
الكاتبة
الدكتورة آن زكي
مدرس مساعد بقسم اللاهوت العملي
كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة
الحلقة (12): ندى ثابت – الأمل يهزم الألم
— من سلسلة “احكي لي يا كنيسة عن أمي المصرية”
شاهدتُها خارجةً من قاعة المبنى المطل على البحر، وقد ثنت ابتسامتُها كلَ عضلاتِ وجهها. كانت تمسك بيدها اليسرى ملفاً ورقياً وكأن به روحها، وبيدها الأخرى تمسك يد “روحها” – يد ابنها الذي أتمَّ عامَه الثامن عشر. ثمانية عشر عاماً من الصراع مع مجتمع لا يفهم كيفية التعامل مع إعاقة ابنها، ومع دولة لا تدرك مؤسساتٌها احتياجاته الخاصة. ولكنَّ اليومَ يومٌ مختلفٌ، لا داعٍ فيه للصراع، فقد وجدت هذه الأم أخيراً الدعم الذي طالما بحثت عنه في مجتمعها ومن إدارة التجنيد والتعبئة في محافظة الإسكندرية، ممثلاً في ملفٍ ورقي يحوي شهادة إعفاء ابنها من الخدمة العسكرية كشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة. شاهدتُ هذه الأم وَفَرِحَ قلبي معها، ولكني أيضاً شكرت الله من أجل أم أخرى عانت ما عانته ليس فقط من أجل ابنها ولكن من أجل كل ذوي الاحتياجات الخاصة في محافظة الإسكندرية – فلولا السيدة ندى ثابت لما فرحت هذه الأم ولا أُعفي هذا الشاب من الخدمة الإلزامية. فإن مجهودات السيدة ندى، التي أثمرت بشهادة الإعفاء هذه، كانت قد بدأت قبل ميلاد هذا الشاب بـِ 4 أعوام.
بدأت السيدة ندى ثابت، في سنة 1998، السيرَ في إجراءات الحصول على إعفاء لابنها ماجد من الخدمة العسكرية لكونه من ذوي الاحتياجات الخاصة. ولكن لم يسترح قلبها بعد استلام شهادة إعفاء ماجد، بل راح ينبض مع قلوب عائلات الـ 15 مليون شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة في مصر الذين سوف يعانون للحصول على شهادة مماثلة. فبادرت بتأسيس نظام يساعد أهالي ذوي الاحتياجات الخاصة على الحصول على مثل هذا الإعفاء مع حفظ كرامتهم وحفظ سلامة أولادهم. كلل الله مبادرتها بالنجاح عندما أعتمد القائد الأعلى لوزارة الدفاع ومدير إدارة التجنيد والتعبئة بالعامرية هذا النظام في سنة 2008، والذي بسببه يتم عقد لجنتين للفحص والاختبار سنوياً، والتي بناء على تقريرها تمنح الدولة إعفاء لأكثر من 100 شاب كل عام على مستوى محافظة الإسكندرية.
ومن يعرف خلفية السيدة ندى لا يستغرب أبداً من الحياة التي اختارت أن تحياها. كيف لا ننتظر منها هذه الحياة المؤثرة وهي ابنة الدكتور ألفي ثابت؛ الشماس بالكنيسة الإنجيلية بالعباسية وحفيدة الشيخ ثابت بسالي، أول شيخ يُرتسم في كنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية. كان والدها الدكتور ألفي معروفاً كطبيب كلية اللاهوت، فطالما اكتظت عيادته بالقسوس وأسرهم، واستقبل مع زوجته السيدة ماتيلدا خدام الرب في بيته الذي كان فوق العيادة. كان أيضاً طبيباً لبنات ملجأ فولر المجاور للعيادة والبيت، وكثيراً ما شجع بناته الست على جلب كتبهم المدرسية وزيارة الملجأ لبناء صداقات مع البنات وتشجيعهن على الدراسة. وبالرغم من كون ندى الابنة المدللة، وبالرغم من حالة أسرتها الميسورة، فقد رباَّها والداها على الحياة الخادمة في تواضع وقناعة، وحب الجميع ببساطة وتقديم المساعدة بلا تمييز. ومع أنها كانت الخامسة في الترتيب بين 6 بنات، فقد لاحظت فيها أختها لوسي قدراتها القيادية، وشجعتها على الخدمة في اجتماع إعدادي، ثم ثانوي، ثم الأسرة في كنيستهم بالعباسية، بجانب خدمتها وسط بنات الملجأ.
أخذها الزواج بعيداً عن أسرتها في عام 1976 عندما ارتبطت بابن عمها الدكتور مراد ثابت، الذي كان يعمل صيدلانياً في ليبيا. رزقهما الله بابنهما الأول ممدوح بعدها بسنة، ثم عملت في منظمةFOA (Food and Agriculture Organization) التابعة لهيئة الأمم المتحدة حتى ولادة ابنها الثاني ماجد سنة 1980. لاحظت الأم الصغيرة ندى بعد عدة أشهر من ولادة ماجد بعض التأخر في نموه، فبادرت برحلات العلاج إلى مصر وأمريكا، مما اضطرها لترك عملها في ليبيا. وقبل أن يتم ماجد عامه الثاني، جاء تشخيص حالته من الفريق الطبي الأمريكي كالصاعقة على أُذني وقلب أمه: “عامليه مثل الحيوان الأليف في المنزل بالحفاظ على أكله ونظافته، لأن إعاقته العقلية لن تسمح له أن يرى أو يتكلم أو يمشي ابداً.” ولكن بالرغم من صدمة الخبر، رفضت السيدة ندى الاستسلام لهذا التشخيص، بل ظلت تبحث عن كل الموارد المتاحة لعلاج ومساعدة ابنها.
خارت كلُ قواها بعد عام من المحاولات الفاشلة أمام حالة ابنها العصيَّة على أي حلّ، وفي عجزها انبطح جسمها للصلاة مجسداً انبطاح روحها بداخلها، وطلبت رحمة الله لابنها. ويا لعجب محبة الله! قامت ندى من صلاتها لتجد عيون ماجد قد انفتحتا، وراح يشير إليها وإلى الأشياء من حوله. وكانت هذه أول معجزة جسدية تختبرها ندى عندما وهب الله البصر لماجد في عمر سنتين ونصف، تبعتها معجزة المشي وهو في الخامسة، ومعجزة الكلام عندما بلغ الحادية عشرة.
استقبلت ندى في يونيو 1985 رسالة طارئة تحثُّها على سرعة العودة لمصر حيث تم نقل أختها الكبرى إلى المستشفى إثر حادث سيارة. لم يخبرها المتصل أن والدها ووالدتها وأخت أخرى لقوا حتفهم في نفس الحادث. لم تدرك ندى وقتها أن سنواتها الخمس السابقة في رحلات علاج ماجد بين القارات قد أهلتها لهذه اللحظة؛ فقد تحوَّلت ندى الطفلة المدللة التي لم تعرف المشاكل طوال صباها، إلى إنسانة مسئولة، قادرة على اتخاذ القرارات السليمة في روح الصلاة والثقة في قوة الله. ففي غضون أيام كان على “الابنة” و”الأخت” ندى إغلاق عيادتي والدها وأختها الكبرى وأكثر من بيت من أجل تجميع أولاد أختيها في بيت واحد لمتابعة تربيتهم ودراستهم. كما قررت العودة النهائية إلى مصر مع أسرتها لمتابعة علاج أختها التي نجت من الحادثة والذي تتطلب رحلات كثيرة بين مصر وإنجلترا لإجراء العديد من العمليات الجراحية.
استقرت ندى أخيراً في الإسكندرية حيث كان بيت أهل زوجها، وكان ماجد في بداية مرحلة التعليم الابتدائي. وبعد المحاربة لسنوات لـتأمين فرصة تعليم لابنها، ساندها مدير مدرسة سان مارك آنذاك بتخصيص راهبة يابانية لمتابعة ابنها وفتح فصل خاص لذوي الاحتياجات الخاصة في سنة 1986 والذي صار فيما بعد “مركز الحياة لتعليم الأطفال المعاقين.” وعندما كبر ماجد واشتدت رجلاه، سرعان ما سجَّلته والدته ندى في تدريب السباحة حتى أصبح ماجد بطل الجمهورية في السباحة. وظلت تكافح وتثابر لتمنح ولديها؛ ممدوح وماجد، كل الفرص المتاحة وخلق الفرص غير المتاحة، دون التقصير في رعاية ومساندة أخواتها وأولادهن في القاهرة. كل هذا كان يتم بجانب عملها في شركة SANDOS والذي تركته بعد 15 سنة لتحقق حلم تأسيس مركز لتأهيل المعاقين. وفي عام 2000، انتصر الأمل على الألم، وأسست السيدة ندى ثابت “جمعية قرية الأمل للتنمية والتأهيل الاجتماعي للمعاقين،” والتي نمت اليوم لتضم 38 موظفاً يعملون في 4 فروع للجمعية: أولاً، قرية الأمل في منطقة برج العرب التي تقدم خدمة إقامة شاملة لـ 12 نزيل من الأولاد فقط، وخدمة الرعاية النهارية لـ 45 من الأولاد والبنات حيث يتدربون على مهارات حياتية تساعدهم على الدمج في المجتمع من خلال التأهيل في ورشة للنجارة، ومعمل للأشغال اليدوية، ومزرعة للخضروات، ومخبز آلي، وورشة للتعبئة والتغليف. ثانياً، مكتب إداري في وسط الإسكندرية لتقديم خدمة إجراءات الحصول على إعفاء الشباب المعاق من الخدمة العسكرية وخدمات أخرى. ثالثاً، أكاديمية تعليمية لتقديم اختبارات الذكاء، وعمل جلسات خاصة لمن يعانون من التوحُّد وصعوبات التعلم. رابعاً، حضانة دامجة تخدم 80 طفل لإتاحة مساحة للدمج بين كل الأطفال في سن مبكرة بعد أن قررت الدولة جعل كل المدارس المصرية دامجة منذ عام 1998. لكل هذا وأكثر، لقبها الإعلام المصري بـ “أم المعاقيين.”
خلال هذه الرحلة المشرفة من خدمة ذوي الاحتياجات الخاصة في مصر، استمر الله في تكريم السيدة ندى ثابت بالنجاح وبالتقدير على أعلى المستويات في العالم. فقد تم اختيارها في عام 2005 لتكون المرشحة المصرية الوحيدة من ضمن 1000 سيدة حول العالم لجائزة نوبل للسلام. ثم في 2013 تم ترشيحها كعضو المجلس القومي لشئون الإعاقة. ثم في عام 2019 تم اختيارها كعضو في اللجنة العليا للتعليم والبحث العلمي. وفي عام 2020 وقَّعت قرية الأمل بروتوكول تعاون مع جامعة بني سويف متمثلة في كلية علوم ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي الكلية التخصصية الوحيدة في مجال الإعاقة في الشرق الأوسط. أيضاً في عام 2020 حصلت قرية الأمل على جائزة الممثل الرئيسي لمكتب هيئة التعاون الدولي الياباني “جايكا” (Japan International Cooperation Agency). ثم أخيراً في يناير2021 تم تعيينها من قبل الرئيس السيسي كعضو في مجلس النواب.
لا تكفّ السيدة ندى، برغم كل تلك الإنجازات، عن الحلم بما هو أفضل لذوي الاحتياجات الخاصة. فتتطلع لليوم الذي تنشر فيه نظام إجراءات إعفاء المعاق من الخدمة العسكرية لكل محافظات الجمهورية، وأيضاً للتوسع في مبنى الإقامة في قرية الأمل ليستضيف بنات كما الأولاد، وبناء بيت كبير لدمج المسنين مع المعاقيين، وإنشاء مركز تدريب أخصائيين للتعلم والعمل في مجال الإعاقة.
سارت ندى مسيرة كل أم مصرية تحلم وتسعى لإيجاد حياة كريمة وآمنة لابنها المعاق، ولكن ما ميز السيدة ندى عن باقي الأمهات هو رحابة قلبها ووسع رؤيتها لتشمل إيجاد هذه الحياة لا لابنها فقط بل لكل من يعاني من معاناة ابنها. فهي إنسانة قادرة أن تعيش حياة مختلفة لأنها عرفت الهدف من حياتها—وهو خدمة الآخرين. تجربة الألم صقلت شخصيتها ورؤيتها، فقد استقرت نفسها على التركيز على عطايا المصلوب، بدلاً من عذاب حمل الصليب. فربما في وقت ما كانت تسأل “لماذا أنا يا رب؟” فيما يخص محنتها، ولكن مع الأيام، حول الله منظورها لتسأل “لماذا أنا يا رب؟” فيما يخص ما منحه الله لها. وتظل السيدة ندى ممتنة لعطايا الله لها في زوجها وأبنائها وأحفادها، شاهدة لقوة الصلاة الفعالة ومحبة الآخرين.