فهرس الموضوع

الكاتب
الدكتور القس جورج شاكر
راعى الكنيسة الإنجيلية بسيدى بشر بالإسكندرية
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
سنودس النيل الإنجيلي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
نواصل اليوم حديثنا عن الملك داود ولقد رأينا فى العدد الماضى كيف كان داود شخصية إستثنائية غير عادية، ثرية بالخبرات والمواهب والوزنات العديدة، واليوم نتأمل فى إعداد الله لدواد لهذا المنصب الرفيع… فلقد مسحه صموئيل ولكنه لم يجلس على العرش مباشرة… لقد انتظر حوالى عشرين سنة قبل أن يجلس على العرش، كان ملكًا من الناحية القانونية، ولكنه لم يكن ملكًا على أرض الواقع… لقد كانت المدة بين المسحة والجلوس بمثابة فترة تأهيل وإعداد للمُلك.
ولنا فى هذا الطرح الكتابى عدة أفكار أذكر منها الآتى:
أولاً: مدرسة الله تؤهلنا لقيادة شعب الله
لقد أدخل الله داود فى مدرسته ليؤهله لكى يصلح لهذا المركز الرفيع المستوى، فعندما مسح صموئيل داود ملكًا، حل عليه روح الرب سر القوة والقيادة والإرشاد، وهذا الحلول لم يكن بشكل مؤقت مثلما كان فى أيام شاول بل حل عليه بشكل فيه صفة الدوام والإستمرار، من ذلك اليوم فصاعدًا، وهذا يعنى أن قوة إلهية قد صاحبت هذا الإجراء جعلته يتأهل لدوره الكبير ومنصبه المرموق، فقد أحيا روح الله فيه القوة الجسدية والعقلية والروحية وجعلت له الأشواق المقدسة، والرغبة العارمة فى النمو فى معرفة الله والإقتراب منه والإلتصاق به، وامتلكته الرغبة الصادقة فى تحقيق إرادة الله، وأصحبت لديه الغيره المقدسة على خدمة الله، والاستعداد التام ليس لدعوة سياسية بأن يكون قائدًا سياسيًا للشعب بل دعوة إلهية عليا لقيادة الشعب فى كافة مناحى الحياة، ومع حلول روح الله على داود فارق روح الله شاول، ولم يعد يحل عليه لأنه رفض الخضوع والطاعة لصوت الرب ولذلك رفضه الله ولم يعد لروح الله علاقة به.
نعم! الحياة بعيدًا عن الرب وعدم حلول روحه فى هيكل حياتنا هى فرصة ذهبية لعدو الخير أن يسيطر علينا ويقود أفكارنا، ويتحكم فى توجيهنا لحياة لا تمجد الرب.
أما عندما يسكن ويملأ ويقود روح الله حياتنا، فلا يدع فرصة لقيادة أخرى أن تسلبنا وقتنا وقوتنا وإرادتنا وأفكارنا وقراراتنا، وإنما سكنى روحه فينا يعطينا مواهب ووزنات وإمكانات أكثر من رائعة… فوق حد التصور، نستخدمها لخير الكنيسة والمجتمع الذى نعيش فيه.
ثانيًا: النجوم تسطع فى الظلام
بدأ داود نجمه يسطع فى ظروف حالكة الظلام… فلقد ظهر على الساحة رجلاً عملاقًا اسمه جليات ببدلته الحربية وبكافة الأسلحة الثقيلة يهدد ويسخر ويستخف بصفوف شعب الله ويدعوهم للمبارزة وفجأة وفى وسط صمت رهيب وسكون تام، خرج داود وكان شابًا صغيرًا أشقر مع حلاوة العينين يقف بلا أى أسلحة سواء هجومية أو دفاعية، ومعه مقلاع صغير يتحدى به ذلك العملاق الكبير، وكان من الواضح أن العملاق كاد أن يفترس الصغير، لكن حدث مالم يكن يتوقعه أحد حيث خرج حجر صغير من مقلاع الشاب الصغير ليستقر فى جبهة العملاق فيُسقطه أرضًا، ويأخذ داود سيف جليات ويقطع به رأسه ويحملها ويترك ميدان المعركة ذاهبًا إلى شاول قائلاً: ها هى رأس ذلك الأغلف الذى كان يعاير صفوف شعب الله، وهنا بدأ نجم داود يسطع ويلمع. فى ظروف مأساوية وكارثية.
ثالثًا: إن كان الله معنا فمن علينا
لم يكن فى ميدان الحرب شخصًا يشجع داود ويضع فيه الثقة والحماس الذى إمتلأ به قلبه إلا داود نفسه، فلقد وضع الرب فى قلبه جرأة وشجاعة للقيام بهذه المهمة، لم يكن حوله إلا محاولات إحباط وتفشيل وتراجع عن المبارزه كما نراها فى الأمور الآتية:
1- لم ير الأب “يسى البيتلحمى” فى داود شخصًا يصلح للحرب، ولم ير فيه شخصًا يصلح للمُلك، فلقد أرسل يسى أبناءه الكبار إلى المعركة ووجه داود للاستمرار فى رعاية الغنيمات الصغيرة، وأكتفى بأن يذهب داود إلى المعركة لا لكى يحارب بل لكى يأخذ لأخوته طعامًا ويفتقد سلامتهم.(1صم17: 17).
2- لم يجد داود أى تشجيع من إخوته على الرغم من أنهم كانوا معاينين لما قام به صموئيل من مراسم مسح داود بل كانوا يحتقروه ربما حسدًا أو غيظًا أو حتى عدم ثقة فى إمكاناته وقدراته، وكانوا يرونه كشخص ضعيف وصغير لا يقوى على الأمور الكبيرة مثل الحرب، لذلك وبخه أخوه الأكبر ليآتِ ووصفه بالكبرياء خصوصًا عندما سمع ما تكلم به الرجال لداود عن مكافأة الملك لمن يقتل جليات.
3- لقد واجه أيضًا داود إحباطًا من الملك شاول فبالرغم أن داود هو الشخص الوحيد الذى تشجع وقدم عرضًا بمبارزة جليات، وعندما أبدى رغبته فى ذلك قال له شاول لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطينى لتحاربه لأنك غلام أما هو رجل حرب منذ صباه فلقد أشفق الملك على ذلك الشاب المغمور وحاول أن يثنى عزمه عن هذه المبارزة التى ستنتهى حتمًا بقتله فى أسرع وقت ممكن.
4- واجه داود تهديدًا واحتقارًا وسخرية من جليات وكانت العادة أن يكون هناك حوارًا لفظيًا بين المتبارزين يعلن كل منهم موقفه وتصوره للمعركة وأيضًا يحاول كل منهم أن يهزم الخصم نفسيًا ويُدخل الخوف فى قلبه حتى لا يقوى عليه ومتى هُزم الخصم نفسيًا فى المعركة كان الإنتصار عليه سهلاً… لذلك واجه داود كلمات قاسية من جليات إذ قال جليات لداود “ألعلي أنا كلب حتى أنك تأتي إلي بعصي؟”. ولعن جليات داود وقال له “تعال إلي فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية”(1صم17: 43- 44).
لكن داود صاح صيحته التى مازالت يتردد صداها إلى يومنا هذا فى أذن كل محارب أمين يحارب قوى الشر والخطية “أنت تأتي إلَيَّ بسيف وبرمحٍ وبترس، وأنا آتي إلَيك باسمِ رب الجنود”(1صم17: 45).
رابعًا: الشدائد تؤهل الإنسان ليصبح شديدًا
عندما مُسح داود ملكًا كنا نظن أنه سيجلس على كرسى الملك ويستريح، ولن يعود إلى رعاية الأغنام
ولكن ما حدث كان غير ذلك… لقد سمح الله له أن يجتاز الآلام والضيقات حتى وهو يعزف على العود لشاول، فلقد أشرع شاول عليه الرمح مرتين ليقتله… وهرب داود من مكان إلى مكان آخر… جاع وعطش وتعرى وإفترش الأرض والتحف السماء، وقاسى من القريبين والبعيدين… ربما يسأل البعض لماذا تسمح يارب لنا بذلك؟! وندرك بعد ذلك أن الطريق الوعرة هى التى تخلق الأبطال… وطريق العظمة ملىء بالأشواك، كما هو حافل بالأشواق وغامر بالأزمات اللازمة لصناعة الرواد.
هذا ما حدث مع يوسف كان فى القيد قبل أن يصل إلى القيادة، وهكذا موسى خرج من القصر واليُسر وعاش فى البرية أربعين سنة من العمر فى عسر وكأنه فى أسر… حتى السيد نفسه لم يتمجد إلا بعد أن إجتاز طريق الآلام والصليب… هذا ومدرسة الأيام تحكى لنا وراء كل قصة نجاح سنوات طويلة من السهر والكفاح.
عبرة فى عبارة:
(الله فى غنى نعمته وفيض محبته يسمح لنا بتجارب الحياة لا لكى يجرحنا بل لكى يفرحنا.. ولا لكى يشقينا بل لكى يشفينا.. ولا لكى يؤلمنا بل لكى يعلمنا)