
منقول من موقع
ghobrialrizkallah.org
ضد الكل
(رؤ 2 : 13)
“أنتيباس شهيدي الأمين” – “أنا عارفٌ أعمالك وأين تسكن حيث كرسي الشيطان وأنت متمسكٌ باسمي ولم تنكرني حتى في الأيام التي كان فيها أنتيباس شهيدي الأمين الذي قُتل عندكم حيث الشيطان يسكن”.
في كنيسة برغامس، في آسيا الصغرى، إحدى الكنائس السبع التي كتب إليها يوحنا رؤياه، في هذه الكنيسة يتمشى الذي له “السيف الماضي ذو الحدين”، سيفٌ يخرج من فمه، سيفٌ قاطعٌ هي كلمته الحية والفعالة التي هي “أمضى من كل سيفٍ ذو حدين وخارقةٌ إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزةٌ أفكار القلب ونياته”، بهذا السيف الخارق يتطلع في هذه الكنيسة ويقول لها في شخص ملاكها: “أنا عارفٌ أعمالكِ”، وهل نراه يخاطب كل فردٍ منا “أنا عارفٌ أعمالكَ”، وهل يمكن لإنسانٍ أن يقول هذا القول: “أنا عارفٌ أعمالك”.
وفي حدَّي سيفه يرى من الوجهة الواحدة أعمالاً حسنةً ومن الوجهة الأخرى أعمالاً رديئةً، “وكل شيءٍ مكشوفٌ وعريانٌ لعيني ذاك الذي معه أمرنا”، أما موضوع تأملاتنا ففي الوجهة الحسنة حيث يتطلع ويرى ويقول: “أنتيباس شهيدي الأمين”.
أنتيباس:
وإلى هذه الشخصية المثالية أريد أن تتحول أفكارنا – في اسمه أنتيباس وفي وصفه شهيدي الأمين – في اسمه نرى موقفه إزاء العالم، وفي وصفه نرى نسبته إلى المسيح – أنتيباس (anti pas) وفي اسمه معنى أنتي((anti أي ضد، باس (pas) معناه الكل – أنتيباس أي ضد الكل – يقف مضاداً للجميع، وكأنه يقف وحده على مبدأٍ ثابتٍ، بالرغم من كل الذين حوله يريد أن يحيا لمبدئه، بالرغم مما يقال عنه، ثابتٌ لا يتزعزع، وفي ذلك ما أشبهه بسيده الذي تحدَّى الجميع في حياته على الأرض، مغيِّراً العادات والتقاليد، قائماً ضد كل شيء، وهو وحده يختط لنفسه خطته الخاصة، وهل يبغضه الناس؟ فليكن، وهل يعاديه البشر؟ فليكن، وهل يبتعد عنه أصدقاؤه؟ فليكن، وهل يشهرون به؟ فليكن، هو أنتيباس لا يتغير ضد الكل.
هذا ما يريده المسيح من كل فردٍ منا أن يكون أنتيباس إزاء العالم الموضوع في الشرير، إزاء شهوات الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة التي ليست من الله بل من العالم، إزاء العادات التي لا تُرضي الله والتقاليد التي تغضبه، إزاء محبة المال، وهل يمكن أيها الأحباء أن نُرضي الله والمال؟ “لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر”، هكذا كان أنتيباس ضداً لمحبة المال “التي هي أصلٌ لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قومٌ ضلوا عن الإيمان”.
هذا هو أنتيباس في معنى اسمه وهو قليلٌ من كثيرٍ، ضد الكل، ضد العالم، راسخاً في مبدئه، قوياً في إيمانه.
شهيدي الأمين:
أما نسبته إلى المسيح فواضحةٌ في القول: “شهيدي الأمين”، وكأني بالسيد يرى علاقة هذا الأنتيباس بشخصه بذاته لا بتعليمه ولا بمبادئه فحسب، وكأننا به إيليا النبي على جبل الكرمل يقف أمام أنبياء البعل الأربعمائة، والسواري الأربعمائة والخمسين وهم رجال إيزابل الأثيمة فيتحدى الجميع ويتحدى إيزابل وآخاب ويقول في تحديه: “بقيتُ أنا وحدي للرب”، وهذه هي الصورة في أنتيباس الذي هو ضد العالم، منتسباً إلى المسيح، متخذاً جانب المسيح، واقفاً موقف المسيح “وحدي للرب”.
فهل نستطيع أن نقف هذا الموقف من صليب فادينا وسيدنا ونرفع راية الصليب عاليةً وعلم الإنجيل يرفرف، وبقوةٍ وعزمٍ أكيد نقول: “أنا للرب”، أنا بجانب الصليب، أنا حامي الإنجيل؟ هكذا وقف أنتيباس حيث يسكن الشيطان في بلدٍ شريرٍ، في زمانٍ كله اضطهادٌ ومرارة نفسٍ وضيقٍ، يقف في عزمٍ ثابتٍ للمسيح.
إنه لم يقف فقط بجانب المسيح صامتاً لا يتحرك ولا يتكلم، بل وقف شاهداً ما تتضمنه كلمة شهيدي، هو أول شاهدٍ للمسيح يشهد له: “وأنتم شهودي”.
هكذا يخاطب المسيح كلاً منا، فهل يمكن لكل واحدٍ أن يقول أنا أشهد لا بمجرد الحياة العملية، فالكثير يريد أن يقف بجوار المسيح إلى حد شهادة الحياة دون أن ينطق أو يتكلم، هذه شهادةٌ حسنةٌ، ولكن متى جاء الوقت الذي فيه يجب أن ننطق بالهتاف لنشهد لابن الله، هل نحن مستعدون لأن نشهد وأن ننطق؟ هكذا فعل أنتيباس أمام كرسي الشيطان حيث كان ينطق شاهداً للمسيح، بل أكثر من ذلك وصل لا إلى الشهادة بل إلى الاستشهاد، فأصبح شهيداً أي مقتولاً سافكاً دمه باذلاً حياته كما فعل المسيح لأجله، رآه على الصليب يموت عنه، يقدم حياته لأجله، يبذل دمه ويسفكه وكأنه ينظر إليه ويقول سيدي فاديّ يموت لأجلي وأنا أهرب، وفي تلك الأيام عينها شهد أنتيباس كما شهد بولكاريوس بدمٍ لا بكلامٍ فحسب: “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية”.
هذا يصل بنا في نسبته إلى المسيح إلى المكافآت التي يكافئه بها المسيح: “شهيدي الأمين”، كلمةٌ ما أجملها، تكفي لأن تكون أعظم مكافأة “شهيدي” ينسبه المسيح إلى نفسه، يفتخر به، يتمجد به، يتعظم به، ويقول: “أنتيباس”، وهل يعرف اسمه؟ إذن فهذا اعترافٌ من المسيح بأن أنتيباس من خرافه التي يناديها بأسمائها، فهو يدعو خرافه بأسماءٍ، فهل اسمنا معروفٌ لدى الرب كأحد خرافه الخاصة المحفوظة إلى الأبد والمكتوبة في سفر الحياة الأبدية؟
يتقدم المسيح إلى أن يعترف بأنتيباس لا كأحد خرافه الخاصة فقط بل كشهيدٍ له، مات من أجله كأمينٍ إلى النهاية، وهل يمكن أن نتصور يسوع وهو يأتي بأنتيباس أول حفلٍ ملائكيٍّ ويقول يا أبي، يا ملائكتي هذا شهيدي الأمين! لأنه قال: “من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضاً به قدام أبي الذي في السموات”، وكأننا نسمع جوقة الملائكة والآب من السماء والابن نفسه يقول: “نعماً أيها العبد الصالح والأمين كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير أدخل إلى فرح سيدك”.
أبعدَ هذا مكافأةً؟ أن يعترف بنا يسوع ابن الله أمام أبيه وأمام ملائكته القديسين ويعلن اسمنا واضحاً وصريحاً، هل نقدر أن نتأمل قليلاً في حياتنا، في شهادتنا للمسيح، في معرفتنا، في موقفنا بإزائه فيما سنكون عليه في ذلك اليوم العظيم؟