاماً وهو أنه كان يقصد أن يقدم يسوع المسيح بطريقة خاصة لظرف خاص ن لجماعة مخصوصة ، هذه الجماعة هي الكنيسة في روما . لقد سبق وعرفنا أن الإنجيل كتب في روما . وللكنيسة هناك، وكتبت في وقتا أزمة حادة قاسية. كانت روما تحت حكم الطاغية نيرون ، وكان هو الذي تصب من نفسه إلهاً لكي ، وكان المسيحيون هي موقف قاس لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا شخصاً آخر غير الرب . ونظراً لذلك فقد كانوا لا يختلطون بالناس في مواسمهم وأعيادهم لأنهم لا يريدون أن يشاركوا في النجاسة والفساد ، ولذلك التصقت بهم تهمة كراهيتهم للناس ، ولكن هذا كله لم يدفع المسئولين أن يتخذوا ضد المسيحيين أي عمل اضطهادي .

لكن الأمر تغير عندما شبت في العاصمة نيران مدمرة ، استمرت سبعة أيام حطمت الكثير من المدينة ، وعندما بدأت تخمد شبت بشراسة مرة أخرى من المكان الذي كان يسكنه رئيس الحرس الإمبراطوري ،وكان هناك غوغاء يطلقون شعلات ملتهبة يزيدونها اشتعالا ، ولما سئلوا عن سبب ذلك قالوا إن هذه أوامر عليا . وأتت النار على ثلاث مناطق في المدينة فحولتها إلي رماد، ثم أحدثت أضراراً بالغة بسبع مناطق أخرى، ولم تنج من الخراب إلا أربع مناطق، وبدأت الإشاعات تهم الإمبراطور بحرق المدينة. رغم ما أظهره لهم من المساعدات، التي أقام فيها المباني والطرق والتعمير وهنا أراد الإمبراطور أن يجد كبش الفداء فلم يجد أمامه إلا المسيحيين ، وبدأت الاضطهادات الشديدة والمريرة ، وتفنن جنود الإمبراطور وجلادوه في التعذيب ، فألبسوا المسيحيين جلود وأطلقوا عليهم الكلاب المفترسة فمزقتهم ، وبعضهم أشعلوا فيه النار ليستعملوهم كمصابيح آدمية لتضئ حدائق الإمبراطور ، وغير ذلك من العذابات الشاقة المريرة فهرب منهم الكثيرون وسكنوا في القبور ، لهذا الموقف كتب الإنجيل ،أي أنه كتب لجماعة تواجه أزمة إبادة وتعذيب لا حد له .  

لمثل هذه الجماعة يقدم الرسول مرقس الإنجيل فيقول ” بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله ” إن هذه الكلمات هي نفس الوتر لعب عليه إشعياء النبي في العهد القديم عندما قدم بشارة الخلاص الآني للشعب المسكين المسبي ” على جبل عال اصعدي يا مبشرة صهيون أرفعي صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم ، أرفعي لا تخافي قولي لمدن هو ذا إلهك ، هو ذا السيد الرب بقوة يأتي وذراعه تحكم له ” (إشعياء 40 : 9 و 10 ) . ففي وسط الضيق القاسي المرير يأتي صوت الإنجيل ، بشارة الفرح . بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله لهذه الجماعة التي في وسط بابل السبي، والعذاب والضيق. ولقد أطلق على روما لقب بابل في العهد الجديد لأنها تقف من كنيسة الرب موقف بابل من إسرائيل ( 1بطرس 5: 13، رؤيا 17: 5 و 6 و 18 ).

 وعندما يكرز الإنجيلي بالبشارة فإنه يضع أمامهم المسيح المخلص القوي . الذي جاز قبلهم كل ما يجوزونه، هل هم في المقابر تائهون ؟ لقد كان هو أيضاً في البرية بعيداً عن كل إنسان وحدة قاسية في مواجهة الشيطان، وكان هناك مع الوحوش. ولكن مع ذلك فقد كانت الملائكة تخدمه، فلم يكن وحيداً. . إنه أراد أن يقول لهم إن المكان الذي يوجد فيه السيد حتى وأن كان برية قفر إلا أنه سيتحول إلي سماء ويملك فيها الله. ولكن أين هذا الوسط أين هو في هذا الوسط القاسي المظلم، في مكان العذاب الموت ؟ إن القديس مرقس بأسلوبه الحي ، المملوء بالقوة يتكلم عن المسيح القوي الذي ينتصر على كل قوات الشر ، لأنه يريد أن يعلن للكنيسة المضطهدة أنه لم يسكت بل لا يزال يعمل ، إنه هو عامل نشط في وسط شعبه . هذه هي ميزة أسلوب مرقس ، إنه لم يكن أسلوب الشخص الذي لم يهتم بقواعد اللغة ولكنه أسلوب الشخص الذي أراد أن يغري ويطمئن الكنيسة بأن سيدها لا يزال في وسطها حي وقوي يحارب حروبها .

لقد تلكم السيد عن الاضطهادات التي ينتظرها كل مسيحي ولكن في هذا الاضطهاد يظهر المسيحي المؤمن الحقيقي ، فالبذار قد ألقيت وجاءت علي الأراضي وهناك من يقبلها ولكنه عندما يواجه الاضطهادات والأخطار الشديدة فإن الكلمة تختنق ن وهذا ما ينطبق علي الكنيسة في هذا الوسط الذي يظهر العداوة المرة . أن كلمات يسوع كانت ترن في آذان أعضاء الكنيسة هناك :” إن أراد أحد أن يتبعني نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني . لأن من أراد أن يخلص حياته يهلكها ومن أراد أن يهلك حياته من أجلي ومن أجل الإنجيل فهذا يخلصها. . . من استحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسد الخاطئ سينكره ابن الإنسان متى جاء في مجد أبيه مع ملائكته الأبرار ” ( 8 : 34 – 38 )

وإلي جانب ذلك فغن السيد الذي وقف بكل شموخ يقول لأولئك الذين أرادوا أن يجربوه ” أعطوا ما لقيصر وما لله لله ” ( 12 : 17 ) فيضع بذلك حدوداً واضحة لسلطة القيصر وما يتطلبه ، إنه ليس السيد ولا الرب ، هناك سيدنا وإلهنا الذي يجب أن يطاع أكثر من جميع الناس .

إن يسوع أمام الصليب والكل قد هربوا وقف بكل جلال أمام بيلاطس ممثل السلطة ممثل السلطة الرومانية . . لقد اعتراف الحسن . نعم أنهم حكموا عليه بالموت ومات ، ولكنه قام وانتصر وما أجمل كلمات الملاك ” لا تخافوا أنتن تطلبن يسوع الناصري الذي صلب ليس هو هنا لكنه قام ، أنظروا أين وضعوه لكن اذهبوا وقولوا لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلي الجليل هناك ترونه كما قال لكم ” ( 16 : 6 و 7 ) 

هذه هي رسالة إنجيل مرقس . . رسالة التلميذة الحقة في وسط الألم والعذاب رسالة والقوة . . رسالة إنجيل المسيح ابن الله .              

نبذة عن الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *