فهرس الموضوع

الكاتب
القس هانى كرم
راعى الكنيسة الإنجيلية بتناغة
سنودس النيل الإنجيلي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
معصرة الألم
الألم: عّرفه البعض ” هو كل وجع، أنين، خسارة، عقاب نختبره بإستحاق أو غير إستحقاق، قد يؤثر هذا الألم على الجسد، العقل، الروح. وبعض الآلآم قد تكون نتيجة وراثية، أو نتيجة الخطية ، الحقيقة هى إننا نحيا فى عالم فاسد وبه الكثير من الآلآمات”.
الحياة مليئة بالمواقف الصعبة والظروف المؤلمة، وهناك شخصيات كثيرة عانت من الألم بمختلف أنواعه، ولا يوجد شخص يُمكنه القول بأنه لم يتجرع من هذه الكأس.
سأعرض بإيجاز بعض أنواع الألم التى قد يمر بها الإنسان فى حياته وكيفية المواجهة أيضا .
1- ألم الفقد:
عندما يتعرض الإنسان لخبرة الفقد بشكل عام يتألم جدًاً، لأن هذا عكس طبيعته التى تميل إلى الإحتفاظ بما لدية. ولكن عندما يمر بخبرة فقد الأشخاص يعانى من قسوة شديدة لأنه فقد جزء منه ، لا حول له ولا قوة يستيقظ أو يتفاجأ بفاجعة الفقد !! .
تُرى كيف يمر الوقت على من فقد أحبائه ؟
تُرى كيف يتخيل ويتصور ويتعامل مع ذكريات لأشخاص كانوا جزءًا أصيلًا من يومه ومن أحلامه ومن مستقبله !
إنها حقا معاناة .. فيها يجتر الشخص معاناة تقصيره أو عدم وعيه أو عدم إهتمامه بمن فقده، أو يُقتل من لوعة الإشتياق إليه وقد يقتله الندم !!
فيمر الوقت بمرارة، والذكريات بأثقال نفسية تُرهق صاحبها.
خبرة الفقد تُغير وتُشكل فى شخصياتنا كثيرًا، تجعلنا نرى الأمور والأشخاص و الحياة بشكل مختلف.. وقد تتوقف الحياة بأكملها، ونميل الى الإنكار والعزلة.
ويمر الشخص بمراحل فيها قد يكون غير مفهوم، غير واضح… لأنه يحيا ويعيش فى ماضى الأشخاص الذي فقدهم .. سواء كان أبا او أما او أخ أو أخت أو حبيبا…..إلخ.!
ولمواجهة ألم الفقد، على الشخص الذى فقد أشياء أن يتقبل الواقع ويحاول أن يبدأ من جديد، باحثا عن الهدف والطموح، ويخلق واقعا جديدًا فيه يتحدى نفسه ويتفوق عليها أيضًأ. أما مَن فقد الأشخاص فأصعب أوقات الفقد هى أولها، ويميل الشخص الى العُزلة فيجب أن يكون حريصا على البقاء وسط من يُحب، ولا يخاف أن يراه العالم حزينا أو مكتئبا فقد يكون هذا مفيدًا لمواجهة ألم الفقد، مما يجعل البعض يميل الى المساندة والتعضيد والتشجيع.
من الأمور المساعدة أيضا هى التواصل مع أشخاص مرت بنفس الخبرة والألم. وعدم القسوة على النفس وإتاحة الفرصة للشفاء من خلال الإقتراب إلى الله حيث الهدوء والطمأنينة والتسليم بحدوث هذه الخبرة المؤلمة فى حياة البشر جميعا. ثم الحفاظ على التواصل مع الأحباء والتعبير لهم عن الحب وتعزيز العلاقات الإيجابية.
2- ألم فقدان الثقة:
الإنسان خُلق علاقتيا، يميل لتكوين علاقات من خلالها يرى جمال خليقة الله، يتفاعل, ينمو، ينضج، يتغير.. لكنه يتألم! .
من خلال هذه الدائرة العلاقتية نختبر تباين رهيب بين الأشخاص بناءًا على معتقداتهم، خبراتهم، ثقافتهم؛ عوامل التأثير في شخصياتهم. وتتدرج العلاقة فى عمقها، وفى هذا التعمق يتخلى الإنسان عن الحيطة والحذر، دائمآ يختبر الشفافية والراحة فى محاكاة ما بداخله مع الأخر إلى أن تأتى لحظة غير متوقعة من الخذلان والخيبة التى تكسر هذا التعمق من أشخاص غير متوقعين.
وهنا..
لا مثيل للألم الناتج عن مردود سلبى لثقة أعطيناها لأشخاص وتوقع الغدر مرة أخرى !!
لا مثيل لندم رهيب يجول بخاطر الشخص عندما يُخان ويُترك من الأقرب إلى القلب!
لا مثيل لهبوط العزيمة وهدم كل جسور بين مَن كان يومًا الصديق، الحبيب، القريب، والآن أصبح مصدر للألم.
ولكى نواجه هذا النوع من الألم على الشخص أن يجدد ثقته بنفسه مرة أخرى وأن يدرك طبيعة العلاقات وإننا لسنا فى عالم مثالى. ويحتاج الشخص أن يتدرب على كيفية الغفران لمن أساء إليه حتى يتحرر من قيود المرارة.، وقتها يمكنه أن يبدأ علاقات صحية جديدة نتيجة لما اكتسبه من خبرات تؤهله للتعامل مستقبليا مع هذا الألم وارد الحدوث. أن يكون الشخص نموذج فى الصدق والأمانة فى علاقاته مع الأخرين، والحفاظ على الشخصيات مصدر الثقة نادرة الوجود.
3- ألم الإستغلال:
لكل شخص هدف فى العلاقات، نرى البعض يأخذ، والأخر يُعطى، والأخير يستغل!!
والشخص المُستغل يتسبب فى ألم مبرح جدًا وخصوصا لشخص باحث عن التقدير والإحترام فى العلاقة، وتبادل التعامل أيضا كندٍ فى التواصل. الإستغلال قد يأتى من أقرب الناس إلينا ومن أبعدهم لأن هذا الأمر يتوقف على طبيعة الشخص وما يحتاجه من العلاقة.
والإستغلال قد يترُجم ببساطة فى عدم الإهتمام بما يوذيك كشخص ولكن فيما يتحقق من منفعه للمُستغل..!!
من منا لا يٌجرح عندما يشعر بأنه مجرد شىء أو شخص من مستهلاكات الأشخاص!!!؟
من منا يشعر بأمان فى علاقة يُستغل فيها على كافة المستويات، الإجتماعية، النفسية، الروحية .. الخ .
هذا النوع من الألم يجعل صاحبه ملىء بمرارة فى داخله، ليس لأنه يريد عدم العطاء، لكن لإستغلاله وإنتهاك خصوصياته. ومن المهم أن يدرك الشخص أن المُستغل لا يمكن أن تتغير طبيعته. لكى نواجه هذا الألم نوضح بعض الحقائق منها، التلسيم بأن هذه الشخصيات موجودة ومتاحة فى الحياة، ولكن الدور الأكبر هو كيفية وضع الحدود التى تقوم عليها العلاقة، قد لا يروق للشخص المُستغل هذه الأمور، ولكن من الهام التعبير عنها بوضوح وقوة، ثم إمكانية إعادة العلاقة لمسارها الطبيعى وهى أن تكون متزنة ومُتبادلة ومثمرة . عدم الإستسلام للتنازل عن الحقوق فى العلاقات والتراجع أمام ضغوظ الشخص المستغل. التدريب على حماية نقاط الضعف لمنع إستغلالها. التخلى عن العيش فى دور الضحية فهذه النقطة تجعل الشخص فريسة لمن يستغله. التدريب على أن يقول الشخص لا لمن يكسر حدوده.
يميل البعض للإنسحاب من هذه العلاقة، ولكن هناك علاقات لا يمكن أن ننسحب منها مثل الأسرية، فيكون علينا المواجهة والبقاء وإمكانية الإصلاح.
4- ألم الظُلم:
هناك فرق كبير بين من يتحدث عن الظلم، ومن اختبره.
هل اختبرت أن تدفع فاتورة لشىء أنت لم تشتره!
هل اختبرت الظلم نتيجة التمييز والإساءة والمحسوبية !!
هل اختبرت أن تُشوه لمجرد أن الأخر لا يُحبك ويحمل لك كراهية وضغينة بدون سبب..!!
هل اختبرت أن تُظلم لأجل أمانتك وصدقك ومقاومتك للشر !!
هل اختبرت أن البعض يتعاملون معك بناء على وجهة نظر البعض عنك بدون معرفتك!!
هل اختبرت أن سلامة وطمأنينة قلبك تفارقك من كثرة التفكير لماذا كل هذا !!!
هل تألمت من انتظار تدخلات الله العادلة البطيئة لإنصافك !!
إنه ألم صعب يا صديقى ، والعبور من هذا النفق يحتاج إلى نعمة وقدرة فائقة .
وللتعامل مع هذا النوع من الألم على الشخص أن يُفصح عن مشاعر الظُلم، حتى لا تمتلكه المرارة النفسية، ثم البُعد عن الغضب المستمر الذى يستنفز الطاقة. يتجنب إحساس الشفقة من الأخرين. المواجهة، وهى مشروعة فى الدفاع عن النفس، قد تكون صعبة أحيانا بإختلاف المواقف والظروف وفى هذه الحالة يمكن البحث عن مساعدة من أخرين قادرين على رد الظلم.
أيضا أهمية التخطيط والتركيز للرد على من ظَلم دون الإنجراف وراء المشاعر الغاضبة. أهمية الثبات على الحق واليقين أنه هناك إنصاف من الله العادل، حتى وإن كانت الأرض غير منصفة السَّحَابُ وَالضَّبَابُ حَوْلَهُ. الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّهِ.” مزمور( 2:97 ).
ختاما، تبقى عدالة الله ورحمتة هى الملاذ لكل إنسان مظلوم” إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِيًا يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا.” (جامعة 8:5).
5-ألم السخرية من الألم:
السخرية تعنى الإستهانة والتحقير سواء بالكلام أو بالإيماء والتنبيه على العيوب والنقائص.
هناك سخرية من الفقر، اللون، العرق، مستوى التعليم، أو من سلوكيات، … الخ. ولكن تبقى السخرية من الألم هى الأصعب، لأن الألم واقع على الشخص وقد يكون لا ذنب له فيه، وفى النهاية يُصاب الشخص بصدمة من ردود أفعال من حوله، أين الضمير، أين المشاركة، أين الإنسانية!
كم من مرة بحث المتألم عن المساندة والمواجدة ورجع بخُفّى حُنين !
كم من مرة صرخ وكانت كل غايتٌه أن يُترك لآلآمه بدون تعليقات أو سخافات!
كم من مرة عبّر عن أوجاعه ووجد إستهانة فجة !
كم من مرة تمت المٌتجارة بألآمه !!
كم من مرة أرجع البعض أن ألآمه ناتجة عن عقاب الله له نتيجة لشره !!
كم من مرة جٌرح نتيجة شماتة الأخرين فى الآمه !!
العبث بالمشاعر المجروحة وألم الألم يوجع أكثر… وكفى..!!
ولمواجهة هذا الألم على الشخص أن يكون هادئا، واثقًا من نفسه، ثم يواصل طريقه دون إهتمام بهذه السخرية. يتأكد أن للجميع عيوب، وضعفات، والآم أيضا، لا يوجد شخص كامل.
من الهام هو كيفية مواجهة الشخص الساخر والحديث معه، ولكن بطريقة شخصية وفردية وبأسلوب راقى حتى لا يثير الغضب. البحث عن لماذا يسخر هذا الشخص من الألم قد يكون لدية خبرات صعبة، أو جروح من الماضى ، قد يكون لدية ما يسقطة عليه كوسيلة دفاعية. التركيز فى التعاملات مع الآم الأخرين، والتدّرب على كيف يكون داعم ومشجع لمن يمر بألم مثله.
6- ألم عدم فهم الله:
عنوان يخض،يقلق، مش طبيعى، يَلقى صاحبُه نقدا كبيرًا، لكن حقيقى …!!
هناك معاناة رهيبة لعدم فهم وإدراك من هو الله وماهى تعاملاته! ومن هو أنا؟
ألم عندما أقف أمام أمور تبدو أقوى منى، أمور مبهمة تحتاج لتفسير ولا مُجيب.!!!
ألم عدم فهم قصد الله مِن مَا أمُر به !!!
هل يسمح الله بالشر؟، هل يسمح الله بموت من نُحب، هل يسمح الله بالإضطهاد؟
إنها الحيرة التى لا يعلمها أحد .. ولا نميُل للتعبير عنها، ونخاف أن نُصَرح بها، إننا لا نفهم الله.
هناك الكثير من البشر لديهم صراعات قاسية فى البحث عن فهم الله .
وللتعامل مع هذا النوع من الألم، لابد أن نفهم طبيعة الإنسان المحدودة، المشكلة الأكبر لدينا نريد تبرير من الله لكل ما يحدث معنا، ولكن هناك أمور غامضة مبهمة لا يستطيع العقل أن يقبلها. ولنا أيوب مثالا، حاول ان يفهم وتسأل كثيرا، ولم يجد إجابة واضحة على ما كان يمر به، لكن الإنسان فى حياتة فى رحلة بحث واختبارات حية تشهد عن أمانة لله .فهناك جوانب مضيئة وتعويضات فى حياتنا الشخصية، مصدرها الله يجب أن نقدم له الشكر عليها.
هناك حقيقة أن الألم والمعاناة هما جزء أساسى من الحياة على الأرض، ولا إستثناء للمؤمنين من هذا، وهناك مسئولية شخصية على الشخص تجاه حياته وسلوكياته. وحقية أخرى هى إن الإنسان منذ سقوطه فى جنة عدن يميل إلى الشر والنزاع والحروب والظلم .
” ثُمَّ رَجَعْتُ وَرَأَيْتُ كُلَّ الْمَظَالِمِ الَّتِي تُجْرَى تَحْتَ الشَّمْسِ: فَهُوَذَا دُمُوعُ الْمَظْلُومِينَ وَلاَ مُعَزّ لَهُمْ، وَمِنْ يَدِ ظَالِمِيهِمْ قَهْرٌ، أَمَّا هُمْ فَلاَ مُعَزّ لَهُمْ.” (جامعة 1:4). أيضا لم يكن الله مصدر للشر، ولكن الشيطان هو من يحرك العالم
“لأَجْلِ ذلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ. حَاشَا للهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ” (أيوب 10:34)
فى النهاية لا يمكننا أن نتحمل الآمنا بمفردنا، عندما ندقق نجد نعمة الله ورحمتة ومعيتة معنا لنعبر هذه الأزمات المختلفة.
“لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ.
فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ.” (عبرانين 15:4-16)
تتعدد الخبرات، وتختلف الأسباب، والنتيجة واحدة، إنها معصرة الألم التى نحيا فيها يوميا !!.
ختاما أقول
أن للألم جوانب إيجابية كثيرة، منها نُضج شخصياتنا، تطور أفكارنا، دافع ومحفز للتغيير، وقاية من ألم أعظم ، تصحيح مسار حياتنا، التدريب على الصبر والرجاء. هلّما ننهض من هذه المعصرة ونخرج إلى العالم بأكثر قوة ونكون حاملين الرجاء ونعمة التأثير بالرغم من المعاناة.