تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الأرشيف » مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته – عظة مكتوبة – الدكتور القس غبريال رزق الله

مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته – عظة مكتوبة – الدكتور القس غبريال رزق الله

منقول من موقع

ghobrialrizkallah.org

 

  مادام الملك في مجلسه

أفاح نارديني رائحته

(نش 1 : 1 – 12) ، (يو 12 : 3)

“مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته”، “أخذت مريم مناً من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحتهما بشعر رأسها فامتلأ البيت من رائحة الطيب”.

كانت نشائد سليمان ألفٌ وخمسة، لعل سفر النشيد هو تلك النشائد الخمس بعد الألف، ولعلها أفضل النشائد وأسماها، لذلك دُعيت نشيد الأنشاد أو نشيد الأناشيد على صيغة ملك الملوك، ورب الأرباب، وإله الآلهة، لوصف كونها أثمن النشائد ولا عجب أن يرى علماء اليهود ومفسروهم في هذه النشائد الخمس قدس أقداس الهيكل، لا يقترب إليه إلا رئيس الكهنة في ثياب المجد الكهنوتية، ثياب البهاء والمجد، وهو سفرٌ وهي أناشيدٌ تدخل بنا إلى أقداس السماء لكهنة الله العلي في ثياب الطُهر والبر وفي نقاوة القلب والفكر، ونرى الملك في مجلسه وهو العريس ابن الملك ونسمع صوت العروس تقول: “مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته”.

وفي صوت العروس نميز أصوات العذارى التي أحبت العريس لرائحة أدهانه: “اسمك دهنٌ مهراق لذلك أحبتك العذارى”، ونستطيع أن نتمثل صورة العذارى في إحداهن، مريم أخت لعازر وقد أخذت مناً كما لو أنها بوحيٍّ إلهيٍّ رأت “الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته”، فأخذت منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن وسكبته كما يقول البشير متى والبشير مرقس على رأسه، رأس الملك، ودهنت رجليه به ومسحت قدميه بشعر رأسها فامتلأ البيت من رائحة الطيب، وهل نستطيع نحن الآن أن نرى ونشتم أن الملك في مجلسه متكئاً على مائدته، هي المائدة التي أعدها بنفسه، ومن يستطيع أن يُعد تلك المائدة؟ هل نراه في مجلسه متكاً بين أحبائه، هل نراه في مجلسه ونشتم رائحةً طيبه، الملك في مجلسه متكئاً على مائدته، هي المائدة التي أعدها بنفسه.

تلك المائدة من يستطيع أن يعدها، التي يجلس عليها ذلك الملك العظيم، ثيرانٌ ومسمناتٌ قد ذُبحت، تعالوا إلى العرس غدائي قد أعددته، تعالوا إلى العرس، في تلك العلية، أعدوا هنالك لنأكل الفصح، فجلس الملك متكئاً على العشاء وأخذ يوزع بيده كرب المائدة، خذوا كلوا، اشربوا، مقدماً بيده لجماعة المتكئين، كما وعد أعطيكم ملكوتاً كما أعطاني أبي ملكوتاً، فتجلسون على مائدتي وتأكلون من مائدتي وتشربون، ولو دعته العروس وهي تنادي الروح القدس بلغة النشيد: “استيقظي يا ريح الشمال وتعالي يا ريح الجنوب هبي على جنتي”، وإذ ترى الجنة وقد قطرت أطيابها تدعو العريس قائلةً: ليأت حبيبي إلى جنتي ويأكل ثمره النفيس، فيتجاوب الملك معها: “دخلت جنتي يا أختي العروس، قطفت مرِّي مع طيبي، أكلت شهدي مع عسلي، شربت خمري مع لبني”، كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباب، رب المائدة في مجلسه متكيءً على مائدته.

وهنا نراه في بيوت الأعداء مدعواً للغداء أو للعشاء فيجلس على المائدة لا ضيفاً ولا غريباً بل رب البيت.

يجلس رب المائدة فتاتي المرأة الخاطئة عند رجليه بالدموع في بيت الفريسيّ عدو الخطاة، وتخرج المرأة من البيت بسلطان رب المائدة متكئاً على مائدته، بالرغم من تبرم صاحب البيت، تخرج مملوءة بالسلام والرجاء والفرح، وفي مناسبةٍ أخرى وقد دُعيَ إلى بيت فريسيّ وهناك شفى ذلك المريض بالاستسقاء، والذين رأوا ذلك أطلق المسيح لسانه ناصحاً أن يجلسوا في المتكأ الأخير حتى يُرفعوا إلى المتكأ الأول، آداب المائدة، ثم ينطق بمثله عن الفداء الذي أُعد والثيران التي ذُبحت، وكل ذلك وهو على مائدة الفريسي، هو رب المائدة أينما حلّ وأينما وجِدَ يأخذ لنفسه المقام الأول، مقام رب المائدة، يعتبر نفسه في مجلسه في متكئه على مائدته.

وهل نسمعه يقول: “ها أنا واقفٌ على الباب أقرع (أهو ضيفٌ؟) إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب أدخل إليه (كضيفٍ) وأتعشى معه وهو معي” كرب المائدة الذي أعد كل ما يلزم لهذا العشاء، أهو هكذا في بيوتنا وعلى موائدنا؟ سيداً في مجلسه ملكاً فوق عرشه، بهذه الصورة جلس في بيت عنيا.

على مائدة العشاء في مجلسه في متكئه، فمن أعدَّ هذه المائدة؟ هذا العشاء العظيم، تلك الوليمة.. أهو لعازر؟ أهي مرثا؟ أهي مريم؟ ألم يُعد تلك المائدة صاحب الفضل العظيم، صاحب السلطان الأكبر الذي عن يمينه وفي متكئه يجلس لعازر الذي أقامه من الأموات وتعد مرثا نفسها للخدمة على تلك المائدة تكريماً لذلك الملك العظيم والسلطان الأعظم، وتأخذ مريم طيبها وبذات الشعور شكراً وتسبيحاً لهذا الذي أتى إلى بيت عنيا في تلك الليلة، أتى هو وأعد العشاء لأجل أصدقائه، وجلس هنالك الملك متكئاً في بيت أحبائه، وهذه هي الفرصة المباركة والأخيرة التي اتكأ فيها أيام تجسده في بيت عنيا.

في أول الأسبوع قبل الفصح بستة أيام ختمه المسيح بالجلوس مع تلاميذه على العشاء، عشاء الفصح مع أحبائه، فقد أحب السيد المسيح مريم ومرثا ولعازر، أحبهم حباً فائقاً، والآن يجلس على مائدته بين هؤلاء الأحباء وجمع أحبائهم المدعوين، كما جلس بين تلاميذه، خاصته، إذ أحبهم وأحبهم إلى المنتهى، وقيل في هذه المحبة: “شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم”، وفي تلك الليلة أعدَّ عشاء عهده الجديد لا فريضةً بل تذكاراً.

ومن هم أحبائه! “مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته”، ما أجمل هذا الاتكاء، كلوا واشربوا أيها الأحباء، أنتم أحبائي لأنكم فعلتم ما أوصيكم به وحفظتم وصيتي، أنتم أحبائي الذين أعطاني أبي الذي في السموات، أنتم أحبائي شهودي الأمناء، شهود الحق وشهداء الحق، هؤلاء هم المدعوُّن الدعوة المقدسة، شركاء الدعوة السماوية، “لأن الذين سبق الله فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوةٍ كثيرين”، هؤلاء هم الأبكار، كنيسة الأبكار الذين “ولدوا باكورةً من خلائقه” بالولادة من الله، مولودين من فوق، من السماء، “والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً” وألبسهم ثياب البر، ثياب العرس، ثياب الفرح والبهاء، “والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً” فلبسوا ثياب المجد والبهاء، وقد رآهم يوحنا جمعاً كثيراً، “لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة”، يعيدون عيد المظال في المظال الأبدية، والجالس على العرش يحل فوقهم مظللاً إياهم في مظاله، “لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس، (تحت المظال الأبدية) ولا شيء من الحر لأن (الملك) الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماءٍ حية” ويمسح الله كل دمعة من عيونهم.

مائدة ما أبهاها لا أكلاً ولا شرباً، “لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً، بل هو برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس”، لا أمور جسدية ولا شهوات جسدية، علاءٌ روحيّ، فرحٌ سماويّ، ملكوتٌ أبديّ.  

الملك في مجلسه متكئاً مع أحبائه يفرح قلبه بهم كفرح العريس بالعروس، وتسعد نفوسهم في حضرته في بهجة القلب، يفرحون كل حينٍ بالرب. سرورٌ دائم.

الملك في متكئه على مائدته، هل نشتم تلك الرائحة، الناردين الخالص الكثير الثمن، وهل نرى الناردين في قارورة الطيب المرمرية الجميلة، هل يجلس الملك في مجلسه، في متكئه على مائدته بين أحبائه وقارورة الطيب في مخبئها؟ ألا تتحرك! ألا تنتظر يداً تأخذها، والتعبير أفاحت نارديني رائحته تبين أن الناردين نفسه هو الذي أفاح رائحته، هي عملية ذات الناردين، كما لو أنه انفجر إذ شعر بالملك جالساً في مجلسه فانكسرت القارورة فانصب على رأس الملك وانسكب عليها ودهن القدمين.

هل يحتاج الملك إلى الناردين؟ أليس هو ذاته له رائحة أدهان عطرية؟ ألم تشتم العروس رائحته فقالت له: “لرائحة أدهانك الطيبة (العطرية) اسمك دهنٌ مهراق”، أليس اسم المسيح الذي انسكبت مسحة القدوس العليّ عليه فمُسح بالدهن النقيّ، بدهن الابتهاج أكثر من شركائه، أليست مسحته دهنٌ مهراق، الكاهن العظيم. وصب على رأسه ذلك الدهن الطيب نازلاً على لحية هارون إلى طرف أثوابه وكله عطرٌ ودهنٌ طيب، إلا أن هذه الرائحة لها تجاوبها فإذ يفتح تلك الرائحة، هي رائحة المحبة العطرية، محبة القلب المنكسر تنسكب تلك الرائحة، رائحة المحبة، في قلب الذين يؤمنون به ويحبونه بالحق فتعود تلك الرائحة، رائحة المحبة العطرية، الناردين الخالص إلى ذلك الملك، منه وإليه “نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً”، وهل نرى في هذه الرائحة محبة فائقة خاصة، اعترض الناس على مريم فقال المسيح أتركوها إنها ليوم تكفيني، إنها دهنت جسدي للتكفين، إنها المحبة “ليس لأحدٍ حبٌ أعظم من هذا أن يضع أحدٌ نفسه لأجل أحبائه”. إنه قد جاء ذلك اليوم في تلك الساعة، واليوم قريبٌ جداً لإعداد خروف الفصح الذي كان للعيد، يُعد في اليوم العاشر ويبقى تحت الحفظ، إلى اليوم الرابع عشر مُعداً للذبح.

هذا هو الوقت الذي أُعد فيه خروف الفصح، فصحنا العظيم الرب يسوع المسيح ليبقى تحت الحفظ، وهل أُوحيَ إلى مريم فتشير إلى هذا الأمر الجلل بهذا الدهن للتكفين، وأنت ألم تعلم ذلك.

هكذا علمت السماء ولذلك حيث يكرز بهذا الإنجيل يُخبر بما فعلت هذه تذكاراً لها لهذا الطيب للتكفين، فسبقت فدهنت للتكفين، سبقت يوسف الرامي الذي أتى بالمر والعود وبأكفان الكتان وطيَّب الجسد ولفوه بالأكتان المُطيَّبة للدفن كما سبقت نيقوديموس، فقد سبقت مريم أخت لعازر هذين المُعلمَين الكبيرَين، والرئيسين الكبيرين بين اليهود للتكفين، بل سبقت مريم المجدلية وسالوما وفيضاً من النساء، سبقتهن إذ أخذن حنوطاً وذهبن إلى القبر باكراً عند الفجر ليدهن جسد المسيح فلم يجدنه، قد قام، ياللفرح لمريم التي دهنت الرب وفاضت محبة قلبها فملأت البيت لا رائحة الطيب الناردين بل رائحة طيب المحبة الصادقة “فذكر حبك أكثر من الخمر”.

هل نحبه، وهل نحن مستعدون لأن نكون شهداء الحق لأجل اسمه؟ آمين.

  19 / 4 / 1970

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *