
الكاتب
الدكتور القس فهيم عزيز
العميد الأسبق لكلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة
مقدمة عامة
إن دراسة العهد الجديد تستلزم دراسة الفترة التي سبقت عصر كتابة كتبه. فالعهد الجديد لا يرتبط بكتب العهد القديم فقط بل يتصل أيضا وبطريقة مباشرة بالفترة التي تقع بين عصري العهدين. ويقدرها العلماء بما لا يقل عن 300 سنه ويطلقون عليها اسم “مابين العهدين ” فهناك أشياء كثيرة واضحة في العهد الجديد عامة والأناجيل خاصة لا ذكر ولا وجود لها في العهد القديم ولكنها بدأت تظهر وتؤثر في مجريات الأمور في هذه الفترة التي تعنينا الآن _وهى فترة”مابين العهدين” مثال ذلك الأحزاب اليهودية كالفريسيين والصدوقين والغيورين .فدراسة العهد الجديد تتطلب الوقوف على الحوادث السياسية والتغيرات والاجتماعية من دينية وثقافية وغيرها التي حدثت في تلك الفترة.
ومع إن السيد المسيح وكنيسة الأولى ثبتت في بيئة يهودية إلا إن الكنيسة انتشرت بسرعة بالغة بين الأمم ووقفت وجها لوجه مع الثقافة الهلينية التي غزت العالم كله ولهذا لزم أن ندرس أيضا صلة العهد الجديد بالثقافة الهلينية.
الخلفية اليهودية
1- الحالة السياسية
2-الأحزاب اليهودية
3- عناصر التفكير الديني اليهودي
1- الحالة السياسية
كان الحدث العظيم الذي اوجد تغيرا اجتماعيا هائلا في عصر ما بين العهدين هو ظهور لاسكندر المقدوني .فبمجيئه ظهر مفهوم جديد في معني وتكوين الإمبراطورية العالمية يختلف كثيرا عما فهمه المصريون والأشوريون والفرس منها فالإمبراطوريات التي سبقت هذا الفاتح العظيم كانت تبني أولا وقبل كل شيء علي السيف والقتال والجيوش الجرارة ثم دفع الضرائب الباهظة والهدايا والثمينة.أما لاسكندر الأكبر فقد فعل شيئا أخر أعطاه اسما يفوق أسماء الحكام والفاتحين الذين سبقوه.
ولسنا الآن في مجال تعداد فتوحاته ووصفه كقائد معجزه .إذ إن سرعته في اكتساح العالم القديم عندما غزا أسيا الصغر وسوريا وفلسطين ومصر ثم هزم داريوس في موقعتين هامتين أدتا إلي سقوط دوله الفرس .ثم سار إلي الجنوب الشرقي حتى وصل إلي حدود الهند تقريبا.هذا كله يشهد بكفاءته النادرة كقائد حرني محنك.
وقد امتاز الإسكندر عن جميع من سبقوه من قادة عسكريين انه لم يكون إمبراطورية سياسية وعسكرية فقط. بل أقام إمبراطورية ثقافية بقيت طويلا جدا بعد زوال الإمبراطورية العسكرية.. فقدا كان هذا الرجل يحب ثقافته اليونانية ولغته فأخذا يزرعها وينشرها أينما حل. وجعل من آداب اليونانية وثقافتها ولغتها رباطا قويا يربط به أجزاء إمبراطوريته وبذلك ربط العالم في وحده ثقافية أدبية مهدت السبيل لانتشار المسيحية التي جاءت لكل لغة وعصر وأمه ودين……
مات الإسكندر صغير السن . وتكالب قادة جيشه على التركة الواسعة فانقسمت الإمبراطورية إلى أربعة أقسام .لا يعنينا منها إلا قسمان اثنان: الأول مصر وجاءت من نصيب بطليموس الذي أسس أسرة البطالسة أو البطالمة في مصر. ثم سيلوقس الذي أسس حكم السلوقيين في سوريا وإيران أما فلسطين فقد جاءت من نصيب البطالمة أولا ثم السلوقيين وظلت تتأرجح بين لاثنين حتى جاءت ثورة المكابيين كما سنعرف فيما بعد ..
1-اليهود تحت ظل الحكم المصري:
كان أول من استولى على فلسطين من البطالة هو بطليموس الأول “أول بطليموس لايجي” ففي سنة 301م حين انتصر الجنرالات الثلاثة على الجنرال الربع “انتيجونوس ” الذي أراد أن يتشبه بال اسكندر . في موقعة ايسوس استولى بطليموس الأول عليها . ثم استمرت تحت حكمهم لمدة قرن من الزمان تقريبا دون أن تخرج عن سيطرتهم وكانت حالة اليهود في هذه الفترة مجهولة فلا يعرف عنها إلا القليل ” ولعل ذلك يرجع إلى إن البطالمة لم يحدثوا تغيرا كبيرا في نظام الحكم والإدارة اللذين كانا سائدين تحت حكم الفرس ولهذا فلم تحدث أزمات أو تغيرات شاملة تستحق التسجيل التاريخي.
أما في مصر فقد كانت هناك جالية يهودية كبيرة تقطن في كثير من مدنها وخاصة مدينة الإسكندرية. وعندما رجع بطليموس لايجي من حملته التي استولى فيها على فلسطين احضر معه أعدادا كبيرة منهم وأسكنهم الإسكندرية.ولهذا فقد أصبحت هذه المدينة يهودية في شكلها .ولكن اليهود لم يبقوا في ثقافتهم الشرقية بل تأثروا كثيرا بالثقافة اليونانية ونبئوها . وأضحت اللغة اليونانية هي اللغة التي يتخاطبون بها.
ومع ذلك فلم ينسوا كتبهم المقدسة فقاموا بأعظم عمل عملوه وهو ترجمة العهد القديم وكتب الأبوكريفا من لغتها العبرية إلى اليونانية .وهذه ترجمة هي ما تسمى “بالترجمة السبعينية ” ولا يمكن معرفة الدوافع الأصلية لهذه الترجمة ولا متى بدأت أو متى انتهت وانتشرت بخصوصها بعض الأساطير وكان من أهمها تلك التي بنيت على خطاب اسمه “خطاب ارسبتاس” ومفاده إن يدمريوس رئيس مكتبة الإسكندرية صور لبطليموس فلادلفيوس المكاسب الضخمة التي يجنيها إذا ترجم الكتب العبرية . وعرف القوانين اليهودية فوافق الملك وطلب من رئيس الكهنة اليهودي.في فلسطين أن يرسل جماعة من علما اليهود:فأرسل ستة شيوخ من كل سبط ثم ذهبوا إلى الإسكندرية ومن هناك أرسلهم إلى جزيرة. ووضعهم منفصلين ليترجموا الكتب فترجمها كل فريق منهم في 72 يوما.وجاءت الترجمات متطابقة بعضها مع البعض تمام المطابقة ومن هنا نشا اسمها “السبعينية ” ولعل هذه الأسطورة نشأت لكي تظهر إن هذه الترجمة لها قوة الأصل العبري وسلطانه وقد أدت السبعينية خدمة جليلة في فتح الباب بين الأمم واليهود وعملت على أعداد الطريق للمسيحية .
2-اليهود تحت حكم السلوقيين :
لم يهدا بال السلوقيين عن فتح فلسطين فقد حاول أنطيوخس أن يغزو جنوب غرب سوريا ثم فلسطين وكاد ينجح في غزوات متتالية بين سنتي 221-217. ولكنه انهزم أما جيوش بطليموس فيلوبيتر في ربيع 217 ق.م ولم يسكت بل عاود المحاولة مرة أخرى بعد موت بطليموس فيلوبيتر (الربع) وبعد عدة معارك تمكن من استيلاء على فلسطين بعد موقعة بانيوم panium . ودخل إلى أورشليم سنة 198 ق.م ورحب به اليهود كمخلص لهم من حكم المصريين .
ولكن اليهود كانوا مخطئين . فقد كان حكم البطالمة حكما متسامحا إذ سمح لهم بالقيام بشعائرهم الدينية وعبادتهم . ولكن ما ان حكمهم السلوقيون حتى بدءوا حملة قاسية لكي ينشروا بينهم الثقافة اليونانية ويجبرونهم على تبنى ديانة الأمم .وحدث ذلك بالكيفية التالية :
عندما انتصر أنطيوخوس واستقبله اليهود بفرح قام هذا برد جميلهم. إذ بدا معهم حكما متسامحا جدا .فدعا اللاجئين لسنوات.إلى بلادهم وترك للبلاد العظيمة.لمتأخرة لمدة 3 سنوات. وخفف عنهم عب الضرائب وساعد في ترميم الهيكل على حساب الدولة وفرح اليهود فرحا عظيما.
ولكن ذلك لم يدم طويلا. فقد كانت هناك عوامل أخرى داخلية وخارجية تعمل بقوة على خلخلة المجتمع اليهودي. وأقساها جميعا هو انتشار الثقافة الهلينية في كل العالم المتحضر في ذلك الوقت فقد انتشرت .نتيجة للخطة المنظمة التي وضعها الإسكندر المقدوني اثنا فتوحاته .والثقافة اليونانية وظهرت مقاطعات ومدن بأكملها في مصر وسوريا وعبر الأردن وغيرها تحيا الحياة اليونانية وتفكر نفس تفكيرها . وزاد في هذا الانتشار الهجرة
الواسعة التي حدثت من بلاد اليونان إلى غيرها من البلدان. والزيجات العديدة التي عقدها الإسكندر بين ضباطه وجنوده وبين بنات الشرق . وعمت اللغة وطرق الحياة اليونانية في تلك البلاد بشكل منظم عميق .
ولم يكن اليهود بمنآي عن هذه التأثيرات . فقد تأثر يهود الشتات إلى حد كبير بهذه العوامل القوية . وكان للإسكندرية وهى المركز الأعظم للثقافة الهلينية ضلع كبير في تثقيف اليهود الذين فيها فتنبوا من العادات الهلينية وتسموا باسما ء يونانية . وقام منهم مفكرون عظام كان لهم اثر كبير في المحيط اليهودي مثل فيلو وارتسبلوس . ولكن هذا الأمر لم يقتصر على يهود الشتات بل تعداه إلى يهد فلسطين أنفسهم فلم يستطيعوا أن يقاوموا هذا التيار نعم كان هناك من لم يتزحزح قيد أنملة عن تراثه الثقافي اليهودي ولكن كان هناك أيضا من تأثر بالعدوى الهلينية أما عن طريق التقليد والمجاراة أو عن طريق يهودي الشتات الذين كانوا يأتون إلى أورشليم في وقت الأعياد حاملين معهم بذور هذه الثقافة الغربية .
وبسبب ذلك انشق المجتمع اليهودي إلى قسمين : قسم يحافظ على التراث اليهودي مهما كان الثمن حتى ولو أدى إلى بذل الحياة نفسها وقسم أخر شعر بأنهم جماعة صغيرة اضعف من أن تقاوم الهلينية الضخم فارتموا في أحضانها ومن هنا بدا الصراع العنيف في اليهودية بين الثقافتين تماما كما كان الصراع العنيف قائما بين عبادة الأوثان قبل السبي ولعل ابرز اثنين يمثلان الثقافتين المتصارعتين :أونياس الثالث رئيس الكهنة في عهد أنطيوخس الرابع ثم أخوه يأسون وكان الأول يمثل اليهود المحافظين المتعصبين لشريعتهم . وكان الثاني متمسكا بالثقافة اليونانية بكل ما تعنى الثقافة .
الصراع في ذروته: عندما احتل أنطيوخس الثالث فلسطين وشعر بالقوة والسطوة جرد حملة ليحارب روما –القوة الفتية الجديدة –تحت إغراء وتحريض هانيبال والقائد القرطاجني الذي هرب بعد هزيمته إلى الشرق وغزت جيوش أنطيوخس الثالث اليونان ولكنه ارتد على أعقابه عندما هزمته قوات روما وأجبرته على التوقيع صلح مخزي سلم فيه أسطوله وأفياله وابنه الصغير أنطيوخوس رهينة لدفع ضريبة ولم تطل حياته بعد هزمته فقتل سنة 187 م (دانيال 11: 19).
وخلفه ابنه سليوقس الربع (187-175 ق.م.) واختلف سليوقس الربع مع اونياس رئيس الكهنة فذهب أونياس إليه لكي يعمل صلحا ولكن سليوقس قتل الصلح وخلفه أخواه أنطيوخوس الربع أو أنطيوخوس أبيفانس(175-163 ق.م.)
كان أول ما عمله أنطيوخوس ابيفانس هو عزل اونياس من رئاسة الكهنوت ووضع يأسون الذي وعده بان يدفع له جزية أضخم وأثمن عوضا عنه وقد ضرب أنطيوخوس بذلك عصفورين بحجر واحد إذ اخذ مالا أوفر ثم دفع إلى السلطة شخصا محبا للثقافة اليونانية حاول كل جهده أن يدخل عادات اليونانيين وتقاليدهم وألعابهم الرياضية ومسارحهم إلى اليهودية (2مكابين4:7-9).
ولكن يأسون لم يبق طويلا في الكهنوت فلم يستمر سوى ثلاث سنوات ثم قام بينه وبين احد أتباعه ومساعديه خلاف كبير وكان هذا الرجل الجديد يسمى مينلاوس الذي أسرع وذهب إلى ابيفانس وطلب منه أن يوليه رئاسة الكهنوت فاستجاب له وأعطاه الوظيفة رغم أنة كان من سبط بنيامين فاثأر ذلك حفيظة كل اللاويين محافظين كانوا أو متحررين ولكنهم لم
يستطيعوا أن يفعلوا شيئا في ذلك الوقت فهرب ياسون إلى عبر الأردن (2مكابين4 :23 – 26) . أما مينلاوس فقد طلب منه أن يدفع جزية اكبر ولكنه عجز فحاول أن يسرق الهيكل . فعارضه أونياس الذي قيل انه كان في أنطاكية ولكن مينلاوس عمل على قتله وقتله (2مكا4: 27-38)واستمرت الأمور تسير من سيئ إلى أسوا إن راجت إشاعة إن أنطيوخوس “ابيفانس” قد مات في حملة قادها ضد مصر وعند هذا هجم ياسون بقوة قوامها ألف رجل واستولى على أورشليم ثم اجبر مينلاوس على الالتجاء إلى الحصن وأخذا ياسون يعمل بجنون في القتل والاضطهاد حتى فاجأه أنطيوخوس عائدا من مصر فحطم قوته واجبره على الفرار واعتبر أنطيوخوس إن هذا العمل ثورة ضد حكمه فانتقم من اليهود ونهب الهيكل وارجع مينلاوس إلى مركزه في رئاسة الكهنوت ولكن الأزمة بلغت القمة سنة 168 ق.م حين غزا ابيفانس مصر مرة أخرى واستولى على ممفيس ولكنه عندما توجه إلى الإسكندرية وصلته رسالة من مجلس شيوخ روما هي عبارة عن أمر حازم له بالخروج من مصر فورا ولم يجد أنطيوخوس بدا من الخضوع لهذا الأمر القاسي فرجع في غيظ (دانيال11:
29)وفى رجوعه بلغته أخبار من أورشليم إن الناس هناك يترقبون الفرصة للانقضاض على حكمه وعلى عملائه فما كان منه إلا أن أرسل قائدة إليها فدخلها في مكر وخديعة واستدار على الناس الآمنين وقتل الكثيرين منهم وهدم جزءا كبيرا من المدينة وبنى فيها قلعة أقام فيها صورة لابيفانس ثم اصدر أمرا مشددا قاسيا بإبطال كل مراسيم وطقوس العبادة اليهودية فأبطلت الذبيحة والسبت والأعياد والختان وكان عقاب كل من يخالف ذلك الموت وختم كل هذا بإقامة تمثال لزيوس في الهيكل سنة 167ق.م وقدم عليه خنزيراً ذبيحة مما جعله نجسا وهذا ما أطلق عليه دانيال “رجسة الفساد ” واجبر اليهود على عبادة باخوس وغيره من الإلهة اليونانيين ..
المكابيين :
كان رد الفعل عند اليهود غير موحد إذ اختلف من جماعة إلى أخرى فبينها قبل اليهود المثقفون بالثقافة اليونانية كل هذه الأوامر والقوانين رفض اليهود المحافظون بكل شدة غير مبالين بأية تضحية مهما كانت ثقيلة وكان أنطيوخوس يعتبر إن كل مخالفة لأوامره موجهة إليه شخصيا فاشتط في الاضطهاد والقسوة وظن –مخطئا في ذلك –أنة يستطيع في وقت قصير أن يتغلب على كل مواجهة وعناد وقد حدث يوما دعا ضابط سوري واحدا من كهنة إحدى القرى واسمها مودين أن يقدم ذبيحة للوثن ولكنه رفض في عناد وإصرار فما كان من احد اليهود المذعورين إلا أن تقدم بنفسه لكي يقدم الذبيحة ولكن الكاهن العجوز – كان اسمه متياوس وقد التهب بالغيظ تقدم إلى الأمام وقتل هذا الرجل اليهودي وقتل الضابط السوري الذي كان يأمرهم بتقديم الذبيحة ثم تقدم مع أبنائه الخمسة وهدموا المذبح الوثني ثم هربوا معا إلى الجبال ومن ذلك الوقت بدأت ثورة المكابيين ولقد اتخذت ثورة المكابيين طابع حرب العصابات أولا فقد انضم إليهم كثيرون من الذين كانوا يسمون “الهسديم”أو الأتقياء ثم اخذوا مغيرون على المدن والقرى يقتلون إتباع أنطيوخوس واليهود والمتشيعين له ويهدمون مذابح الوثن ويختنون الأطفال بالقوة وعندما أراد السوريون أن يستفيدوا من شريعة تقديس السبت ليقتلوا المكثرون منهم أفتى متياوس بجواز الحرب الدفاعية يوم السبت .
يهوذا الميكابى :
وبعد بضعة شهور مات ميتاوس سنة 166 ق.م وأوصى بان يخلفه في قيادة القوات ابنه الثالث واسمه يهوذا الميكابى أو “يهوذا المطرقة” الذي كان رجلا شجاعا مقتدرا فحول حرب العصابات هذه إلى حرب مقدسة شاملة للاستقلال أما أنطيوخوس فقد ظنهم أولا عصابات ضعيفة سرعان ما يتغلب عساكره وعليهم ولذلك لم يرسل إليهم إلا جنوده وضباطه الأصاغر أما بقية قواته فقد وجهها لإخماد ثورة أخرى في الشرق ولكنه كان أيضا مخطئا فعندما أرسل احد قادته الكبار ليؤدب يهوذا الميكابى قابله هذا وهزمه وقتله ثم هزم جيشا أخر مما جعل كثيرين من اليهود يتشجعون ويرفعون راية العصيان وينضمون إلى قوات المكابيين وأخيرا طلب أنطيوخوس من ليسياس احد رجاله الأقوياء أن يتكفل بإخماد هذه الثورة ولكن يهوذا هزمه في موقعة عمواس ثم انتصر عليه نصرة ساحقة في معركة أخرى “بيت زور ” وكانت هذه انتصارات معجزية مذهلة بعد ذلك تقدم يهوذا الميكابى إلى أورشليم وحاصر السوريين في قلعهم ثم تقدم إلى الهيكل وطهره من مذابح الوثن ومن الذبائح النجسة وأقام الأعياد وارجع السبت ومن ذلك الوقت بدا عيد جديد اسمه عيد التجديد سنة 165 ق.م ثم عمل ليبياس القائد السوري معاهدة بمقتضاها تخلى القلعة من الأسلحة على أن يعطى لليهود الحرية الدينية وان يخلع مينلاوس رئيس الكهنة ويأخذ منصبه الياقيم ومع إن يهوذا لم يرض بهذه المعاهدة لكن مجمع اليهود المقدس قبلها دون رضاه فما كان منه إلا إن ترك أورشليم إلى الجبال وتبعه كل مخلص له وتحققت مخاوفه وتعجرف الياقيم وقتل كثيرين من اليهود وطلب معونة السوريين وأراد أن يقتل يهوذا ولكن يهوذا هزمه بعد أن دفع حياته ثمنا الانتصار .
يوناثان الميكابى :
بعد أن مات يهوذا هرب إخوته الثلاثة : سمعان . يوناثان .يوحنا إلى عبر الأردن وتبعهم مئات من المكابيين وصار يوناثان قائدا للجماعة قد حاول السوريون أن يهزموهم ولكنهم فشلوا .
أما يوناثان فقد انتصر أخيرا لا بالقوة بل بالسياسة فقد حاول احدهم أن يغضب عرش سوريا من وارثه الشرعي ونشبت الحرب بينهما وأراد كل منهما أن يستنجد باليهود لا عن طريق الياقيم رئيس الكهنة بل عن طريق يوناثان الذي لعب دوره الدبلوماسي البارع ودخل أورشليم وطرد الياقيم وصار هو رئيس الكهنة ولقد حاولت روما عدوة سوريا أن تتقرب من اليهود ولكن رد الفعل اليهودي لم يكن مشجعا .
وأخيرا مات يوناثان مقتولا بعد أن بدا الانتعاش يدب في أنحاء البلاد فخلفه أخوه سمعان في رئاسة الكهنوت .
سمعان :
كان سمعان رجلا دبلوماسيا تمكن من اقتناص فرصة انقسام السوريين بعضهم ضد البعض وناصر احد المتنازعين فما كان منه إلا إن منح اليهود الاستقلال التام ورفع كل الضرائب عنهم ثم تمكن سمعان أيضا من تحرير القلعة السورية وبعض المدن المحتلة .
واعترافا بهذا الجميل قرر مجمع اليهود اعتبار الكهنوت شرعيا في بيت المكابيين .
وفى سنة 134 ق.م قتل سمعان الميكابى – هو واثنان من أبنائه –وخلفه ابنه الثالث يوحنا هيركانس .
يوحنا كانس:
أنهى عصر البطولات الحربية وللتحرير الديني بعد إن مات سمعان الميكابى أخر ابنا ميتاوس وبدا عصر السياسة بمجيء هيركانس ففي أول حكمه هادنته سوريا على شريطة أن يترك لها بعض المدن الساحلية ففعل وبذلك تمكن من سحق الحزب الهلينى المعارض في فلسطين واضحي هو القوة الوحيدة المعترف بها وفى نفس الوقت لم يكتف بما كان يريده المحافظون أو الهسيديم من نوال الحرية الدينية فقط دون داع للتضحيات من اجل الحرية السياسية بل أراد الاستقلال والنجاح الكامل سياسيا ودينيا في عهده بدأت تتبلور هذه الفئات في أحزاب فجماعة المتأثرين بالثقافة اليونانية بدءوا يتبلور في حزب الصندوقيين وكان الأتقياء أو الهسيديم هم أساس جماعي الفريسيين والايسنيين .
أما يوحنا هيركانس فقد أراد أن يوسع تخوبالشرف. من فتح بعض المدن الساحلية التي أخذتها سوريا في أول حكمه ثم فتح طريقين للتجارة الخارجية أحداهما مع مصر ويمر بادومية التي غزاها واجبر أهلها على الختان ثم استولى على السامرة وهدم هيكل جرزيم ومع ذلك فلم يتمكن هيركانس من التقرب إلى الفريسيين بل مال إلى جانب الصدوقيين وهم الحزب الذي كان يميل بطبعه إلى الثقافة اليونانية وأضحوا الطبقة إلا أرستقراطية في البلاد ثم مات سنة 104ق.م بعد أن قضى حياة مستقيمة قوية متمسكا بالشرف .
ارستوبولس:
بعد هيركانس تولى ابنه الأكبر رئاسة الكهنوت وكان قاسيا دكتاتوراً فسجن أخوية وقتل الثالث واستمر هو في سياسة الفتح والتوسع واستولى على الجليل ولكنه لم يدم طويلا فمات بعد سنه واحده من ملكه.
اسكندر جانوس: (103-76ق.م)
استمر أيضا في سياسة التوسع على الساحل شمالاً وجنوبا ثم في عبر الأردن أهم كذلك بالنقش وصك الصور على النقود.ولكن أهم عملين قام بهما جانوس هما أولا تحويل معظم البلاد التي فتحها إلى الديانة اليهودية مثل أدومية و الجليل ولكن السامرة قاومت هذا الاتجاه أما العمل الثاني فهو تشجيع العداء المستحكم الذي وصل إلى الحرب الأهلية بينه وبين الفريسيين فقد عاملهم بكل احتقار واستحكمت الأزمة بينهم فاستنجد الفريسيون بالسوريين فهرب جانوس إلى الجبال فلما رأي الفريسيون ذلك ظنوا انه قد عوقب بما فيه الكفاية فتركوا جيش السوريين وانضموا إليه ولكنه مع ذلك لم يغفر لهم فصلب منهم 800 فريسيا ويقال إنهم في عهده هربوا هم والايسنيين إلى الجبال ويذكر التقليد انه تاب على فراش موته وطلب من زوجته أن تعوضهم عن كل مضايقاته لهم وان تطرد مستشاريه من الصدوقيين .
الكسندرا:
تولت اسكندرا الملك بعد زوجها الثاني جانوس وقد كانت متزوجة قبلا من أخيه ارستوبولس وكانت تبلغ من العمر سبعين سنة ولما كانت امرأة فلم يكن يسمح لها بان تكون رئيسا للكهنة فما كان منها إلا أن وضعت ابنها الأكبر هيركانوس في رئاسة الكهنوت والأصغر ارستوبولس في رئاسة الجيش وكان أخوها زعيما لحزب الفريسيين .
ولقد حصل الفريسيون في عهدها على امتيازات كثيرة وقاوموا بإصلاحات جمة كتعليم الشعب ولكنهم مع ذلك لم ينسوا ما لاقوه من الصدوقيين من قسوة ومرارة فانتقموا لأنفسهم منهم فلم يكن أمام الصدوقيين سوى أن يلجئوا إلى ارستوبولس الابن الأصغر وقائد الجيش وبهذا العمل انقسم بيت المكابيين إلى قسمين : احدهما هيركانوس رئيس الكهنة ويؤيده الفريسيون والثاني ارستوبولس قائد الجيش ويؤيده الصدوقيون
نهاية المكابيين :
بعد موت الكسندرا تولى هيركانوس الابن الأكبر ورئيس الكهنة الحكم ولكن أخاه ارستوبولس قاد جيشا من الصدوقيين ضد أورشليم فاستسلم هذا وسلم أخاه مقاليد السلطة وهرب هو إلى العربية ولكن السلام لم يدم طويلا إذ انتهز انتيبتر ملك العربية الفرصة ليحقق أحلامه فأغرى هيركانوس
على مهاجمة أورشليم ووعده بجيش عربي فتقدم هذا وباغت أخاه في أورشليم ولكن ارستبولس حصن نفسه في أورشليم وبدا الحصار الطويل .
ولكن عنصرا جديدا تدخل في المشكلة وكان هذا العنصر هو روما نفسها إذ كان بومباي في الشرق ليبنى إمبراطورية روما العظيمة وانحاز بومباي إلى هيركانس ضد ارستبولس الذي كان يكره روما واشتد الحصار على أورشليم فاستسلمت ودخل بومباي المدينة ووضع هيركانس في مركز السلطان أما ارستبولس فقد أرسله مع ابنه كأسرى حرب إلى روما وهكذا أضحت اليهودية مستعمرة رومانية وفقد استقلالها الذي دام 80 سنة كاملة وفى زحمة تلك الحوادث استقلت المدن الساحلية وكونت فيما بينها اتحادا سمى ” ديكابوليس ” أو العشر مدن واقتطعت السامرة والجليل وبيرية من اليهودية .
أما انتيبتر فقد أراد أن ينتهز الفرصة فخدم مع هيركانس لمدة 20 سنة وفى نفس الوقت كان يغير ولائه من حاكم إلى أخر من حكام روما حتى تمكن من أن يجعل هيرودس ابنه واليا على
اليهودية على وعد أن يكون ملكا في المستقبل ولكن قبائل الباديثيين الذين لم يكونوا قد خضعوا من قبل لروما هاجموا أورشليم وطردوا الرومان ووضعوا انتيجونوس بن ارستوبولس في رئاسة الكهنوت وقطعوا أذني هيركانس لكي لا يصلح للكهنوت مرة أخرى وقتل فأسيل أما هيرودس فقد هرب إلى روما واخذ من مجلس الشيوخ هناك تصريحا بقوة رومانية تساعده على استرداد سلطانه في اليهودية فأعطته روما لقب ” ملك اليهودية ” ورجع إلى أورشليم وقتل انتوجونوس واضحي ملكا على اليهودية .
هيرودس الكبير:
رجع هيرودس من روما سنة 37 ق.م واستمر في حكمه إلى سنة 4ق.م وهى السنة التي قيل إن السيد المسيح ولد فيها واشتهر بأنه هو الذي قتل أطفال بيت لحم ليتخلص من المسيح كان هذا الرجل منحلا وفاسدا تحكمه الغيرة القاسية والشكوك المرة فقتل عمه يوسف وزوجته مريم المكابية التي كان يحبها وابنها وكثيرين غيرهم عاش على رشوة الأحزاب المتقاتلة في روما ونقل ولاءه من انطونيو إلى اكتافيوس .
ولكنه مع ذلك كان يحب العمارة فبنا الهيكل –مع انه لم يكمله –وبنى المدن على الطريقة اليونانية إذ أقام فيها المسارح ونوادي الملاعب وشجع الشعر في أنحاء البلاد ثم حاول أن يتقرب إلى اليهود وخاصة الفريسيين باحترام عقائدهم وطقوسهم ولكنهم كرهوه ولم يتجاوبوا معه بل انتظروا بفارغ الصبر مجيء المخلص .
ختم هيرودس حياته بان قتل جماعة من زعماء اليهود حاولوا أن ينزلوا النسر العظيم الذي وضعه في مقدمة مباني الهيكل وفى فراش مرضه لما علم إن أحدا لن يبكيه حكم بالموت على جماعة أخرى من الزعماء فجعل البلاد في حزن شديد يوم أن ترك هذه الحياة ومات هيرودس وهو يترك تاريخا بغيضا قاسيا وبعد موته اقتسم المملكة أبناؤه الثلاثة فيما بينهم : فتولى ارخيلاوس اليهودية والسامرة وهيرودس انتيباس الجليل وبيرية وفيلبس أقاليم عبر الأردن ولكن ارخيالوس عزل وحكمت روما منطقتي اليهودية والسامرة حكما مباشرا بواسطة ولاة اسمهم البرولواتور أي جباة الضرائب .
الولاة:حكمت روما اليهودية والسامرة حكما مباشر لمدة 35 سنة أي من 6-41بواسطة ولادة وكان أهمهم بالنسبة لنا في هذه الدراسة هو بيلاطس البنطي الذي جلس على كرسي الولاية من 26-36م وفى عهده صلب يسوع ومع إن مركز الولاية كان في قيصرية ولكن الولاة كانوا ينتقلون إلى أورشليم في وقت المواسم والأعياد ولذلك فقد حكم على يسوع وصلب في أورشليم لأنة كان وقت العيد ولكن الولاة لم ينجحوا في حكمهم وأساءوا كثيرا إلى اليهود فنجم عن ذلك الثورات وعظم شان الغيورين الذين كانوا متحمسين لطرد الرومان من البلاد .
هيرودس انتيباس : (4 ق .م-39م)
كان حاكما برتبة Tetrarch يعنى انه لم يكن ملكا بمعنى الكلمة بل يمكن أن يسمى أميرا في الجليل وبيرية وكان ذكيا كأبيه سماه يسوع الثعلب (لوقا 13: 32) تزوج من ابنة ملك العرب ولكنه رجع فتزوج زوجة أخيه هيروديا فجرت عليه مشاكل عديدة فان اليهود اعتبروه زواجا غير شرعي وملك العربية شن عليه الحرب عصابات لأنه أهان ابنته وأخيرا وقع في مشاجرة مع هيرودس اغريباس آخى زوجته هيروديا واتهمه اغريباس بالتآمر على إمبراطور كاليجولا فنفى هيرودس انتيباس وانضمت مقاطعته إلى اغريباس .
فيلبس: (4 ق .م—34م)
كان رجلا عادلا محبوبا من رعته التي تركزت في عبر الأردن تزوج سالومي ابنة هيروديا وبنى مدينة قيصرية فيلبس (متى 13:16) مات سنة 34م وأضحت مقاطعته ولاية رومانية لمدة 3 سنوات ثم أعطيت بعد ذلك لاغريباس وبهذا أضحى اغريباس ملكا على كل اليهودية والسامرة
والجليل وعبر الأردن أي على كل مملكة جده هيرودس الكبير.
اغريباس:
كان اغريباس رجلا محبوبا من الجميع مكن اليهود المتعصبين لان جدته كانت مريم المكابية زوجة هيرودس الكبير . وأحبه الفريسيون لأنه كان يحافظ على الشريعة ولأنه كان ضد المسيحيين (اعمال12) . فهو الذي قتل يعقوب وحاول أن يقتل بطرس كما أحبه كاليجولا فوهبه مقاطعة هيرودس انتيباس واستمر في حكمه إلى إن مات فجأة سنة 44 م. وكان عمره 54 سنة وبموته تحولت كل مملكته إلى ولاية رومانية
الولاة (44- 66م) :
كانوا سبعة ولاة من بينهم فيلكس (55-60م) فستوس (60-62م) ولقد كان لفساد البعض كفيلكس ولطغيان البعض الآخر كطيباريوس اسكندر اكبر الأثر في خلق جو التمرد والثورات في اليهودية ولقد بدأت الشرارة الأولى للثورة في قيصرية حيث كانت تسكنها جالية يهودية كبيرة جردت من حقوقها المدنية وعومل إفرادها معاملة شاذة وطردوا من المدينة ولقد انتهز احد الولاة واسمه فلوروس هذا الوقت العصيب ونهب الهيكل وسرق ثروة كثيرين من وجهاء اليهود وقتل كثيرين منهم ولقد رد اليهود بالمثل فصار اليهود والأمم يقتلون بعضهم البعض .
ولما افلت الزمام من يد فلوروس استنجد بحاكم سوريا الذي جاء على رأس جيش قوامه 23.000 رجلا واستولى على الجليل ثم تقدم إلى أورشليم ولكن اليهود هزموه وتبعوه إلى بيت حورون وكبدوه خسائر فادحة.
الحرب والنهاية:
عندما رأت روما خطورة الثورة اليهودية أرسلت أعظم قادتها جميعا فسبسيان على رأس خيرة الجيش الروماني فاستولى على الأرياف والمدن الصغيرة ثم حاصر أورشليم وتركها في حالة الضنك والضيق .أما الغيورتان بمساعدة 26.000 رجل ادومى فاستمروا ممسكين بزمام الأمور لكن الجوع والأوبئة قضت على الكثيرين منهم .في صيف 69م أعلن فسبسيان إمبراطورا في روما فتولى ابنه تيطس قيادة الحصار على أورشليم لمدة أربعة أشهر كاملة حتى حدث فيها ما لا يمكن أن يتخيله إنسان من القتل والجوع واحرق جنوده أسوار المدينة والهيكل وبذلك تمت فيهم نبوة المسيح من 40 سنة مضت وسقطت المدينة ولم تمض 3 سنوات حتى خضعت كل اليهودية وصارت كلها مستعمرة رومانية يحكمها حاكم روماني بعد أن جرد أهلها من كل حقوقهم المدنية .
في سنة 132م—135م قام اليهود مرة أخرى بثورة تحت زعامة سمعان باركوكبا ولكن الثورة أخمدت بالحديد والنار وطرد اليهود من أورشليم نهائيا ولم يسمح لهم بدخولها مرة أخرى وبذلك أضحت مدينة أممية وعند ذلك التاريخ انتهى تاريخ إسرائيل وانتهى ارتباطهم بأورشليم كعاصمة لهم
2- الأحزاب اليهودية الكبرى
في العهد الجديد أسماء لفرق دينية كبيرة لها نشاطها الضخم وتأثيرها على الحياة اليهودية دينيا وسياسيا كالفريسيين والصدوقيين وغيرهما هؤلاء لم يظهروا في فترة العهد القديم ولم يأت ذكرهم في المكتب المقدس ..ولهذا فلا يسع الدارس إلا أن يرجع إلى هذه الفترة – فترة ما بين العهدين – حتى يعرف شيئا عن نشأتهم والأسس الفكرية والاجتماعية التي أدت إلى ظهورهم كجماعات لها وزنها الكبير في الحياة العامة . واهم هذه الفرق ثلاث :
الفريسيون
الصدوقيون
الايسينيون
الفريسيون
(أ) الفريسيون
معنى لفظة فريسي “منفصل ” ولقد اختلف العلماء على أصل وتفسير هذا المعنى فظن بعضهم إنها تعنى ” الذين ينفصلون عن الناس ” وقال آخرون إن فعل الكلمة لا يعنى انفصال بل يعنى “التفسير” أي إنهم هم الذين يفسرون الكتاب المقدس أو الناموس وسواء أكان هذا المعنى أو ذاك فان هذا الاسم واشتقاقه ومعناه لا يكشف عن أصل هذه الجماعة وقيامها وأعمالها.
تاريخ الفريسيين :
يرجع ظهور هذا الحزب إلى عصر السبي عندما ترك كثير من اليهود بلادهم وهيكلهم وسيقوا إلى ارض غريبة سنة 586ق.م ولم يترك لهم في سبيهم هذا سوى كتاب الناموس وعمليا. دليلا لهم في عبادتهم وشريعتهم ولهذا صار الناموس –لا فالهيكل –مركز للحياة اليهودية تبنى عليه فكريا وعمليا.واحتاج هذا الوقف إلى أناس متخصصين في تفسير كتاب الناموس وشرحه فظهر في السبي أناس عظام في هذا الميدان الواسع وأشهرهم عزرا الكاتب وسمى كاتبا لأنه مع زملائه الكتبة هم الذين كانوا يقومون بتفسير الناموس ودراسته ونسخه.ومع إن الذين رجعوا من السبي عملوا بكل همة ونشاط على بناء الهيكل وارجعوا كل الشعائر الدينية وزادوا عليها إلا إن المركز الأول أضحى الآن للناموس واضحي رجاله المتخصصون عمد الحياة اليهودية الدينية بدلا من الكهنة هذه الجماعة التي اهتمت بالناموس حفظا ودراسة ونسخا وعملا هي نواة الفريسيين.
ولقد ظهرت أهمية الفريسيين كحزب عندما قامت ثورة المكابيين فقد كانت الثورة تعتمد كثيرا على “المجمع” اليهودي الذي كان يتكون من الكتبة الهسديم أي الأتقياء أو المخلصين للناموس (1 مكا 7: 11 – 17 ) واستمر هؤلاء في خدمة يهوذا الميكابى إلى إن انتصر ودشن الهيكل من جديد وبد عيد التجديد ولكنه عندما أقام بدور رئيس الكهنة مع انه ليس من الصدوقيين الذين انحصرت فيهم رئاسة الكهنوت بدءوا يتذمرون وزاد استياؤهم عندما جاء الياقيم إلى رئاسة الكهنوت في مقابل مهادنة السوريين وعندما ظهر الميل في عهد يوناثان الميكابى إلى مجاراة الرومان كانوا هم حجر العثرة إذ لم يقبلوا المعاهدة مع الوثنيين الأجانب وبدا يوناثان يطلق عليهم اسم “بروشيم” أي انفصاليين بدلا من “هسديم” أي قديسين ولكن انفصالهم الحقيقي عن الثورة المكابية بدا في عهد هيركانس الأول عندما اعترض بعضهم عليه كرئيس للكهنة وكان اعتراضهم هذا مبنيا على إن أمه لم تكر يهودية حرة ولكنها كانت أسيرة حرب فلا يجوز لابنها أن يكون رئيس للكهنة ثم وصل الصراع إلى ذروته في عهد ابنه جانوس الذي صلب منهم ثمانمائة شخص في مأدبة أقامها للصدوقيين –كما مر بنا ولكن زوجته أنصفهم وبعد موتها انقسم ابناها على أنفسهم فناصر الصدوقيون ارستوبولس وناصر الفريسيون هيركانوس .
وفى بداية العهد الجديد ظهر الفريسيون كجماعة لها سلطانها الطاغي على مستوى الأمة كلها فقد كانت لهم السيطرة داخل السنهدريم وخارجه ومع إن الصدوقيين المنافسين لهم والهرودسيين كانت لهم السلطة السياسة في الأمة إلا الروح الفريسة كانت قد امتلكت الشعب.
وبعد صعود المسيح وفى عهد الكنيسة الأولى يبدو إنهم كانوا يهادنون المسيحيين لأنهم كانوا أعداء لرؤساء الكهنة والصدوقيين وقد اتضح ذلك في موقف غمالائيل (اعمال5 : 24 ) أما اضطهاد شاول الطرسوسي الفريسي للمسيحيين فيغلب انه كان عملا شخصيا انحصر في شاول وفيمن يشبهونه إذ انه وضع نفسه في أيدي رؤساء الكهنة لكي يستخدموه في القضاء على المسيحية (اعمال9 : 2.1 ).
وعندما كان السنهدريم يحاكم بولس انقسم بسببه إذ حاول الفريسيون أن يطلقوه بينما خاصمه الصدوقيون ويقال إن الفريسيين الذين لم ينضموا إلى الغيورين هربوا مع المسيحيين من الكارثة التي حلت بأورشليم سنة 70 م.
الصفات الظاهرة للفريسيين:
لم يحاول كتاب العهد الجديد أن يرسموا صورة كاملة للفريسيين لأنه لم يكن هناك داع لذلك ولهذا فلو حكمنا على حياتهم كلها بما جاء عنهم في مناقشاتهم مع يسوع قد تحتاج الصورة إلى بعض الخطوط اللازمة لتكملتها فقد وقفوا من يسوع موقف المدافع عن الناموس فالقوا بكل ثقل تعصهم
وتمسكهم بناموسهم في المعركة لأنهم لم يستطيعوا أن يفهموا أو يقبلوا تفسيره لرسالته الفدائية ولهذا الأسباب يحتاج الدارس إلى مصادر أخرى إلى جانب العهد الجديد كي يكون فكرة عامة عنهم ولا يمكن أن يكون هناك من يضارع يوسيفوس المؤرخ اليهودي المشهور في معلوماته عنهم ومن دراسة هذين المصدرين المهمين العهد الجديد ويوسيفوس يمكن أن نعرف عنهم ما يلي:
1-إن اظهر صفة وأهمها في الفريسي هي دراسته للناموس دراسة وتفسيرات كثيرة معدة له حتى يضمنوا حفظه وقيل عنهم لذلك إنهم بنوا حائطا حول دقيقة ومحاولته وضع الناموس أو بنوا سورا حول أنفسهم لكي يكونوا هم من الدخل ويمنعون الآخرين من الدخول وهذه تهمة وجهها المسيح نفسه إليهم ولكن الفريسي لم يكن دارسا للناموس فقط بل متمما له لقد كانت أهم صفة تميزه عن بقية شعب الأرض هي التمسك بحرفية الناموس فقد اشتهروا بالصيامات والغسلات والكثيرة (مرقس 7: 3 .متى 6 ) .
2- ولكن الفريسيين اشتهروا أيضا بحفظهم التقليدات (متى 12: 2 مرقس 7 :5.3 ) .وبذلك اختلفوا كثيرا عن الصدوقيين الذين اهتموا بالناموس فقط مع انه كانت لهم أيضا تقاليدهم التي بنوها على أسفار موسى الخمسة ولكن الفرق بين الفريقين هو انه بينما كانت تقليدات الصدوقيين تتسم بالجمود وعدم التغير إلا إن تقليدات الفريسيين كانت تميل المرونة وقابلة للتغيير ولامتداد تعبا للمواقف المستجدة في الحياة تقليدات متحركة لا تقف في مكان واحد لقد كان للفريسيين صلتهم بالحي اليومية والحياة مملوءة بالواقف الجديدة فكان لا بد لمدارسهم الدينية والقانونية المختلفة أن تواجه هذه التغيرات بأحكام لم تكن في الناموس ولكن كانت تبنى عليه ولقد ساعدهم على ذلك اتساع عقيدتهم في الكتب المقدسة فبينما اقتصر الصدوقيون على أسفار موسى الخمسة أضافوا هم إليها الأنبياء والكتب فتمكنوا بذلك من تطبيق الناموس أو التقليد على كل موقف جديد .
3-ولهذا السبب يصف المؤرخون الفريسيين بأنهم أكثر تحررا من الصدوقيين حتى يوسيفوس نفسه يصفهم بأنهم حزب العقليين في اليهودية ( الآثار 18 : 3.1 ) ويعتقد كلاوستر إنهم الحزب التقدمي في اليهودية وعلى العموم فلقد كان الفريسيون والصدوقيون القوة الدافعة في المجتمع اليهودي وكان كل همهم هو تقوية هذه الأمة سواء أكان ذلك بالمهارة السياسية كم كان يفعل الصدوقيون أو بتقوية المجتمع دينيا كما فعل الفريسيون
معتقدات الفريسيين :
مما جاء عنهم في يوسيفوس والكتابات اليهودية والعهد الجديد ويمكن تلخيص معتقدات الفريسيين فيما يلي :
1- إن الله وحده هو الذي يدبر التاريخ ويديره ويعنى بحياة البشر إن الصدوقيين نسبوا للإنسان كثيرا من الحرية في أن يشكل حياته ويكيف مستقبله أما الفريسيون فقد اعتقدوا بان الأمر كله هو بيد الله (مزامير سليمان 5 :6).
2- اعتقدوا في القيامة والحياة المقبلة بعكس الصدوقيين (أعمال 23 : 8 )
3- كانت لهم فكرتهم الواسعة عن الملائكة والأرواح بعكس الصدوقيين (أعمال 23 : 8 ).
4- أما في عقيدة الحياة المقبلة “الإسخاتولوجي ” فقد كانوا يعتقدون إن الشر يملا العالم حقيقة ولكن هذا لن يبقى إلى الأبد فلا بد إن الله سينتصر على قوة الشر وسيأتي ملكوت الله على الأرض وسوف يرد الرب الملك لداود ونسله ومع أنهم كانوا يعتقدون في قيامة الأموات إلا إن تفكيرهم كان ارضيا أو من هذا العالم .
أما عن المسيا فان مزامير سليمان تعطى العقيدة الكلاسيكية الفريسية (مزامير سليمان 17 : 34.33 ). فالمسيا سوف يأتي من نسل داود وسوف تخضع له كل الشعوب وسيعطى المجد والملك لإسرائيل.
يسوع والفريسيون :تظهر الأناجيل إن الصلة بين يسوع والفريسيين كانت صلة حوار مستمر. ففي بدء خدمته حاولوا أن يفهموا رسالته، وهدفه، فأرسلوا إليه مرات كثيرا أناسا يراقبونه ويعطون تقريرا عنه، ولكنهم بدءوا يظهرون عدم رضائهم عنه وعن أعماله عندما لم يخضع لتقاليدهم، وخصوصًا في مسالة السبت والصوم. واضحو كثير منهم ضده، وأرادوا أن يوقعوه في فخ أو شراك. ولكن جماعة منهم حاولوا أن يتخذوا منه صديقا وحاولوا جاهدين أن يكسبوه إلى جانبهم، فكم من مرة دعي ليتغذى عند فريسيين وحتى على الصليب اظهروا إنهم مستعدون أن يقبلوه لو فعل أمامهم معجز واحدة وانزل نفسه من على الصليب ( متى 27: 42 ).
لقد ضجر منه اغلبهم لأنه صار أكثر شعبية منهم لان الأمة ذهبت وراءه ولقد وبخهم السيد توبيخا صارما بنوا ديانتهم على الريا والمظاهر الخارجية حتى صارت هذه المظاهر هي الصفة البارزة في حياتهم الدينية بينما كان يسوع يعلم ويحقق في حياته العمق الحقيقي للحياة السامية
( ب ) الصدوقيون
هم الحزب اليهودي الثاني الذي كان له اثر كبير في الحياة اليهودية ولاسيما في الحياة السياسية وكثيرا ما يلتقي بهم الدارس على صفحات العهد الجديد في مواقف متباينة وخاصة مع المسيح.
أصل الصدوقيون :
يذكر الدارسون إن أصل الصدوقيين يرجع إلى واحد من الأصول الآتية :
الرأي الأول:
يقول إن أصل كلمة الصدوقيين مشتقة من لفظة ” صديق” العبرية وهى تعنى ” بار أو صالح ” ولكن أغلبية الدارسين لا توافق على هذا الرأي وذلك لان أصل كلمة صدوقيين يختلف عن كلمة “بار” فهي تأتى من المصدر ” صدوق ” وليس ” صديق”
أما الرأي الثاني:
فقد نادى به احد معلمي اليهود وعاش في القرن العاشر الميلادي إذ يرجع أصلهم إلى صادوق احد تلامذة المعلم انتيجونس الذي كان يعلم بان خدمة الله ومحبته يجب أن تخرج من قلب الإنسان دون النظر إلى مكافأة أو مجازاة . وبدا هذا المعلم يشتط في مذهبه حتى وصل إلى إنكار الحياة المقبلة والقيامة ولكن هذا الرأي متأخر لا يعتمد عليه في دراسة جدية.
أما الرأي الثالث:
وهو الأرجح – فيقول عنهم إنهم نسل صادوق الكاهن زميل ابياثار الذي خدم في كهنوته في عهد داود ( 2 صموئيل 8 : 15.17 : 24 )..(ملوك 1: 35 ) ويذكر التاريخ المقدس إن سلميان الملك رفعه إلى اعلي مرتبة ووصفه حزقيال النبي على هو رئيس الكهنة المثالي ( حزقيال 40 : 46.45 . 43 : 14.19 :15. 48 : 10 ) وان صح هذا الرأي فيكون الصدوقيون بذلك هم ورثة الكهنوت الشرعيون .
تاريخ الصدوقيين :
ذكر يوسيفوس عندما كان يعرض لصلة يوناثان الميكابى بالرومانيين كأحد ثلاثة أحزاب كبرى في اليهودية : الفريسيين الصدوقيين والايسينيين وتوحي عبارة يوسيفوس بان الحزبين الأولين كانا موجودين من قبل تلك الحوادث التي كان يصفها ولكن تحت اسمين مختلفين ويتضح أيضا من قصة يوسيفوس إن صراعا عنيفا كان يدور بينهما ولقد ارجع البعض هذا الصراع إلى الصراع الخفي الذي يدور بين الكتبة وعلى رأسهم الكاتب عزرا ولكن هذا الرأي ضعيف ولان عزرا نفسه كان كاهنا ولم يسمع من قبل إن صراعا خفيا كان يدور بين الكهنة والأنبياء .
أما غالبية المؤرخين فيرون إن السبب الرئيسي الذي قسم الحزبين وجعل منهما عدوين لدودين هو تاريخ الكهنة وما عملوه بعد السبي فلقد اتخذت الأمة من رئيس الكهنة رئيسا سياسيا أيضا وبهذه الكيفية بدا هؤلاء ينسون الوظيفة الأساسية لهم من تقديم الذبائح والقيام بالخدمة في الهيكل ومالوا إلى الحياة العامة وانغمسوا في الحياة السياسية ودفعهم ذلك إلى التثقف بالثقافة اليونانية ولأخذ بأسباب الحضارة الهلينية فبدا إحساسهم بالناموس يضعف شيئا وصاروا رجال دنيا أكثر منهم رجال دين فتسبب موقفهم هذا في صدور رد فعل شديد ضدهم بين “الهسيديم” أو الأتقياء وهم نواة حزب الفريسيين كما مر بنا – فازداد تمسكهم بالناموس لدرجة إنهم حاولوا – وقد نجحوا في ذلك – أن يجعلوا منه المركز الرئيس للأمة يحفظها من كل التيارات الغربية الهدامة التي تغزو بلادهم ومن هنا بدا التصادم والصراع بين هذين الحزبيين الكبيرين .
ولقد كان الصدوقيون سلبيين في موقفهم من ثورة المكابيين فلم يجد قادة هذه الثورة بديلا من الاعتماد على الفريسيين اعتمادا كليا ولكنهما لم يبقوا في وفاق تام معا مما شجع المكابيين مرة أخرى على الالتجاء إلى الصدوقيين وكان أكثر من فعل ذلك هو اسكندر جانوس الذي جاملهم بان صلب ثمانمائة فريسي أثناء وليمة لهم وهكذا استمر الصراع بين هذين الحزبيين أثناء الثورة المكابية .
واستمر الصدوقيون وعلى رأسهم رؤساء الكهنة في منصب الزعامة السياسية للأمة ومع إنهم كانوا أقلية داخل السنهدريم وخارجه إلا إنهم استخدموا مكرهم ودهاءهم السياسي في التمسك بالسلطة وكان من اظهر هذا الدهاء السياسي هو تحالفهم مع هيرودسيين .
وجاءت نهايتهم القاسية على أيدي الغيورين ثم الرومان عندما قامت الثورة اليهودية فقد قتل الغيورون رئيس الكهنة ثم خرب الرومان الهيكل وأبطلوا العبادة فاختفى هذا الحزب من المسرح ولم تقم له قائمة بعد ذلك.
الصفات البارزة للصدوقيين :
ينتظر الإنسان من حزب سياسي مشهور بالمكر والدهاء أن يكون أفراده لطفاء حتى في الظاهر ولكن يوسيفوس يقول عكس ذلك فيصفهم إنهم قساة وغير مهذبين ويؤيد العهد الجديد ما يقوله هذا المؤرخ عنهم فقد ظهرت صفة القسوة والجمود هذه في محاكمتهم ليسوع ( متى 26 : 68.67 ) وفى محاكمة بولس ( أعمال 23 : 7 ) . وينسب إليهم يوسيفوس أيضا إنهم هم الذين قتلوا يعقوب أخا الرب . ولكنهم كانوا مع ذلك جبناء فعندما كانوا يتولون القضاء كانوا يسيرون بحسب تقاليد وشريعة الفريسيين لأنهم كانوا يخافون من ثورة الشعب عليهم .
ولكنهم تميزوا على الخصوص بجشعهم ومحاولتهم الغنى من وراء التجارة في الهيكل فبرهنوا بذلك على إنهم الخلفاء الحقيقيون لحفني وفينحاس .وكانوا يعمدون إلى الخديعة في تجارتهم في ذبائح الهيكل وفى تغيير العملة الأجنبية إلى الشاقل المقدس الذي لم يسمح لأية عملة غيره أن تدخل إلى القدس . هذا كله دفع يسوع إلى أن يثور عليهم وبطرد كل عملائهم وما لهم من هيكل ( مرقس 11 : 15-18 ).
عقائد الصدوقيون :عرفنا إن الفريسيين كانوا يعتبرون الناموس هو قلب الأمة والديانة لكن الصدوقيين اعتقدوا بان العبادة الحقيقية والديانة الصحيحة هي تلك التي تتركز في التقدمات والذبائح والمحرقات ولهذا تمسكوا بعبادة الهيكل وما يحيط بها دون أن يتزحزحوا قيد أنملة عنها ويروى عنهم العهد الجديد إلا يؤمنون بروح ولا بملاك ولا بقيامة ( أعمال 23 : 8 ) ويبنون عقيد هذا على أساس إن الناموس لم يذكر هذا كلها أما مسالة ظهور الملاك ورد في كتب موسى فقد ظنوا إنها عبارة عن رؤى لا أكثر ولا اقل الأمر يخالف ويناقض عقيدة الفريسيين الذين اعتقدوا إن هذه حقائق عرفه موسى نفسه وسلمها إلى الشيوخ ولا زالت تسلم إلى الشعب .
وفى مرض حديثه عنهم يقول يوسيفوس بصدد عقيدتهم هذه أن يعتقدون إن الروح تموت مع الجسد وإنهم ينكرون إن هناك شيئا اسمه العناية الإلهية وخلاصة القول إن ديانة الصدوقيين كانت ديانة حسية مادية .
صلة الصدوقيين بيسوع والمسيحيين :
تظهر الأناجيل إن الصدوقيين وعلى رأسهم رؤساء الكهنة لم يبالوا بظهور يسوع ولم يجدوا فيه خطرا يذكر في أول خدمته وهناك أمر أخر يظهر في رسالة السيد وهو توبيخه الشديد للفريسيين دون الصدوقيين مع انه كان فريب جدا من الفريسيين في حين إن رسالته كانت تتناقص عقيدة الصدوقيين وعملهم ومثلهم قال بعض الدارسين جوابا على ذلك إن خدمة يسوع كانت تتركز بالأكثر في الجليل وما حولها حيث كانت الغالبية العظمى من رجال الدين من الفريسيين أما الصدوقيين فقد تركزوا في اليهودية موطن الثراء والارستقراطية ولهذا السبب لم يكن هناك احتكاك كثير بينه وبينهم ولكن هذه النظرية لا تعطى الجواب القاطع على ذلك فان حادثة تنظيف الهيكل كانت توبيخا صارما اشد في قسوته من ويلاته التي حكم بها على الفريسيين إننا نعتقد إن يسوع كشف الغطاء عن قصد الصدوقيين ولا بد إن نطق بتوبيخات قاسية عليهم لم تذكر في الأناجيل .
أما هم فنجد اللامبالاة التي قابلوا بها رسالة يسوع أولا ظانين إنها حركة تختص بالفريسيين وحدهم ولا شان لهم بها تحركوا وانزعجوا وعملوا بقوة وبقسوة للتخلص م يسوع وكان الدافع الأول لهم على ذلك هو علمهم إن يسوع قد أعلن انه هو المسيا فخافوا من حركة سياسية عسكرية يقوم بها الرومان ضدهم ويؤكد ذلك تلك العبارة التي ذكرها يوحنا على لسان رئيس الكهنة 0 يوحنا 11 :50 ) “خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها “.
لكن ما يلاحظه دارس سفر الأعمال إن رؤساء الكهنة كانوا أكثر ضراوة ووحشية في مقاومتهم
للمسيحية والمسيحيين في عهد كنيسة الرسل (أعمال 4: 1 ) واستمرت عداواتهم هذه حتى أزالوهم من التاريخ المقدس.
( جـ ) الايسينيون
الايسينيون جماعة من اليهود كانت تعيش أيام وجود المسيح في الأرض ومع إن ذكرهم لم يرد في الأناجيل ولا في بقية كتب العهد الجديد ولكن الاكتشافات الحديثة وخاصة مجموعة المخطوطات التي تسمى عادة ” مخطوطات البحر الميت “- التي اكتشفت في سنة 1947 كشفت عن نفوذهم الكبير وعلى كثير من تعاليمهم وحياتهم مما اثأر الكثير من الاهتمام بهم وبدراسة تعاليمهم .
معنى الاسم :
لقد اختلف العلماء على المصدر الذي جاء منه اسم هذه الجماعة فظن بعضهم انه مشتق من الكلمة اليونانية هوسيوس بمعنى مقدس وقال آخرون انه يأتي من الكلمة العبرية ” حصيد ” ومعناه تقي وظنت جماعة ثالثة “سحل”
بمعنى يستحم أو ” صنبل” بمعنى متكبر أو ” حسايم” أي “صامت” وغير ذلك من التكهنات ولم يحدث أبدا إن اتفق غالبية من العلماء على نظرية واحدة ولهذا لا يزال أصل الاسم ومعناه سرا مغلقا لم يكشف عنه النقاب بعد.
مصادر معرفتنا بهم :
لم يرد ذكر الايسينيين في كتب العهد الجديد ولهذا السبب فيلزم أن يبحث الدارس عن مصادر أخرى ولقد وجدت عدة مصادر تذكر شيئا أو أخر عنهم أهمها خمسة :
1-فيلو:
وهو الفيلسوف الإسكندري اليهودي الذي عاش في القرن الأول وقد ورد ذكر الايسنيين في كتابيين من كتبه: الأول كتاب ” النظريات ” والثاني ” الإنسان الصالح حر “.
ويظن بعض العلماء إن فيلو كتب هذين الكتابيين في مصر قبل عام0 5 قبل الميلاد فلا بد له والحالة هكذا أن يعتمد على مصدر مكتوب عنهم وان صح هذا الرأي فانه يؤكد إنهم كانوا موجودين كحزب كبير قبل هذا التاريخ وفى كتاب ثالث لنفس هذا الفيلسوف اسمه ” حياة التأمل”يرد وصف جماعة مصرية تشابه في كثير من سماتها وحياتها والايسينيين مما جعل الكثيرين يعتقدون إن أصل الجماعتين واحد عاشوا في مكان ما لكن بعضهم هاجر إلى مصر والأخر عاش في فلسطين.
2-يوسيفوس :
أما يوسيفوس فيذكرهم في كتابيه ” الحروب اليهودية “و “الآثار” ويذكر يوسيفوس إنهم كانوا حوالي أربعة آلاف شخص ويقول انه في سن 16 سنة ذهب إلى الصحراء ومكث هناك 3 سنوات وتعرف على كثير من عادات هذه الجماعة ولهذا يعتبر يوسيفوس مصدرا مهما عنهم .
3-بلنى الكبير :
كان هذا الرجل ضابطا في جيش فسبسيان وقد سار في وأدى الأردن ليعمل رسميا طوبوغرافيا له . وجاء في مذكراته “انه رأي ” قريبا من أريحا واحتين تصلحان للسكن فرجح أن تكون هاتان الواحتان هما المكان الذي كان يقطنه الايسينيون. نظرا لأنهم كما قال بلنى كانوا يسكنون وسط أشجار النخيل ولقد أيدت المكتشفات الحديثة صحة رواية بلنى .
4- هيبوليتس :
وهو احد الآباء المسيحيين وقد كتب عنهم فصلا مطولا ويظن بعض العلماء إن هيبوليتس هذا قد اعتمد اعتمادا كليا على كتابات يوسيفوس عنهم ولكن هذا الاعتقاد مبالغ فيه لان هيبوليتس غير كثيرا مما كتبه يوسيفوس فنفى عنهم ما قال يوسيفوس من إنهم كانوا يعبدون الشمس فلا بد انه كان يمتلك مصدرا أخر وكان مما ذكره هيبوليتس إن الغيورين كانوا جزءا من الايسينيين .
5-مخطوطات البحر الميت :أما أهم مصدر عنهم فهو المصدر الذي اكتشف حديثا وخاصة الجزء الذي وجد في الكهف الرابع ولقد صححت هذه المخطوطات بعض الأفكار الخاطئة التي رجت عنهم ثم ألقت النور على حياتهم الداخلية ومعتقداتهم وتنظيماتهم وتعاليمهم .
تاريخ الايسينيين :
يبدأ تاريخ الايسينيين ببداية المكابية ويعتقد غالبية المؤرخين أنهم والفريسيون قد انفصلا عن أصل واحد نظر للتشابه الكبير بين هذين الحزبين ولعل أصلهما هذا هو الهسيديم (الأتقياء) وتقول التقاليد اليهودية إن الايسينيين كان لهم نشاطهم الخاص وأثرهم الكبير في الحياة العامة في أورشليم واستمر هذا النشاط إلى نهاية حكم ارستوبولس الأول 105-104 ق.م ( الحروب اليهودية 1: 3-5 ). ولكنهم هربوا من المدينة في عهد اسكندر جانوس وذهبوا وسكنوا في المنطقة التي وجدت فيها مخطوطات البحر الميت ويتضح من الاكتشافات إنهم بقوا هناك إلى أن استولى هيرودس الكبير على السلطة سنة 36 ق.م . وكانت سياسة هيرودس هي العمل الدائم على تحطيم بيت المكابيين حتى لا يمكنهم المطالبة بالسلطة مرة أخرى فعمل على إحياء هذه الأحزاب المعادية لهم وكسب رضاها .فصادق الفريسيين والايسينيين وسمح لهؤلاء بالرجوع إلى أورشليم ووهبهم الحرية الكاملة في العبادة في الهيكل واقطعهم الجزء الجنوبي من المدينة فكسب بذلك عطفهم وصداقهم وقاموا هم بدورهم بحركة تبشير واسعة الاجتذاب غالبية اليهود إلى مبادئهم ونجحوا في ذلك حتى إن الكثيرين من سكان المدن والقرى عطفوا عليهم إن لم يكونوا قد صاروا فعلا من تلاميذهم وأطلقوا اسمهم على البوابة الجنوبية واستمر نشاطهم هذا إلى أن مات هيرودس الكبير ولكن يخطئ من يظن إن هذه العلاقة التي كانت بين هيرودس وبين الايسينيين كانت عميقة الجذور فقد ساند وبكل قوتهم تلك الجماعة التي هجمت على النسر الذهبي الذي وضعه هيرودس على بوابة الهيكل فما كان منه إلا إن احرقهم إحياء.
والتاريخ لا يذكر هرب الايسينيون مرة أخرى إلى البادية ولكن كتاباتهم تعلن أنهم فعلوا ذلك إتباعا لقول إشعياء ( مخطوطات الكهف الأول 8:13 و14 ) وبذكر يوسيفوس أنه قد خرج منهم واحد من أقدر قادة الثورة اليهودية سنة 66م . ولهذا السبب أحرق الرومان مكانهم وقتلوا الكثيرين منهم ، ومع ذلك فقد ظلوا يقاومون إلي أن قضي عليهم بعد ما قضي علي ثورة باركوكبا 132-135م. وبعد ذلك الوقت لا يذكر التاريخ عنهم شيئا، ويلوح أن الكثيرين منهم قد تحولوا إما إلي المسيحية أو إلي اليهودية العامة، ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة إلي أن تم الكشف عن آثارهم المكتوبة سنة 1947م.
حياة الإيسينين :
تكشف المصادر السابقة – وخصوصا مخطوطاتً البحر الميت – عن جوانب كثيرة مختلفة من حياة الإيسينين . فقد اعتقدوا عقيدة راسخة أنهم هم وحدهم جماعة العهد المتجدد الذي سيبقي إلي الأبد. وكانوا يجتمعون مرة كل سنة لكي يعيدوا عيد تجديد هذا العهد. وكان من اظهر ملامح حياتهم التشديد المتعنت في الغسلات والتطهير ، ولهذا السبب امتنع الأكثرون منهم عن السكن في المدن لأنهم كانوا يخشون الاختلاط بالمدنيات الغربية فيتنجسون . ويمكن أن تلخص حياتهم فيما يلي:
(أ) الاشتراكية:
كان كل شيء في الجماعة مشتركاً: الحقول والبيوت والملابس والطعام كان كل بيت مفتوحاً لأي إنسان من هذه الجماعة. وكان لكل الجماعة وزير خزانة يستولي علي أجورهم وأموالهم ويشتري لهم بها كل شيء ، ولم يكن بينهم بيع ولا شراء ولا سيد ولا مسود يشتركون في الإحساسات والمشاعر ، فضلوا حياة الكفاف عن الثراء والغني ، كان صغيرهم يخضع لمن هو أكبر
منه، وأحبوا بعضهم بعضاً؛ وكان الهدف الذي يجمعهم معاً ويشد أرواحهم إليه هو الحرب الأخيرة.. الحرب المقدسة التي ينتصر فيها شعب الله ويظهر المسيا .
(ب)الزواج:
يذكر فيلو ويوسيفرس أن الإيسينين كانوا يعزفون عن الزواج وكانوا يعتقدون أنه يعطلهم عن عملهم ، وكان أقدس عمل عندهم هو الاستعداد للحرب المقدسة ضد الشر وبليعال . وكانوا يعتبرون أن من يتزوج منهم فهو يرتكب خطية النجاسة فلا يحق له أن يبقي في المحلة ، وبهذه الكيفية صارت الدعوة إلي الامتناع عن الزواج من صلب دعوتهم وديانتهم ، ويفسر هذا عدم وجود أجساد نسائية في مغارات ومدافن القمران ، ولكنهم مع ذلك كانوا يتبنون أطفال غيرهم حتى لا تنقطع الجماعة.
ولكن يوسيفوس يذكر عنهم رأيا آخر وهو أنهم سمحوا لبعضهم بالزواج ، ولكن كان الزواج عندهم إنجاب النسل فقط ، ووضعوا لهذا الزواج أحكاماً كثيرة مشددة .
(ج) مطاليب الانضمام للجماعة :
لم يكن من السهل أن ينضم شخص ما إلي جماعة الإيسينيين ، فدون ذلك مطاليب قاسية شديدة . فقد كان علي طالب الانضمام أن يجوز تحت الاختيار القاسي سنة كاملة ، يتمم فيها كثيراً من الفرائض والأحكام وعندما يبرهن علي أنه مخلص في طلبه فإن الجماعة تقربه إليها ، ويمنحونه أن يشارك في المياه المقدسة ، ومع ذلك فلا يستطيع أن ينال العضوية الكاملة في الجماعة إلا بعد مرور سنتين آخرين بعدهما يعطي العهد المقدس ، ثم يقسم بأن يكون تقياً أمام الله عادلا لكل الناس ، لا يكسر الشريعة ، يحفظ الإيمان ، لا يتعالي علي الغير ، لا يسرق ولا يتنجس ، لا يخفي شيئا عن الجماعة ، يحافظ علي أسرارها وعقائدهم فلا يسلمها إلا لمن يدخل ويقبل فيها ويسلمها بأمانة تامة .
الحكام الإيسينية :
كان النظام الإيسيني شديداً قاسياً علي كل مرتكبي المخالفات . فقد يصل الحكم إلي حد الحرمان من الطعام المقدس فيموت الجاني جوعاً لأنه لا يستطيع أن يأكل غيره. وكانت محكمتهم تتكون من مائة قاض ولهذا فقط كان حكمها نهائياً لا مرد فيه وكان لهم شخص موقر يجلونه بعد الله مباشرة واسمه ” معلم الصلاح ” يحترمون الشيوخ ، ورأى الأغلبية هو السائد بينهم ، يدققون في حفظ السبت أكثر من أي يهودي آخر في العالم ، وهم يقسمون أنفسهم إلي أربع درجات أو مراتب ويعتبرون المرتبة الرابعة أقصي درجات الكمال الإيسيني .
(د) موقفهم من الهيكل :
كانت هذه الجماعة تشترك في عبادة الهيكل، فكانوا يرسلون الذبائح إليه دون أن يذهبوا هم خوفاً من النجاسة والاختلاط ببقية الناس النجسين. ولكنهم في نفس الوقت كانوا يقدمون ذبائح أخرى في مكانهم، وكانوا يعتبرونه قدس أقداس الأمة. ومع ذلك فقد كانوا يعيشون علي رجاء قوي أن الرب في آخر الأيام سيأخذ الهيكل من الأيدي النجسة ويعطيه لرئيس كهنتهم هم المقدس.
(هـ) عبادتهم اليومية: أخطأ يوسيفوس عندما ذكر عنهم إنهم كانوا يعبدون الشمس ، فقد التبس عليه ما كانوا يفعلونه عند الصباح الباكر إذ كانوا يصلون عند شروق
الشمس تماماً ، فظن أنهم من عابدي الشمس ، وبعد هذه الصلاة كانوا يذهبون إلي عملهم المتنوع ، حتى الساعة الخامسة ( أي الحادية عشر بتوقيتنا نحن ) ، فيحضرون إلي مطعمهم المقدس وهناك يجلسون في صمت وسكون ، فيوزع عليهم الطعام ويطلب لهم الكاهن البركة ثم يأكلون . وبعد ذلك يطلب الكاهن البركة مرة أخري ثم يستريحون ، وبعد ذلك يقومون لعملهم مرة ثانية حتى المساء . فيأتون إلي المطعم المقدس ويفعلون ما فعلوه في الصباح وكانوا بذلك يعبرون عن استعدادهم التام لمجيء المسيا وحضور عشائه العظيم ولقد كشف المنقبون عن المكان والأواني التي استخدمها الإيسنيون في طعامهم .
(و) دراسة الكتاب :
كان الايسينيون أعظم من درس العهد القديم ، وكان يوم السبت هو اليوم المخصص لهذه الدراسة العميقة فقد كانوا يجتمعون معاً فيقرأ لهم أحدهم الكتب المقدسة ، وبعد ذلك يبدأ واحد آخر ضليع في الكتب في تفسير ما قرأ ، وكانوا يعتقدون أن المواعيد الثمانية قيلت فيهم وتتم في جماعتهم .
ويقول يوسيفوس إن بعضهم احترف النبوة . وكانت لهم كتب التفسير الخاصة بهم .
هذه هي جماعة الإيسينين ، وهذه هي حياتهم ويميل غالبية دراسي الكتاب المقدس إلي الاعتقاد بأن يوحنا المعمدان تربي في وسطهم وعاش بينهم وأخذ من طباعهم مع انه كان يختلف في كثير من العقائد .
وإلي جانب هذه الأحزاب الثلاثة الكبرى ظهرت بعض الجماعات الصغيرة التي لم يكن لها تأثير الكبير في حياة الناس أو في مجريات السياسة ومن هذه الجماعات :
الهيرودسيون :
وقد ورد ذكرهم مرتين في إنجيل مرقس ( مرقس 3 : 6 ، 12 : 13 ، أنظر منى 22 : 16 ) ولكن لا نسمع عنهم شيئا آخر في العهد الجديد أو في أي من كتابات المعاصرين ؛ ولقد ذكرهم مرقس عند اتفاقهم مع الفريسيين لكي يصطادوا يسوع بكلمة . ولقد اختلف العلماء في تحقيق شخصية هذه الجماعة بعضهم ظن إنهم الصدوقيون وذلك بمقارنة مرقس 8 : 15 مع منى 16 : 6 ، أي أن خميرة الصدوقيين في منى هي نفسها خميرة هيرودس بحسب مرقس ( وهيرودس قد يقصد بها الهيرودسيين ). وقال آخرون إن هؤلاء الهيرودسين هم جماعة ظنت أن ملك هيرودس هو الحل الوحيد للمشكلة اليهودية . وهناك رأي ثالث يقول إنهم هم الذين ظنوا أن هيرودس هو المسيا المنتظر ، ولكن هذا رأى غير معقول .
منتظر وخلاص إسرائيل :
كانوا جماعة متفرقة لكنها حسمت كل آمال اليهود الروحية. اختلفوا في عقيدتهم وميولهم ومركزهم الاجتماعي. فمنهم الكهنة كزكريا أبي المعمدان ( لوقا 1 : 8 – 25 ، 67 –80 ) ومنهم العذراء ( لوقا 1 : 2 – 56 ) هؤلاء وغيرهم ممن لم يكن النفوذ الاجتماعي أو السياسي أو الديني كانوا يمثلون كأفراد وجماعات صغيرة كل مثل اليهود العليا ، وكانوا يعيشون في انتظار الخلاص الروحي والسياسي الذي يقوم به الرب لشعبه إسرائيل . وإلي جانب هؤلاء وأولئك كان هناك الشعب بأكمله بكل عناصره، ولقد أطلق عليه شعب الأرض. كان منهم البسطاء والكادحون .. العشارون والخطاة ، يكفي أن يقرأ الفرد عن الجماعات التي كانت تتبع يوحنا المعمدان ويسوع حتى يجد صدى رسالتيهما في هؤلاء المساكين الذين كانوا كغنم لا راعي لها .
3- الفكر اليهودي في فترة ما بين العهدين
لم يتأثر العهد الجديد بفترة ما بين العهدين سياسياً فقط . فقدا كان التأثير الديني والفكري أوضح وأكثر عمقاً. فهناك كثير من المعتقدات والتنظيمات التي تظهر في العهد الجديد ولكن يقابلها شيء مثيل في العهد القديم. ومن البديهي أن هذه المعتقدات لم تتولد من لا شيء ؛ بل لابد أن سبقتها مقدمات وأسس في فترة ما بين العهدين ، فهل هذا يعني أن معتقدات جديدة ولدت في فترة ما بين العهدين ؛ وتسلمها كتاب العهد الجديد ، دون أن يكون لها أساس في العهد القديم ؟ إن الحقيقة الواضحة هي أن هذه المعتقدات كانت إما موجودة في العهد القديم ، وكان كل الفضل لمفكري هذه الفترة هو تعميقها وتوضيحها ، وإما أن بذرتها غرست من قبل وتمكن كتاب هذه الفترة من اكتشافها ورعايتها وإظهار ما تضمنه وما تشير إليه . فالعهد القديم كان الأساس الأول ، وجاءت هذه الفترة الغنية بالتفكير والمعتقدات فبنت علي هذا الأساس ما شاء لها من البناء . ويمكن أن تتضح هذه الحقيقة بدراسة مجموعة من عناصر التفكير اليهودي في تلك الفترة.
1- فكرتهم عن الله :
لقد حدث تغيير ضخم في موقف الشعب بعد السبي من جهة فكرتهم عن الله. فقدا كانت تجربتهم المرة قبل السبي تكمن في الأصنام وعبادتها.
وكانت الإنذارات القاسية والكثيرة التي وجهها الأنبياء إلي الشعب هي ترك الرب إلهم وعبادة آلهة غربية ، أما المعجزة الكبرى التي حدثت في السبي هي أن هذا الشعب صهر في الأرض الغريبة ونبذ فكرة الصنامية نبذاً نهائياً قاطعاً . لقد كانت بابل هي المطهر الذي طهر فكرة الإلوهية عندهم ونقاها من الشوائب . وقد عبر عن هذه الحركة إشعياء النبي في الإصحاحات الأولي من القسم من سفره ( إ‘إشعياء 40 –45 ) .
ولكن الأمر لم يتوقف إلي هذا الحد؛ بل تعداه إلي ما هو أبعد من ذلك نظرا لما كان يجري حول هذا الشعب من تيارات دينية متعددة. فقد ظهرت آثار عقيدة زارادشت واضحة بين اليهود خاصة جماعة يسمون الرؤيون نظراً لأسلوب الكتابة التي كتبوا به ، فقد اعتقدوا أن العالم قد صار فاسدا شريراً ولا رجاء منه ، ولا يمكن أن يكون لله الكلي القداسة أي صلة أو اتصال بهذا العالم الفاسد . أما اتصاله بهذا العالم فيكون عن طريق ملائكة ورؤساء ملائكة ، وبهذا الشكل ظهرت عقيدة السمو ، المطلق لله Transcendence of Gad واختلفت العقيدة الولي ” سكني الله ” في وسط شعبه في الهيكل وسيره معهم ، وبلغ بالناس تقديسهم لله أنهم كانوا يخافون أن ينطلقوا باسمه ، فاسم الله كان أقدس من أن ينطقوا به . ولكني الله لن يترك العالم الفاسد هكذا ضحية الشر ولأثم لأن له فيه شعباً ، ولذلك فهو سيتدخل يوماً بقوة وجلال فيحطم الشر ويقيم ملكوته البدي .
الناموس:هذه العقيدة فقد غض2ب الفريسيون من الطريقة التي اتبعها المسيح في تعليمه عن الله كأب محب يرعي كل مصالح شعبه أفرادا وجماعات واتهموا يسوع بأنه لا يقدس الله تقديساً كافياًً ؛ وانه نزل بفكرة الإلوهية إلي المستويات التي لا تليق .
2- الناموس:
بني اليهود عقيدتهم في الناموس علي عقيدتهم في الله . فالله قد تواري وراء السحاب وصار أعلي من السموات ، ولم يعد الآن صوت للنبوة يرتفع في الأمة . فالله لا يتكلم مع البشر الآن . لكنه مع ذلك ترك مصدراً أبدياً لمعرفة إراداته . هذا المصدر هو الناموس . فرجع الناس إلي الناموس باعتباره الطريق الوحيد الباقي الكامل لمعرفة القصد الإلهي في حياتهم . وكان كلما تقست الظروف عليهم فعملت علي انحلالهم كآمة كانوا يرجعون إلي الناس الناموس باعتباره الرباط المتين الذي يربطهم ويوحدهم ؛ ولهذا أضحي الناموس الأساس القويم لحياتهم الدينية والمدينة والسياسية ، وتخصص منهم أناس في دراسته وفهمه وأطلقوا عليهم اسم ” الكتبة ” .
وكلمة الناموس كانت تطلق أولا علي أسفار موسي الخمسة، ولكنها اتسعت فشملت كتب الأنبياء وأخيراً أضحت تطلق علي كل أسفار العهد القديم المعروفة لنا الآن. وصارت هذه الكتب هي الدستور السماوي الذي وضع للأمة اليهودية ليحدد معني إيمانها وأعمالها. ولكن إلي جانب هذه الكتب وجدت مجموعة من التعاليم الشفوية، قيل عنها إن الله قد أعطاها لموسي فوق الجبل، ولكنه لم يضعها في كتاب بل سلمها بدوره إلي السبعين شيخاً الذين اختبروا ليعاونوا في خدمته. وهكذا صارت تسلم من جبل إلي آخر إلي أن وصلت إلي يدي رجال المجمع الكبار الذين يقف عزراً علي رأسهم. وقد قسمت هذه التعاليم إلي قسمين رئيسين : القسم الأول اسمه حالقاه Halakan أو ” المشنى ” وكان القصد منها أن تمم عمل الناموس المكتوب ، فقد كان هناك بعض الحالات التي لم يشملها الناموس في أحكامه ، فلا يجوز أن يقف الشيوخ أو القضاة عاجزين أمامها ، بل يجدون في هذه التعاليم ما يرشدهم إلي الحسم فيها . أما القسم الثاني فاسمه ” إلهاجاداه Hagaadah وهي تعني ” التعاليم : والغرض منها تفسير الناموس ، فهي مملوءة بالشروحات والأمثلة والقصص التي توضح وتظهر معني الأحكام والفرائض المختلفة في الناموس . ولقد جمع اليهود هذه التقاليد الشفوية في مركزين مختلفين وسمي أحدهما بالتلمود البابلي والآخر بالتلمود الفلسطيني، ولا شك أن التلمود البابلي أكثر شهرة من الآخر. ويلوح أن هذه التقاليد هي التي أشار إليها يسوع في توبيخه للفريسيين عندما وصفهم بأنهم أبطلوا كلمة الله بتقاليد آبائهم ( منى 15 : 2 ؛ مرقس 7 : 3 ) .
3- الديانة الشخصية :
في تلك الفترة بدأت فكرة الديانة الشخصية تتسع لتشمل كل الناس تقريباً. والديانة الشخصية تعني أن كل فرد في الشعب يشعر أنه مسئول أمام إلهه دون الشعب كله. وتختلف هذه العقيدة عما كانوا يؤمنون به قبل ذلك ، فقد كان الفرد يشعر أنه مرتبط بالأمة ارتباطا عضويا بحيث يصبح مذنبا عندما تقترف الأمة إثماً وانه بار عندما ترجع الأمة إلي الرب دون إلي حياته هو الشخصية . وكان أول من هاجم هذه الفكرة لا عن بحث نظري بل من واقع خبرته العملية الشخصية هو ارميا النبي ، ثم جاء السبي ، فعمق هذه العقيدة في ضمير الشعب ويؤكد حزفيال هذا التحول إلي الفردية في عبارات قوية ( حزقيال 18 ) .
وكان السبب الرئيسي الذي دفع إلي التحول من الجماعة إلي الفرد هو التحول من ديانة الذبيحة والهيكل إلي ديانة الناموس ، فديانة الهيكل هي ديانة امة مرتبطة معا كفرد واحد ، أما ديانة الناموس فهي ديانة أفراد ، لأن الناموس قادر علي خلق الضمير الفردي ( قصة دانيال وسوسنه ) .
ولقد ساعد هذا الكيان الديني للفرد علي حفظ هذه الجماعة حتى في وسط الظلام الحالك ظلام السبي، ولم تستطع قدرة الأصنام علي اجتذاب الناس في وسط السبي، في حين أنهم ينطلقون إليها قبل ذلك بكل قوة. ولأجل ذلك يستطع المرء أن يفهم لماذا بقيت الأمة، فقد ” أضحت” شركة دينية بين مجموعة أفراد يجمعهم طقس واحد هو الختان وعبادة واحدة وإيمان مشترك واحد.
4- الملائكة والشياطين:
وكان من نتيجة عقيدة السمو المطلق لله أن ظهرت عقيدة أخرى هي عقيدة الأرواح، وتقسيمها إلي صنفين: الأرواح الصالحة وسميت الملائكة والأرواح الشريرة وسميت الشياطين. نعم لقد كانت بذور هذه العقيدة موجودة في العهد القديم، فقد كان هناك ملاك العهد الذي كثيراً ما كان يمثل الله ( خروج 3:2 ) وكان هناك الشيطان أو إبليس ( أخبار الأيام الأول 21: 1، أيوب 1: 6 الخ )… ومع ذلك فقدا كانت هذه الشخصيات مبهمة لا يعرف عنها الشيء الكثير. أما في فترة ما بين العهدين اتسعت هذه العقيدة اتساعاً هائلا ، ويلوح إن مفكري اليهود تأثروا كثيراً بفترة السبي وبعقيدة الفرس في الأرواح . وانقسمت الرواح إلي قسمين : الملائكة وهي التي تخدم الله وتعمل إرادته ، حيث أنه لا يتصل اتصالا مباشرا بالناس كما كان يفعل في العهد القديم ، ثم هي التأثير الصالح في الناس ، والقسم الثاني هم الشياطين وهم الأقل في الرتبة وهم جماعة شريرة وتعمل رسلا لإبليس عدو الله لكي تؤثر التأثير الشرير في الناس . وقسمت هذه الأرواح بنوعيها إلي مراكز ورتب مختلفة وأعطيت أسماء عديدة .
وظهرت آثار هذه العقيدة في العهد الجديد ، ولكن الناس انقسموا تجاهها إلي فرق فبينما أنكرها الصدوقيون ، اعترف بها الفريسيون . أما المسيح فقد قبلها بتحفيظ شديد فبينما اعترف بوجود الملائكة والشياطين أنكر أن الملائكة هي التي تكشف إرادة الله مثلما ظن مفكرو اليهود ، فإن الذي يكشف إرادة الآب هو الابن الوحيد الذي في حضن الآب .
5- الرجاء في المسيا :
كانت للظروف التي أحاطت باليهود في كل عصورهم اكبر الثر في دفعهم لنظر إلى المستقبل، وقد بلغ بهم هذا الأمر مبلغا جعلهم في بعض الظروف يعيشون في ذلك المستقبل. وتبلورت انتظار اتهم هذه إلي عقائد واسعة أطلق عليها اسم ” علم الأخرويات ” ” Eschatology ” . وكانت أهم عقيدة في هذا العلم هي عقيدتهم في مجيء المسيا المسيح ، وهو المخلص الذي بواسطته سيخلصهم الله من هذا العالم الشرير ويرفعهم إلي مرتبة المجد . ولم يكن انتظار المسيا أو المسيح شيئا جديدا علي عقلية اليهودي في فترة ما بين العهدين ، بل كانت له جذوره في العهد القديم نفسه ، لكم تنبأ الأنبياء عن مجيئه وعن الخلاص الذي يقوم به . ثم أعطوا أوصافا كثيرة عنه . فهو نبي مقتدر مثل موسي ( أعمال 7: 22 و 33 ). وهو ملك يأتي من نسل داود ( لوقا 1 : 32 ) وهو متواضع ( زكريا 9 : 9 ) ولكن من ذلك مخارجه منذ الأزل . ومن يقرأ أصحاحي 6 و 9 من سفر إشعياء بجد أوصافا كثيرة لهذا المخلص . ولكن الأنبياء مع كل هذا المجد الذي اسبقوه علي هذا المسيح لم ينسبوا إليه البدور الأول بل رأوا إن العامل الأول في هذا الخلاص المنتظر هو الله ، أما المسيح فهو الرجل الذي يقيمه لتنفيذ ذلك الخلاص .
ولكن السبي غير كثيرا من هذه الفكرة ، فقد بدأت الديانة الشخصية تحل محل الطقوس الجماعية ، وأخذ دور الكتبة يزداد بعد أن خفتت صوت النبوة ، واتسعت فكرة اليهود عن العالم ، فلم يعد الجنس البشري مقتصراً عليهم وعلى من يحيط بهم من شعوب صغيرة، ومعاملة الله لناس لم تعد وقفا عليهم هم، بل رواه في كل الحركات التي كانت تظهر في الممالك والإمبراطوريات العالمية المتسعة. فكان هذا التغيير الضخم مع روح الانتظار الذي تملك عليهم – عقولهم وحياتهم – عاملا علي تعميق فكرة المسيا وتفسير المواعيد والنبوات الخاصة به تفسيرا متسعا متباينا . وكان أهم ما ظهر في عقيدة المسيا هو انه لقب بلقب ” ابن الإنسان ” _ دانيال 7 : 4 ) وأن نسبه ومجيئه من نسل داود قد اختفي وصار شخصا عالميا ، نعم إنه يقف مع شعب قديسي العلي الذين هم اليهود المخلصون ولكن ذلك لا يعني أن يكون له نسب ارضي .
ولكن هذه العقيدة ونمسك الناس بها كانت تأرجح بين الظهور والاختفاء ، فبينما اشتد ظهورها واشتد انتظار الناس لمجيء المسيا في عهد أنطيوخوس أبيفانس بدأت تخفف وتخفض في عهد المكابيين ، لآن اليهود أحسوا بأنهم نالوا الاستقلال والسيادة ، ولكن ما أن فقدوا ما نالوه في عهد هيرودس حتى تفجر انتظار الناس لمجيء المسيا عارمة ، فاتسعت التفسيرات وكثرت ، ووصف عصر المسيا وعمله في صفحات كثيرة ، وبدأت أفكار العامة تضيف الكثير إلي هذه العقيدة . ويشهد العهد الجديد علي هذا الرجاء الملتهب، فكان الناس يظنون في كل يوم أن ملكوت الله سوف يظهر في الحال ( لوفا 19: 11 ). الخلود سبب التفوا حول يوحنا المعمدان ، ولما رأوا معجزات يسوع وسمعوا تعليمه ذات السلطان البالغ بدءوا يتبعونه منتظرين ، لعله المسيا ، ولكنهم أخيرا رفضوه لأنهم لم يحقق لهم حلمهم القديم فيكون المسيا السياسي الذي يوجه الضربة القاضية لأعدائهم .
6-الخلود
لكن العقيدة التي ظهرت في الوجود في هذه الفترة كأنها لم تكن من قبل هي عقيدة الخلود. وكانت حالة اليهودية المرة هي كالعادة العامل الأعظم في ظهور هذه العقيدة وانتشارها.فعندما وبدأت آمالهم في النصرة الأرضية تتحطم وعندما ابتعدت عن عيونهم مراكز الرجاء والراحة ، لم يمت إيمانهم نتيجة لذلك ولم يتلاشي لكنه كافح وانتصر في هذه العقيدة – عقيدة الحياة المقبلة .
لم تكن هذه العقيدة واضحة في العهد القديم ، ولم يذكر عنها إلا بعض التلميحات في بعض الكتب مزامير ” 16 و 17 و 49 و 73 ، أيوب 1 : 13 و 15 و 19 -229 وكان السبب الأول في عدم ظهورها في العهد القديم هو أن رجاء إسرائيل تركز أولا وأخيرا في المواعيد الزمنية وميراث ارض كنعان والخلاص والمجد الزمنيين ، وعندما كانوا يفكرون فيما بعد الموت لم ترتفع أفكارهم عن كونها ” هاوية لا يحمد فيها الناس الله ” .
ولكن الجو يتغير إذا انتقلنا إلي كتب التلمود والابوكريفا ، ففيها ظهرت عقيدة الحياة المقبلة واستخدم الكتاب ألفاظا فنية مخصصة لتعبير عنها ، حتى نفس كلمة ” خلود ” استخدموها وارتبطت بهذه العقيدة صورتان متلازمتان ” قيامة الأجساد ، ” العقاب والثواب ” .
أما عن الصورة الأولي: قيامة الأجساد. فقد بدأت تظهر في عصر المكابيين كأحدي عمد الحياة المقبلة . نعم لا ينكر المرء إنها لم تظهر في سفر يشوع بن سيراخ ولمنها جاءت في مزامير سليمان وفي سفر دانيال ( مزامير سليمان 17 : 16 ، دانيال 12 : 2 ) , استمرت تنتشر وتمسك بها الشعب حتى وصلت إلي ما وصلت عليه أيام المسبح ، إذ أضحت عقيدة ثابتة عند الفريسيين ، بينما كان الصدقيون ينكروها . ولكنها لم تظهر كاملة وكما كانت في عهد المسيح ، ولكنها تطورت ، فلم تنسب أولا إلا للأبرار فقط حينما اعتقد مفكرو اليهود إنهم يقومون ويملكون مع المسيا ، ولكن العقيدة اتسعت فشملت الأشرار – ثم ارتبطت الفكرتان معا فقيل إن الأبرار يقومون عند مجيء المسيا أما الأشرار فيقومون في القيامة العامة .
أما الصورة الثانية فهي صورة العقاب والثواب ، ولم تظهر هذه الصورة أيضا كاملة ولكنها تطورت فبدأت وبفكرة الأبرار الذين تعذبوا في هذه الحياة الحاضرة ( الحكمة 3 : 1 و 5 و 10 : 5 : 14 ) ثم اتسعت فشملت عقاب الأشرار / فقد أطلق علي المكان الذي يوجد فيه الأبرار اسم ” حضن ابره يم ” أما مكان عذاب الأشرار فقد أطلقوا عليه اسم ” جهنم ” ولم تكن جهنم هذه أبدية مطلقة وكنها كانت مدة محدودة يتعذب فيها الأشرار حتى يوفوا عقاب خطاياهم وبعد ذلك يسيرون في المعبد ليدخلوا إلي الفردوس . وقال كثير إن الفردوس وجهنم هما حالتان وسيطتان تعقبهما حالة البركة الأبدية. أما الذين لا يتوبون فلم توضح كتابات اليهود عنهم شيئا أيتعذبون إلى الأبد أم يبيدون نهائيا .
أما يسوع فقد تمسك بهذه العقيدة واستخدمها في تعاليمه، ( متى 5: 26، 11: 22، لو 16: 19 – 31، 23: 43، 12: 47 و 48 ).
الخلفية الهلينية
1- الثقافة الهلينية وعناصرها
سبق وعرفنا أن اليهود حاولوا كل جهدهم أن يبعدوا الثقافة الهلينية عنهم ولكنهم لم يستطيعوا ، ومع أن الصراع كان عنيفاً قاسياً إلا أن عناصر غريبة من الخارج دخلت إلي أعماق التفكير اليهودي .
وهنا يتساءل الشخص : هل كان لهذه الثقافة الهلينية بمعناها الأوسع أثر في التفكير المسيحي – أي في العهد الجديد . وينقسم العلماء إلى ثلاث مدارس :
1- المدرسة الأول تنكر ذلك إنكاراً باتاً ، ويقول أصحابها إن المسيحية والتفكير المسيحي هو الابن الشرعي لعهد القديم واليهودية ، ولا يمكن أن نجد في العهد الجديد شيئاً لا نجد بذوره في العهد القديم واليهودية ، أما الثقافة الهلينية فلم يكن لها أثراً علي العهد الجديد لا من بعيد ولا من قريب .
2- أما المدرسة الثانية فهي المدرسة التي لا ترى في المسيحية شيئا سوى التفكير الهليني ولكنه مسح بالمسحة المسيحية ، وتذكر هذه المدرسة أن المسيح كان ، يهودياً يفكر ويعمل في الجو اليهودي ، ولا يستطع أحد أن ينكر ذلك . أما المسيحية وهي من تفكير بولس الرسول فقد كانت شيئاً آخر ، فهي ديانة أممية ربطت بالمسيح الذي وضع مركزاً لكثير من العقائد الهلينية ، وانتقلت هذه العقائد من المعبد الوثني إلى الكنيسة المسيحية ، وعلى ذلك فقد كان الفكر الهليني هو الأساس الذي بنيت عليه المسيحية .
3- أما المدرسة الثالثة فتري في المدرستين السابقتين مبالغة شديدة فكلاهما ذهب إلى نهاية المطاف من ناحيته ونظر إلى المر نظرة لا متحيزة فقط. ولكنها متطرفة لا تعرف شيئاً آخر غير ما نقول ، ولكن الحقيقة هي أن المسيحية بنيت علي أساس غير هذه وتلك ويمكن تلخيص هذا البناء في جملة واحدة تقرب المهني وهو إنها اتخذت من العهد القديم واليهودية كثيراً من التفكير واتخذت من الهلينية المصطلحات التي تضع فيها هذا التفكير . فلا يمكن أن نفصل صلة المسيحية باليهودية ولا يمكن أن تتغاضي عن التيار الضخم العظيم الذي غطى العالم كله في تلك الفترة وهى الثقافة الهلينية . ومع ذلك فالمسيحية شيء جديد لم تعرفه اليهودية ولا الهلينية من قبل وما نجده فيها من عناصر يهودية أو هلينية فلا يدخل في جوهرها ولكنه يساعد علي إظهاره .
معني الهلينية:
إذا كان الأمر كذلك فما هو المعني للهلينية ؟ وماذا يقصد بها ؟ يفرق العلماء بين اصطلاحين : Hellenistic Hellenic ويقصدون بالاصطلاح الأول Hellenic الثقافة اليونانية الكلاسيكية من القرون التي سبقت مجيء لإسكندر الأكبر أي أنها الثقافة التي انتشرت في ” المدن الدول ” كمدينة أثينا وغيرها ، وتشمل هذه الثقافة التفكير اليوناني في كل أوجهه إلى جانب العوائد والتقاليد وطرق المعيشة والسياسة ، وبمعني أدق كل نشاط برز في الحياة اليونانية سواء أكان فكرياُ أم عمليا . ولقد امتازت هذه الثقافة بامتيازات سامية ، فقد بدأت ترفع قيمة الفرد وحولت نظره من السماء إلى نفسه كما ظهر ذلك في فلسفة سقراط بشعارها الخالد ” أعرف نفسك ” . وبهذا العمل حولت الفلسفة من فلسفة إلهية تدرس ما وراء الطبيعة على فلسفة إنسانية تبحث في مشاكل الإنسان والمدينة. ثم هذبت الديانة فتحول الآلهة من قوى عمياء متصارعة مخفية إلى كائنات أو آلهة أبطال يمثلون كثيراً من الصفات النبيلة بحسب التفكير اليوناني من أمثال زيوس وهرقل وغيرهما .
لكن الأمور تغيرت بمجيء فيليب المقدوني الذي يحطم الحواجز التي تفصل بين المدن ليكون من بلاد اليونان المتفرقة دولة واحدة . ثم تبعه ابنه لإسكندر فتخطى حدود اليونان وفتح رقعة واسعة من العالم ليحولها كلها إلى إمبراطورية واسعة ضخمة ، ولم يقتصر علي الفتح والتوسع السياسي ولكنه اهتم بالأكثر بنشر ثقافة قومه أي ثقافة Hellenic في كل البلاد التي افتتحها ، نشرها في هيئة لغة وتفكير وعوائد ، واختلطت هذه الثقافة بغيرها من الثقافات الأصلية في تلك المم فتكون منها ما يسمي بالثقافة Hellenistic أو Hellenism فالهلينية في الاصطلاح الثاني هي الحضارة التي انتشرت في حوض البحر الأبيض المتوسط وما يحيط به مدة قرون ثلاثة تبدأ من انقسام دولة لإسكندر الكبر بعد موته . ولم تكن هذه الحضارة أصيلة فيها قوة الخلق والابتكار كما كانت الحضارة اليونانية القديمة ، ولكنها تمت من هذه الحضارة العريقة وصارت حضارة عالمية شعبية ., وهذه الحضارة الأخيرة هي التي تهمنا الآن بما لها من صلة بالمسيحية والعهد الجديد . فمتى ذكرنا كلمة هلينية فإنما تقصد بها الحضارة الخيرة العالمية التي انتشرت خارجاً عن بلاد اليونان .
ملامح هذه الحضارة :
ولزيادة المعرفة بهذه الحضارة ينبغي أن نكشف عن بعض الملامح المتميزة الخاصة بها. وهناك امتيازات كثيرة أهمها ثلاثة :
1- المسكونية Internationalism :
ولا يقصد بالمسكونية هنا اتساع الحضارة عن حدود مدينة واحدة ولكن يقصد بها تلك الروح العامة التي ربطت هذه الرفعة الواسعة من العالم المختلفة الأجناس واللغات بعضها ببعضها . وكما رأينا كان لإسكندر الأكبر هو المؤسس الأول لهذه المسكونية . ولكن جاءت بعده إمبراطورية ضخمة كان لها النصيب الأوفر في تعميق هذه الروح. هي الإمبراطورية الرومانية .
وكان أول ما علمته الدولة الرومانية لتوسيع نطاق هذه المسكونية هو أنها حاولت بث السلام في ربوع الإمبراطورية العظيمة المتباينة الجناس ، ويكن هذا السلام مبينا علي الإخضاع بالسيف وكسر شوكة الشعوب ، ولكنه بني علي سيادة القانون الذي كان من أهم ما ميز حكم الرومان ، فتوسعوا في الجنسية الرومانية ، فلم تقتصر علي سكان روما وحدها ولكنها وهبت لبلاد كثيرة . وكان لها مالها من امتيازات كثيرة وضخمة . وبهذه الكيفية بدأت الكراهية تخفف والغارات البربرية والهجرات الوحشية والغزوات القاسية تزول إلي فترة طويلة من الزمن مما ساعد علي الاستقرار.
ثم بدأت الآلهة تتوحد فلم تعد آلهة مدينة أثنيا أو حتى بلاد اليونان كلها تقتصر عليها. بل اندمجت الآلهة بعضها في بعض، واخذ الأقوام يوفقون به هذا الإله وذاك حتى أضحت مجموعة من الآلهة تسيطر علي تلك الرقعة الواسعة تحت أسماء مختلفة ولكنها متفقة في الصفات والقوة والاتجاه.
ولقد ساعد علي بث هذه الروح المسكونية أيضاً انتشار الطرق المريحة فقد اهتمت روما كثيراً ببناء وتعبيد الطرق الواسعة لجيوشها التي سارت كل مكان في الأرض ، ولكنها لم تقتصر علي الأغراض العسكرية واستخدمت في التجارة والأسفار المتعددة للأفراد والقوافل ، ولم يكن المهم هو تعبيد الطرق فقط بل كان أهم منه تأمينها من قطاع الطرق واللصوص. فشجع ذلك الناس علي السفر . وما عملته في البر عملته أيضا في البحر ، إذ قطعت دابر القراصنة الذين كانوا يسطون علي السفن التجارية ، وسفن الأسفار وينبئونها ، فخفت وطأتهم في البحر البيض بل كادت تزول . وأنشأت روما نظاما محكماً للبريد ساعد علي ربط المدن والأفراد . أما ما أعطته مكدونية لخلق هذه الروح المسكونية فلم يكن أقل مما عملته روما . فقد أعطت لغة ربطت كل أجزاء الإمبراطورية، وحضارة جعلت منها وحدة واحدة. وهذا كله ساعد المسيحية علي الانتشار والتغلغل إلي أعماق بلاد ودول ما كان يمكن لها أن تفعله بدون هذه المسكونية .
2-عدم الاستقرار الاجتماعي :
امتاز هذا العصر بأنه عصر تغيير اجتماعي ضخم ، فعندما تتحطم حدود ” المدينة الدولة ” لتذوب في إمبراطورية كبيرة تختلط فيها بأجناس عديدة فلا بد أن قيماً اجتماعيا عديدة تتغير ، وتصبح المثل العليا لتلك المدينة في عداد المخلفات القديمة .
وكان من أهم مظاهر هذا التغيير الجديد إن القسم المجتمع إلى طبقتين منفصلين تمام الانفصال: طبقة السادة الأرستقراطيين الإقطاعيين، ثم طبقة العبيد والفقراء الذين يعيشون في غبن وظلم شديدين. وانعدمت الطبقة الوسطي التي تعتبر في كل عصر وموطن ميزان المجتمع الحقيقي ، ولهذا السبب انتشر الظلم الاجتماعي بكيفية أصبح فيها هو الشيء الطبيعي السائد الذي اعتاده الناس . فلم تعد هناك ثورة ولا مطالبة بحقوق مدينة ولا أية حقوق اجتماعية لعدل فلم تعد هناك ثورة ولا مطالبة بحقوق مدينة ولا أية حقوق اجتماعية للعدل الاجتماعي مما تعرفه عصور أخرى غير ذلك العصر . وكان من أثر ذلك أيضا انتشار الفساد الاجتماعي ، فبدأت الآسر تتفكك والروابط الطبيعية تنحل.
واضحي الانحلال الخلقي والجنسي طابعا مميزا لهم ، ومن يود أن يعرف لمحة بسيطة عنه فليقرأ ما كتبه الرسول بولس عندما لمس تلك الحالة لمساً خفيفاً في الصحاح الأول من رسالة رومية .
ومن أهم المظاهر التي طبعت ذلك العصر نظام الرقيق. وكان هذا النظام ضخماً ثابت الأركان لدرجة أن المسيحية لم تحاول اجتثاثه دفعة واحدة ، وإلا لما بقي المجتمع ثابتاً . فلو حدث أن قوة إعجازية أنهت الرقيق من الإمبراطورية لتفوض المجتمع في الحال . وكانوا يقولون إن نسبة الرقيق إلى المجتمع هي خمسون بالمائة ، أي أن نصف المجتمع كانوا من العبيد ، أما في إيطاليا عامة فقد كان المر اشد صعوبة ، فقد قبل إن نسبتهم إلي الناس الأحرار كنسبة 3 : 1 وكان ضرر هذا النظام جسيماً ، فقد أشاع أولا روح الكسل والخمول بين السادة ، فمن ذا الذي يعمل وهو يري بيته قد امتلأ بالعبيد الذين يفعلون كل شيء؟ وامتد هذا الأمر إلى احتقار العمل اليدوي، وظن الناس أنه من صميم عمل العبيد، أما السادة فلا يجوز لهم أن تمتد أيديهم إلي إي عمل مهما كان بسيطاً. وليس ذلك فقط بل لقد انتشر الفساد الخلقي، فقد كان السادة يحسون إن كل عبيدهم، رجالا ونساء، ملكاً لهم يستولون علي كل شيء عندهم، فحق لسيد أن يفعل ما يريد وما ينبغي بمن عنده من العبيد.
أما ما كان يرعب الضمير المسيحي فهو موقف الناس من الأطفال ، ولا أدل علي ذلك من الخطاب الذي وجد في مصر الذي أرسله رجل إلي زوجته بعد أن عرف إنها أنجبت طفلة ، إذ يقول لها فيه أن نتخلص من هذه الطفلة ونقتلها بأية كيفية . إنه موقف مجتمع لا يتمتع بشيء كثير من الاستقرار.
الفقر الروحي والتطلع إلي الخلاص:
كان ذلك المجتمع مستقرا مادياً مقلقاً اجتماعيا ولكنه كان مفلساً روحياً. كان الرجل اليوناني قديما لا يعرف معني الخطية ولا يهتم كثيراً بالفشل الروحي ، ولكن عندما انكسرت الحواجز واختلط بالعالم الخارجي وتدخلت إليه التيارات الشرقية من ديانات سرية وتصوف فغن الحال تغير وبدأ ذلك الاستقرار الروحي في التقلقل بدرجة مروعة يصفها جلبرت موري ” إنها فترة عصبية لا يمكن وصفها . أنها ظهور الصوفية والتشاؤم وفقدان الثقة بالنفس واليأس في هذه الحياة وعدم الإيمان بالمجهود البشري . انه تساؤلا بشريا يائي وصرخة من أجل إعلان سماوي معصوم. إنه محادثة للروح مع الله .. انه عصر أضحي فيه الإنسان الصالح ليس هو ذلك الذي يعيش بحسب البر والعدل بل هو الرجل الذي يحس يغفران خطاياه ” مقتبسة من كتاب Jews and Greeks Turtors unto Christ ص 223 ” والذي دفع الإنسان إلي الإحساس بالخطية وطلب الغفران من الله تلك الأحوال التي مرت بها النفس البشرية ، ففي فترة خضع الإنسان للصدفة العمياء وأحس إن الحظ وحده هو الذي يحكم المصير البشري ، فالصدفة هي الله ، والله هو الصدفة ، ثم ارتبطت العقيدة في الصدفة العمياء بالتنجيم والإيمان بالنجوم ، وأضحت الشمس والقمر والنجوم هي الآلهة التي ارتبط بها المصير الإنساني . ولكن الإنسان لم يكتف بذلك فعمل علي تاليه الإنسان، وبدلا من أن تؤنس الآلهة كما حدث في بلاد اليونان قديما أضحي العكس فأله الإنسان وعبد فظهرت عبادة الإمبراطور وغيره من الأبطال .
وهذه كلها تعطينا التفسير الحقيقي لذلك الاشتياق الحقيقي لخلاص . ولم يكن الخلاص كما نفهمه نحن، بل هو الخلاص من القوي الجبارة التي عبدها الإنسان فكم اشتاق الفرد أن يتخلص من القدر الأعمى والصدفة القاسية ثم تطلع إلي الخلاص من سلطة الكواكب والنجوم والقوي الجبارة القاسية التي تحكم الكون. وأضحي الشخص يحس أن خلاصه يأتي عن طريق المعرفة والتنوير الإلهي الذي يأتيه من الخارج.
ويمكن تلخيص لاهوت تلك الفترة في هذه الكلمات: الإيمان الكامل بأن هذا العالم المنظور شرير، وأنه في مرتبة أقل بكثير من العالم الروحي.. عالم النور . والأيمان بأن روح الإنسان هي عنصر إلهي من ذلك العالم الروحي، لكنه اختلط بهذا العالم المادي.. وأخيرا الإيمان بأن الإنسان بطريقة أو الأخرى يجب أن ينفذ ذلك العنصر الإلهي من سجنه ليرجع أصله الإلهي كما كان.
وكان هذا الاعتقاد هو الأساس الذي عليه بنيت الديانات السرية بما فيها من طقوس وعوائد كما سيجيء ذكره فيما بعد.
ومن هذا يتضح أن ذلك العنصر لم يكن عصراً ملحداً لا دينياً – كما يحلو للبعض أن يصفه ولكنه كان عنصراً شغلت فيه الأسئلة الدينية كل العقول والقلوب ، نعم لقد أفلست الديانات فلم يستطيع أن تروي الغليل ، ولكن هذا الأمر لم يكن نهاية المطاف بل كان التطلع المشتاق إلي الخلاص هو الحافز القوي والطابع الظاهر لذلك العصر . وانتشرت المسيحية لا أنها وجدت عقولا متفتحة تطلب كل جديد فقط، بل وجدت نفوسا مثقلة تطلب الخلاص ولذلك قبلوها لأنهم وجدوا فيها ما يرويهم من خلاص كامل. إن العصر الهليني أوضح بجلاء أن الحق هو الصديق الحقيقي للإنسان وأن معرفته ممكنة ومستطاعة .
2- العلاقة التي تربط العهد الجديد بالهلينية :
لا يستطع العصر،ارس أن ينكر أن هناك علاقة ما بين العهد الجديد وبين تيار الثقافة الهلينية الذي ساد ذلك العصر . ولا يعقل أن الكنيسة المسيحية التي تنبت في وسط ذلك التيار الجارف ظلت بمنأى غير متأثرة به. ومن يفتح العهد الجديد ويقرأه لأول مرة وهو يعرف بيئة ذلك العصر، لا يخفي عليه ذلك الأثر تركته تلك البيئة عليه. إن الخلاص الاختلاف بين دارسي الكتاب لا ينصب علي الارتباط بين العهد الجديد والمسيحية من جانب والهلينية من جانب آخر ، فغالبيتهم تقريبا متفق في ذلك ، ولكن الاختلاف يكن في تحديد نوع ذلك التأثير ومداه . ولا يسعنا هنا أن تضع تحديد لذلك قبل أن تورد بعض النقط التي عندها يتلاقي العهد الجديد بالهلينية ، لنرى مقدار تأثر أحدهم بالآخر. ويمكن القول بأن أشهر المراكز الهلينية التي ثمنها في هذا المضمار هي :
- الديانات السرية .
- الغنوسية .
1- الديانات السرية :
الديانات السرية هي أقوي محاولة قام بها الإنسان لكي يتخلص من سجن التعاسة ، والإحساس بالخطية ، والخوف من الموت ، ثم لضمان الخلود لنفسه . ولقد بدأت في بلاد اليونان قبل العصر الهليني في ديانتين سريتين : الأولي هي الديانة الأورفية Orphism نسبة لذلك المغني اليوناني الأسطوري أورفوس وقد انتشرت في القرن السادس قبل الميلاد في بلاد اليونان . ثم الديانة الأليوسينية ، وقد كانت الديانات السرية الرسمية ، وترتبط بالإله ديمثريوس Demeter الذي كان يمثل قيامة الحياة النباتية في الربيع بعد موتها في الشتاء .
ولكن بعد فتوحات لإسكندر بدأت الديانات اليونانية تختلط بما حولها ونظراً لما كان عليه الرومانيون من تساهل وتسامح بالنسبة للديانات الأخرى فقد بدأت عناصر جديدة غريبة تدخل إلى ثقافة الهلينية وخصوصا .. تلك الديانات والطقوس الكثيرة التي انتشرت في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط . فظهرت بذلك مجموعة كبيرة من الديانات السرية ذات الطقوس الغريبة التي كان يمارسها المتمسكون بها.
ولكن ما هي الديانة السرية ؟ رغم كل الاختلافات الكثيرة في التفاصيل ورغم السرية الكاملة التي كانت تفرض علي طقوس الديانة وعدم البوح بها لدى أي الإنسان خارجي ، رغم ذلك فالديانات السرية كلها تشترك في عناصر أساسية لا تختلف فيها ديانتان : هذه العناصر تتخلص في أي الإنسان عنصرا إلهيا جاء من الإله من السماء ، ولكن هذا العنصر السامي سجن المادة في جسد الإنسان ، سجن ليتعذب ويتألم ، ولا بد له من التحرر من هذا السجن ليصعد إلى مصدره الذي جاء منه ، ولا توجد طريقة لذلك سوي الاجتياز في اختيار الإله العميق ، ذلك الاختيار هو الموت والقيامة ، ولكن قبل ذلك الاختيار عليه أن يقوم ببعض الطقوس ، فهناك طقس لتطهير من الخطايا ، كالعمودية . ثم هناك فريضة أخرى هي الأكل مع الإله والاشتراك معه في مائدة مقدسة واحدة هي مائدة الإله . فآلهة الديانات السرية هي آلهة تشترك مع البشر في الألم. وهى تموت ثم يحيا من الموت مرة أخرى . ويجوز المؤمن بها ذلك الاختيار ” الموت والقيامة ” وبذلك يقال عته بأنه ولد من جديد، أو أنه جاز اختيار الولادة الجديدة. وهكذا يضمن لنفسه الحياة الخالدة . وبهذه الطقوس يحاول الإنسان أن يتخلص من الشعور بالخطية والتعاسة. ، ثم يضمن لنفسه الخلود والحياة اللانهائية .
ويقابل هذا كله ذلك المستقبل المظلم الصعب الذي يقابله الإنسان الخارجي الذي لا يقوم بهذه المراسم .
ومع ذلك فلم يحاول أي مؤمن بMithraism,الديانات أن يشجب الديانات الأخرى علي أنها لا تقع منها أو فيها ، ولكنه كان يعتقد أن كل الديانات السرية نافعة ، وكثيرا ما كان يشترك في ديانتين أو أكثر ضماناً منه للفائدة ولراحة النفس من العذاب .
وكان يمر في مراحل متعددة تبقي كلها سرية مطلقة لا يعرفها إنسان آخر ممن لم يدخلوا ضمن التباع.
هذه هي الخطوط العريضة للديانات السرية . ويستحسن هنا أن ندرس تفاصيل إحدى هذه الديانات كمثل من الأمثال المشهورة التي يقابلها من يدرس ذلك العصر. هذه الديانات اسمها المثري Mithraism,
كانت ديانة المثرية ديانة شعبية انتشرت بشكل خطير في الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني والثالث الميلاديين ؛ وكانت أكبر منافس للمسيحية ، حتى أن رينان الفيلسوف الفرنسي كان يتخيل أنه لو أصاب المسيحية عطب ما يمنعها منه الانتشار لصارت ديانة مثرا هي الديانة البديلة لها التي تستولي علي عقول الناس . ولكن هذه الديانة أوقفت بقوة القانون في أوائل القرن الرابع عندما أعلن قسطنطين إن الديانة المسيحية هي الديانة الدولة الرسمية ، ولما حاول يوليانس المرتد إرجاعها فشل رغم ما استخدمه من عنف وقسوة . وتنسب هذه الديانة إلى الإله مثرا وهو احد الآلهة الهندية وقد ظهرت اسمه في القرن السادس عشر قبل الميلاد كشاهد قوي علي معاهدة أبرمت بين ملكين . وقد كشفت النقوش القديمة علي أن آلهة تلك الشعوب كانت تنقسم إلى مجموعتين : مجموعة الأولى هي إلهه الطبيعة ، أما المجموعة الثانية هي آلهة المجتمع البشري ، وكان مثرا من آلهة المجموعة الثانية وكانت وظيفته هي مراقبة المعاهدات التي يعقدها الأفراد أو الدول بعضها مع بعض ، ومراقبة تنفيذ تلك المعاهدات .
ولما ظهرت الديانة الزرادشتية انتقل مثرا من غرب آسيا إلى البلاد فارس ، وارتفع في أعين الزرادشتين حتى صار الإله الثاني بعد أهوراما زادا إله الخير ، وكانوا يطلقون عليه لقب إله النور .. ثم ارتفع حتى صار حارس البشرية ، الموجود في كل مكان ، مراقب كل المعاهدات ، والمنتقم من كاسري العهود ، والمنتصر في كل الحروب . وأخيرا أضحي الوسيط بين الناس وبين أهورا ما زادا .
وأخيراً دخل مثرا إلى الإمبراطورية الرومانية وبدأت ديانته تنتشر بين شعوب الإمبراطورية من بدء حكم القيصر تراجان . واتسعت إلى أن فاقت كل الديانات، ويعزي انتشارها هكذا بهذه السرعة وهذا العمق إلى عساكر الجيوش الرومانية الذين اعتنقوه وحملوه إلى أي مكان ذهبوا إليه ثم إلى أسري الحروب، الذين حملوها معهم إلي روما قلب الدولة الرومانية.
هذا هو تاريخ مثرا كإله وديانة عندما انتشرت في الدولة الرومانية ، ولكن هناك أسطورة Myth تحكي قصة حياة مثرا نفسه ، تقول الأسطورة إن مثرا ولد من الصخرة العظمي . وعندما خلق أهورا ما زادا الثور العظيم هرب ، فما كان من مثرا إلا أن تعقبه ثم قدم ذلك الثور ذبيحة حتى يمكن للأرض أن تخصب من دمائه المنبثقة منه. ولكن أهورما إله الشر أراد أن يمنع تلك الدماء من أن تنسكب علي الأرض فتخصبها فأرسل العقارب حتى يمنع مثرا من ذبح الثور . ولكن مثرا انتصر علي العقارب وانسكبت الدماء . وكان مع مثرا كلبه الأمين وحية تمتص دماء الثور وهي تعبير عن الخصب والنماء .
هذه الأسطورة وهذا هو تاريخ الديانة . ولكن هناك ما هو أهم لنا من تاريخ الديانة وأسطورة الإله . أن المهم لدراستنا هو تلك الطقوس الدينية التي كانت يقوم بها معتنق هذه الديانة.
يؤخذ من دراسة كتابات الآباء ( جيروم رسالة 107 ) أن من كان ينضم إلي جماعة مثرا لا يستطيع أن يدخل دفعة واحدة ، بل عليه أن يمر في سبع درجات متتالية ، هي سبع أبراج الكواكب ، تمر فيها الروح حتى تصل إلي نهاية الرؤيا والمجد العظم . وهذه الدرجات حسب ترتيبها هي: الغراب – العريس – الجندي – السد – الفارس – مخدع الشمس – الأب. وعلي المؤمن ، عندما يصل إلى درجة معينة ، أن يلبس لباسا خاصا بها، فمثلا عندما يصل إلي برج الجندي فإنه يلبس لباس الجندية ثم يدخل إلي كهف عسكري ويمسك يضعه علي رأسه ، ثم يرفعه ويضعه علي كتفه ليظهر أن مثرا هو تاجه ومجده ، وانه هو جنديه وشهيدة إذا لزم المر ، ثم يسام علي جهته بعلامة بقضيب محمي بالنار ، وبعد ذلك يسمي بالخادم . وعندما يصل إلي برج الشمس فإنه يسمي شريكاً ، وعندما يصل إلى النهاية يدخل في عهد السرية التام .
وإلي جانب هذه الرحلة الدينية عليه أن يقوم بطقوس أخري . فهناك المعمودية بالتغطيس لإزالة ثقل الخطية والتطهير من الشر ، وبعد المعمودية يولد الإنسان ولادة ثانية .
وهناك مائدة مثرا وهي مائدة مقدسة يأكل منها مع الإله مثرا ليشترك في خبرة الإله …. موته وقيامته .
وعندما يصل إلي برج السد فإنه يتناول الخبز والخمر المقدس. وعيد مثرا هو يوم 25 ديسمبر وهو عيد قيامة الشمس ، فغنه الناس قديماً كانت تظن إن الشمس تسير في طريقها إلي الموت حتى تصل إلي أقصي الضعف يوم 21 ديسمبر ثم تبدأ بعد ذلك في الحياة .
هذه هي ديانة مثرا وفيها نجد التشابه الكبير بينها وبين المسيحية في الطقوس : المعمودية والولادة الثانية والأكل مع الإله واختبار الموت والقيامة مع الإله . ولكن ماذا يميز المسيحية عن المثرائية؟ إن الفرق العظيم الذي يكون فجوة لا تعبر بين الاثنين هي أن المسيحية ديانة بنيت علي حقيقة تاريخية ملموسة.. ومركزها هو شخص عاش في التاريخ مات وقام… عرفوه ورأوه ولمسوه وشهدوا له بحياتهم . أما ديانة مثرا وغيرها فهي ديانة طقسية بنيت علي أسطورة لا أساس تاريخي لها .. هي من خيال الإنسان الذي يريد الخلاص .
2- الغنوسية :
هي حركة دينية اختلطت فيها مجموعة من الظواهر والمعتقدات، ظهرت بوضوح في القرن الثاني الميلادي، واستمرت إلي القرن الرابع بل والخامس ولكن هذا لا يعني أنها ظهرت فجأة، بل كانت لها جذورها التي بدأت تنمو وتتكون قبل هذا الوقت بكثير.
والمصدر الأساسي الذي نعرف منه الغنوسية هي كتابات جماعات من الناس متفرقة وغير مترابطة ، حرمتها الكنيسة باعتبارها جماعات هرطوقية . وقد فقدت كتابات كثيرة منها شيئا سوي من كتابات الآباء الذين كانوا يردون عليهم ويفندون آراءهم. ولكن العصر الحديث كشف عن كنز ثمين من أوراق البردي في منطقة نجع حمادي هي عبارة عن كتابات كثيرة غنوسية ، ومنها مثلا ” إنجيل الحق ” وغيره فألق نوراً واضحا علي عقائدهم وآرائهم .
ونظراً للأفكار الكثيرة الغير مترابطة، والاختلافات المتعددة التي تصل إلي حد التناقض في كتاباتهم، فلا يمكننا أن نعمل دراسة منظمة عن أسلوب التفكير والحياة فيها، ولكننا سنمر مروراً عابراً علي بعض أوجهها المختلفة التي ظهرت. هناك مجموعة من النظم والمظاهر فيها منها :
1- الغنوسية السريانية :
وتنسب إلي سيمون ماجوس .السماء.تبر سيمون نفسه الثالوث الأقدس وانه هو الذي يخلص أتباعه بنعمته وليس بأعمال الناموس . واستشهد بما جاء في ( أفسس 2 : 8- 9) . ويظن أتباعه انه نزل من السماء . وقد تطرف تلاميذه فظهر واحد منهم اسمه ميناتدر Menandor قال وقد أيضا إنه نزل من السماء وأوجد نظام المعمودية السحرية التي توجد الشباب الدائم .
وقد ظهرت نسخة أخري من هذه العقيدة في أنطاكية صاحبها رجل اسمه ساتورنيس Saturenius الذي قال إن الإله الأعلى مجهول ، وقد خلق كائنات روحية التي خلقت العالم . وقد رأت هذه الكائنات صورة مضيئة آنية من السماء فأرادوا تقليدها ولكنهم لم ينجحوا في ذلك إلا بعد أن انطلقت شرارة سماوية فأعطت الحياة لما عملوه. هذه الشرارة هي العنصر السماوي الذي يجب أن يخلص من شر المادة. وقد جاء المسيح لكي يخلص هذا العنصر السماوي . ولم يكن هذا المسيح إلا حسداً ظاهراً فقط . وقال ميناندروا إن الناموس قد أعطي بواسطة الملائكة الذين ألهموا الأنبياء .
جمع الغنوسية السريانية كانت تحتوي علي عنصر أنثوي يسمي ” فكر الله ” وقد نبي الغنوسيون حياتهم علي هذا الأساس ، فكانت حياتهم إباحية وبلا ناموس فيما عدا اسناوروس الذي أنكر العنصر الأنثوي ونادي بالتعفف ، وادعي بان المسيح جاء لكي يبيد العنصر الأنثوي هذا.
2- مارسيون :
ويعتقد انه كان من الغنوسيين ، سوف ندرس عنه شيئا في الفصل الخاص بقانونية الكتاب المقدس .
3- فالينيتوس Valentinus :
هو الذي كتب إنجيلا الحق، الذي اكتشفت في نجع حمادي ( نشر في سنة 1956 ). هذا الكتاب أكثر بساطة وشاعرية وأميل على اليهودية من الكتابات الغنوسية الأخرى ، حتى قال عنه إيريناوس إنه يمثل دوراً مبكراً من تعاليم فالنينتوس .
ويظهر من كتابات إيزيناوس أن فالينتينوس نادي بانبثاق العناصر السماوية من أفله العظم . وأخر عنصر من هذه العناصر الإثنى عشر كان الأنثى ” صوفيا ” أو الحكمة . وكانت غير مستقرة ، ودفعها عدم استقرارها هذا إلى السقوط في الظلمة الخارجية ، وهناك حبلت تلقائيا وولدت أبنا غير ناضج هو الذي خلق الكون ، استخدم عواطف أمه المتجمدة في خلق العالم ، فمن دموعها عمل المياه ، هكذا ولكن أمه وضعت في المخلوقات الشرارة
المقدسة فتشاجر معها، لكن لكي تخلص نقسها والجنس البشري منه، أرسلت يسوع ليجمع العنصر المقدس. ويقول فالينتيوس إن الزواج في الجنس البشري هو تقليد رمزي للصلة الروحية في العالم الروحي حيث يتزوجون هناك زواجاً مقدساً .
4- باسيليدس Basilides :
هو معاصر عجوز لفالينتينوس ، علم باسليوس هذا أن في البدء لم يكن شيء ولكن إله موجود خلق بذرة من لا شأ ، ومنها اوجد أنواعاً مخلفة من الموجودات . وهذه الموجودة سترجع إلى الخالق غير الموجود. وهذا الرجوع هو هدف التاريخ . وعندما ينتهي هذا الرجوع يأتي النسيان علي الأرض ولا يوجد هناك خلاص. لكن باسيليدس لم يستطع أن يجتذب إلي تعاليمه أناسا كثيرين نسبة لما ينادي به من عقيدة > الفناء ” .
5-النظم اللاحقة:
في القرون التالية حاول الغنوسيون أن يربطوا تلك العناصر الموجودة في النظم المبكرة التي سبق ذكرها ، وحاولوا أن يجدوا لها أساسا في الفلسفة اليونانية والفلسفة الشرقية والتاريخ والأساطير ، ولكن أهم ما كان يضع الغنوسية في مكان الهرطقة في نظر المسيحيين هو الثنائية المطلقة ، وان المادة شريرة ولا خلاص لها ، وان العنصر السماوي في إنسان خير ويجب أن يخلص ، والخلاص يقوم عن طريق المعرفة وإذا كان يسوع هو المخلص فذلك لأنه جاء بالمعرفة .
وعلي أساس هاتين العقيدتين الغنوسيين بدأ العلماء يفسرون موقف إنجيل يوحنا وكتابات الرسول بولس مثلا : فالمعرفة تحتل مركزاً كبيراً في هذه الكتابات ( يوحنا 3 : 11 -13 ، 8 : 32 ، 17 : 3 ، 1 كورونثوس 2) وإلي جانب ذلك ظنوا أن التقابل بين الجسد والروح ، النور والظلمة ، الحق والكذب في كتابات الرسولين يوحنا وبولس هي عقائد غنوسية ثنائية .
هذا التفكير والرد عليه سيأتي في حينه ولكننا هنا أردنا أن نظهر شيئا من شبهة التشابه بين الغنوسية والعهد الجديد .