
الكاتبة
الدكتورة آن زكي
مدرس مساعد بقسم اللاهوت العملي
كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة
الحلقة (8): نادية منيس عبد النور – الشاهدة الأمينة
بينما اعتلت نادية الفتاة في سني صباها مسرح كنيستها في القللي لما تميّزت به من مواهب تمثيلية وشعرية وإتقان للغة العربية، آثرت نادية السيدة في سني نضجها أن تجعلَ مكانها في الكواليس بعيدةً عن الأضواء. لم تختر أن تكون خلف الستار بسبب خوف أو خجل، ولا لقلة المواهب أو العلاقات، ولكن لأنها أدركت أن دعوتها الإلهية الخاصة أن تدعم، وهي في الظل، كلَّ مَنْ حولها ليكونوا في المقدمة محققين بذلك مقاصد الرب في حياتهم وحياة الكنيسة. وبسبب جديتها في العمل واستمراريتها في العطاء تحول الكثير من أحلام الكنيسة إلى واقع معاش.
كانت نادية منيس، منذ زواجها في عام 1950، وعلى مدار الـ 70 سنة الماضية، ومازالت الشاهدة الأمينة على تاريخ الكنيسة، لذا يعتبرها الكثيرون “ذاكرة الكنيسة”. فقد عاصرت البدايات لإنشاء أربعة كيانات كبيرة في دائرة السنودس والكنيسة. أولاً: الهيئة القبطية الإنجيلية CEOSS عام 1952 في قرية حِرز. ثانياً: رابطة السيدات العامة خلال المدة من 1956 – 1958. ثالثاً: إنشاء دار المسنين بمدينة نصر مع رابطة السيدات العامة. رابعاً: المركز الطبي الإنجيلي بالأزبكية، حيث عينتها رابطة السيدات عضواً نائباً عن الرابطة في المجلس الطبي عام 1994.
بدأت رحلتها في الخدمة عندما اقتنعت برأي جدها القس أبو الفرج سعد مع زوج خالتها القس عبد النور ميخائيل بالارتباط بابن خالتها القس الشاب منيس عبد النور، ثم الانتقال معه من القاهرة إلى حِرز وهي مازالت عروساً في عمر الـ 18 وعريسها في عمر الـ 20. خدما معاً في قرية حِرز من سنة 1950 إلى 1960 حيث رزقهما الله بابنتهما فيفي وابنهما فريد.
طلبت المرسلة الأمريكية Miss Feine في عام 1952 من القس منيس مساعدتها لتبدأ خدمة محو الأمية في حرز والتي كانت بذرة عمل الهيئة القبطية الإنجيلية. عندها فتحت نادية منيس بيتها لاستضافة فريق الخدمة كل يوم لمدة ثلاثة شهور، والقيام بكل ترتيبات الضيافة، بينما يقوم الفريق بعمل مسح للقرية لمعرفة عدد الأميين. وبهذا جسَّدت نموذج التَّمكين قبل أن ينتشر كمصطلح تنموي. وبالرغم من مشغوليتها بطفلتها ذات الشهور التسعة آنذاك، لكن نادية منيس اجتهدت أن تتدرب مع باقي المتطوعين في الحملة.
فتح نجاح هذا البرنامج مجالاً لدعوة القس منيس للقيام برئاسة تحرير مطبوعات الهيئة؛ الدور الذي تطلب اقامتهم في مدينة المنيا من 1960-1964. هناك رافقت السيدة نادية زوجها في تلقي العديد من التدريبات على مهارات كتابة القصة القصيرة والكتابة الإذاعية. في هذه الفترة اندمجت نادية منيس أكثر في خدمتها برابطة السيدات، وقامت مع السيدة فوزية صموئيل حبيب بتدوين اللائحة الداخلية للرابطة والتي على أساسها أقر السنودس الرابطة كإحدى هيئاته في عام 1961.
ثم جاءت الدعوة الرعائية مجدداً لتأخذ القس منيس وشريكته نادية لمحطة خدمتهما الثالثة في الكنيسة الإنجيلية بالزقازيق عام 1964. وفي عام 1968 طلبت منها رابطة السيدات، برئاسة السيدة حياة حبشي، تولي مسئولية تحرير مجلة أعمدة الزوايا. أخدت هذا التكليف، كعادتها، بصورة جديَّة؛ فالتحقت بعدة دورات دراسية وتدريبية عن فنون كتابة المقال والتحرير لتساعدها على تطوير المجلة، ودبرت ظروفها لتسافر إلى القاهرة مرتين شهرياً لتصحيح البروفات في المطبعة وتغليف المجلة يدوياً مع باقي هيئة التحرير ثم تسليمها للبريد للتوزيع.
كملت أيام خدمتهما في الزقازيق عندما جاءت الدعوة الرعائية من كنيسة قصر الدوبارة، لتكون محطة خدمتهما الرابعة والأخيرة معاً من عام 1976 وحتى انتقال القس منيس في 2015. استمرت، كعادتها، في خدمة البيت المفتوح وتقديم الضيافة المسيحية كأسلوب حياة خاصة مع بداية خدمة القس منيس في إذاعة حول العالم وتردد الكثيرين على البيت.
تزامن وقت انتقالهما إلى القاهرة مع انتخابها رئيسة لرابطة السيدات العامة من عام 1976 إلى 1982. كان لها العديد من الإسهامات في رئاستها للرابطة. فقد احتضنت عدة نشاطات وبازارات لجمع التبرعات لبناء بيت المسنين بناءً على تخطيط السيدة ماري فاضل الرئيسة السابقة. ولشدة ذكائها وعمق مصداقيتها، أحبها المتبرعون لإتقانها أسلوب تقديم المشاريع بوضوح ولباقة ولكن بدون ضغط أو إلزام للتبرع. فعلى قدر قناعتها باحترام حرية المتبرع، كان يقينها بعمل روح الرب ليحرك المتبرع نحو العطاء.
عُيِّنَت في 1979 وحتى 1990 في هيئة تنمية المشروعات الكنسية برئاسة د. ق. صموئيل حبيب بهدف جمع التبرعات لدعم مشاريع الكنيسة وشراء أراضٍ في الأحياء الجديدة لبناء كنائس فيها.
تثقلت نادية منيس بخدمة جمع التبرعات بشكل ملحوظ، بسبب النعمة التي وضعها الرب عليها والثقة التي وضعها المتبرعون فيها، التي كان من ثمارها تأسيس وحدة الغسيل الكلوي واستمرت عضواً في مجلس إدارة المركز الطبي من 1997 إلى 2012.
تهوى نادية منيس وتحترف العمل ضمن فريق ولا تنفرد بالخدمة وحدها، كما تسارع لمشاركة المدح والإكرام مع شركائها في الخدمة. تشرق هذه الصفة النبيلة من بين طيات صفحات كتابها “من ذكرياتي” المفعم بالأسماء حيث خدمتها ذاكرتها الثاقبة في نسب الفضل وتقديم العرفان لكل من عمل واجتهد في إنجاح عمل الرب وخدمة الكنيسة. تقود فرق العمل في هدوء واتزان، ولكن إذا رأت حقاً مسلوباً أو أمراً مُعطِّلاً للخدمة، تتحول “نادية الهادية” إلى صوت نبويٍّ شجاع يفضح الظلم والظلام.
كان حضورها قوياً ليس فقط على مستوى الكنيسة المصرية، ولكن أيضاً على مستوى الكنيسة العالمية، فقد كان لها إسهامات دولية في رابطة الخدام الإنجيلين في العالم العربي AWEMA من (1988 – 2002) ومجلس كنائس الشرق الأوسط (1990 – 2009)، واللجنة التنفيذية الدولية ليوم الصلاة العالمي (1999 – 2007)، ومؤتمرات ودورات تدريبية عديدة في تايلاند وتوجو وقبرص وأمريكا وكوريا، كما قامت بافتقاد كنائس مهاجرة في بلدان عربية وغربية مع زوجها الراحل القس منيس عبد النور.
والآن وعمرها يناهز الثماني والثمانين، مازالت شغوفة بالتعلـُّم وتحديث معرفتها لتكون متاحة لخدمة السيد في أي مجال في “وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ.” (2 تيموثاوس 4: 2). ومازالت نشيطة ومتفاعلة، مصلية ومهتمة بأمور الكنيسة، وتشجيع الخدام والسؤال على المخدومين.
باركها الرب بعطية معاصرة الكنيسة في عهدها الذهبي في قوة تأثيرها في المجتمع عندما عاصرت عن قرب وهي بجانب زوجها العمالقة: لبيب مشرقي، الياس مقار، صموئيل حبيب، فايز فارس… وكم تشتاق أن تسترجع الكنيسة مكانتها وقوة تأثيرها في المجتمع. ولكنها تشهد أن من أعظم عطايا الله لها كان زوجها القس منيس عبد النور الذي كان على مدار سني زواجهما أكبر داعم وملهم لخدمتها. فقد شجعها كثيراً على تلقي الدراسات والتدريبات جنباً إلى جنب حتى نميا معاً في الخدمة. أكرمها الرب لترى حصاد زرعها مع القس منيس في الكثير من أبنائهم وبناتهم المنتشرين في خدمة الرب في أنحاء العالم، وأكمل فرحتها برؤية أحفادها للجيل الرابع في مخافة الرب.