فهرس الموضوع

الكاتب
القس جادالله نجيب
من أكثر الموضوعات الشائكة في الإيمان المسيحي هو موضوع الصليب، فإذا تجاوزنا الصليب فلا تقوم للمسيحية قائمة بالمرة. ومن عجب العجاب أن الصلب كان أحد وسائل الإعدام في القرن السابع قبل الميلاد وخاصة أيام الفرس واستمرت هذه الوسيلة حتى القرن الرابع الميلادي في أيام الرومان. ويذكر التاريخ أن الرومان كانوا يخصصون عقوبة الصلب لأسوأ المجرمين. فهل من منطق أن يُصلب المسيح، كلمة الله، كواحد من المجرمين؟ وإن كان كلمة الله ( المسيح) بشرًا سويًا، لماذا حُكم عليه بالموت بهذه الوسيلة البشعة؟ ألم يكن هناك عند لله وسيلة أُخرى يقدر أن يستخدمها لخلاص البشر؟ ولماذا هذا التعذيب للمسيح من أجل من أساؤا بإرادتهم، وابتعدوا عن الله بكامل اختيارهم؟ هل هناك ما يُجبر الله أن يفعل هذا؟ أم أن هناك التزام كان في قلب الله لن يتخلى عنه ونحن غير قادرين على فهمه؟ أم أن المسيحيين أخطأوا في إيمانهم وهم يتمسكون بالصليب كركيزة أساسية لعلاقتهم بالله؟
في البداية، وأنت تُشرع في الكتابة في هذا الموضوع، كأنك تقرر أنك تسير على حبل مشدود، فالموقف يحتاج إلى قوة من رب السماء ليعطيك الشجاعة والاتزان النفسي والجسدي لتصل إلى الطرف الآخر من الحبل المشدود بسلام وأمان. على أي حال، فإن كل الأسئلة التي طُرحت تحتاج إلى قناعات لفهم أبعاد اجاباتها، والتي أضعها أمام القارئ الكريم من خلال كلمة الله كما دونها الوحي المقدس.
الله والخليقة
خلق الله آدم على صورته: «فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم. (تك 1: 27). عاش آدم مع الله في الجنة يَنْعَم بحب الله ويستمد منه المعرفة والحياة. خُلق آدم بإرادة حُرة ومعرفة خيِّرة وحياة دائمة لا يعوزه شيء. وكانت الجنة بكل مخلوقاتها تخضع له وتُطيعه، وبلا جهد تُخرج الأرض له أثمارها. كان وجوده في الجنة فاعلاً حيث أن مسؤليته تطويرها وخلق بيئة يستثمر فيها قدراته، ويعي معنى وجوده.
تميزت العلاقة بين الله والإنسان بحب الله غير المشروط للإنسان، على أن يحتفظ الإنسان بهذه العلاقة ويعي هذا الحب غير المشروط في حسن اختياراته وسلوكه. كانت الجنة هي مسرح الحب الإلهي واختيارات آدم. تجسد المسرح في قسمين واضحين وهما: كل أشجار الجنة ( والذي يمثل الشركة مع الله) وشجرة معرفة الخير والشر والتي تمثل اختيار آدم ومنهج تفكيره.
الشركة كانت هي السر بين الإنسان وإلهه، فمحبة الله ثابتة، أما اختيار آدم وحواء هو الذي يحدد مسار العلاقة ونهجها. فشجرة معرفة الخير والشر في الجنة كانت هي محك اختبار قدرة آدم، إما أن يستخدم ملكاته وقدراته في تطوير الجنة والحفاظ عليها وبالتالي يحتفظ بمحبة الله غير المشروطة أو أن يُعطي ظهره لله ويأكل من الشجرة وبالتالي يكون قد قطع علاقته بالله وبنى حائط سد بينه وبين الله. فاختياره للأكل من شجرة معرفة الخير والشر تشل قواه الداخليه، وتكبل إرادته في صناعة الخير، بل ويصبح عاجزًا يئن تحت المسؤلية الشخصية.
ماذا اختار الإنسان؟
رغم العشرة مع الله ولا نعرف عدد السنين التي قضاها آدم وحواء في الجنة إلا أنه قد وجد أن ثمر شجرة معرفة الخير والشر “جَيِّدَةٌ لِلْأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ ٱلشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ” ( تكوين 3: 6)، فاختار عن طيب خاطر أن يأكل منها، وحدد مسار حياته، فبدل من أن يستثمر قدراته وإمكانياته وملكاته، اختار أن يعطي ظهره لله وكانت النتيجة هي الموت. لم يكن يعلم باختياره الحر أنه قد أعطى ظهره لله وللشركة معه إلا بعد أن أكل من ثمر الشجرة “ٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا ” وأدركا “أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ”. لقد اقتحم حياتهما الخزي والعار والخجل من أنفسمها ومن الله. حالة العُري شملت جسدهما ولم تعد عيونهما بسيطة في نظرتهما الواحد لشريك حياته. انفتحت عيونهما على الشر فسلم الإنسان إرادته للشر وانفصل عن الله. وكانت الحصيلة هي الاغتراب عن نفسيهما قبل اغترابهما عن الله.
نتيجة الاختيار
تجاوب الإنسان مع الشر ففقد صداقته مع الله، ونعمة وجوده في محضر الله، وفارقته النعمة الحافظة له والمدبرة لحياته وسعاته. لذا رُفعت عنه مظلة الشركة والحب والود. بالتالي اغترب الإنسان عن الله وتخاصم حتى مع نفسه ومع الآخرين.
فقد آدم وحواء الحياة في ملئها مع الخالق. انفتحت عيون الإنسان على الشر وانفتح على الموت والخوف منه، فأصبح الانفتاح على الشر والموت دائم الحضور في وعيه، مما تسبب في إصابة الإنسان بالعجز وشلل للإرادة وتشويه لمعنى الوجود، وغير قادر على فهم ومعرفة الله لأنه شوه بل فَقَد الصورة التي تحفظ الإرادة خيّرة. فالخطية (اختيار آدم الحر) اتخذت من الجسد مكانًا للموت، وسُلْطَتِها هو الموت المتربع في أركان جسد الإنسان.
صار صراع البقاء والسعي نحو غاية المعنى من الوجود عند الإنسان هو أقوى وأخطر القوى الإنسانية جملة وتفصيلاً. أصبحت الحياة هي محاولة الوجود بعيدًا عن الموت، فكل طاقة الإنسان وخياله وفكره ومشاعره وإرادته أن يبتعد عن الموت، فلا يستطيع الفرار منه.
لم يتماثل الموت فقط في حضوره الدائم في وعي الإنسان، بل أيضًا تماثل في مواجهة الواقع القاسي في الأرض . اختياره الحر تسبب في لعنة الأرض “مَلْعُونَةٌ ٱلْأَرْضُ بِسَبَبِكَ”، فلم تَعُد الأرض تعطيه بلا جهد كما كانت من قبل، بل أعطته الشقاء والوجع “بِٱلتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. ١٨ وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ ٱلْحَقْلِ. ١٩ بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى ٱلْأَرْضِ ٱلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لِأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ”. ( تكوين 3: 17 – 19).
أصبحت الأرض قاسية في تعاملها مع جهد الإنسان، يعطيها كل عافيته، أما هي لا تعطيه إلا ما يكفيه. وباتت الأرض تُحْني ظهره بفعل جذبها الشديد لترُدَّ له اللعنة التي وُصِمَت بها بسببه! فأصبح الموت الجسدي يسري في الإنسان بشكل أسرع من خلال استنزاف قواه الجسدية بتأثير العوامل الطبيعية المؤثِّرة في الجسد.
لقد ورّث آدم البشرية طبيعة منفتحة على الشر، فالفكر والضمير يقبل بمشورة الشر ويتعاقد مع الخطية، العين والأذن واللسان والقلب مفتوحون على الشر ويكونون طيعين له. ورّثَ آدم إنسانية عاجزة فاقدة للحضور الإلهي ونعمته. وَرَثْت البشرية طبيعة فيها وعي الخطية وعليها حكم الموت. جر آدم البشرية وراءه بتلك الطبيعة الإنسانية المريضة العاجزة المشلولة. كما ورّث حكم الموت الذي استعصى على الشرائع أن ترفعه عن الإنسان.
طبيعة الله وعلاقته بالإنسان
أعلن الله بوضوح أمرين في غاية الأهمية: أن فرحته وشبع قلبه مع الإنسان “لَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ” ( أمثال 8: 31) والأمر الثاني هو أنه لن يتغير “أَنَا ٱلرَّبُّ لَا أَتَغَيَّرُ فَأَنْتُمْ …. لَمْ تَفْنَوْا” (ملاخي 3: 6). فهل غيّر الله طبيعته المحبه كرد فعل لخطية آدم؟ هل انتقص اختيار آدم الحر من رصيد محبة الله للإنسان، هل خطية آدم كانت ضد الله أم ضد نفسه؟ هل كان الله ندًا لآدم حتي يتعامل معه على نفس مستوى تفكير آدم؟
صلاح الله يظهر بقوة في حبه للإنسان وعطائه الإيجابي ومصداقيته Consistency)) في وعوده رغم الخلل الذي أحدثه الإنسان بعدم أمانته وانتمائه لله. فوق هذا لا يمكن تحت أي ظرف، ومهما عظُم شر الإنسان، أن يتراجع الله عن صدقه مع ذاته ومع الخليقة. الكلمة الإنجليزية “Consistency” التي تعني المصداقيه والتناسق مع الذات. وبالتالي فالتزام الله النابع من صلاحه ومصداقيته كان هو المبادرة للوصول للإنسان، باحثًا عنه مهتمًا به، ساعيًا أن يرده إليه ومصالحًا له كي يشفي نفس الإنسان المعطوبة المعزولة المائته.
لماذا موت المسيح إلتزام؟
إلتزام الله بحبه للبشر ومصداقيته في شخصه، أن يكون واحد منهم بلا خطية، حيث أن الإنسان هو من أعطى ظهره لله، وأخضع إرادته للجسد الذي اتخذته الخطية مكانًا لها وجلبت الموت وسلطانه على هذا الجسد. أصبح الموت هو عدو الإنسان، ومن ثم ليس من قدرة شخصية للإنسان أن يتغلب على الموت، أو أن يعيد الحياة لنفسه. فالخصم والعدو هو الموت، فمن اللآزم أن يُهزم ويُبطل ” آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ ٱلْمَوْتُ” ( 1 كو 15: 26). وأكرر أن الشرائع والفرائض لم تستطع أن تقتل الموت، فهو عَصَي عليها. وعليه فقد أخذ المسيح نفس الجسد البشري سلاح ضد الخطية ليهزمها في الجسد، ويقتل الموت ويكسر سلطانه. يضع كاتب العبرانيين هذا المفهوم ببراعة” فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلْأَوْلَادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ- خَوْفًا مِنَ ٱلْمَوْتِ- كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ. ( عبرانين 2: 14 و15)
عاش المسيح كل بشيريتنا واجتاز كل تجاربها واختبر آلامها بكل أنواعها. فقد واجه السيد المسيح الآم من الشيطان في التجربة على الجبل التي تعيقه عن أن يُكمل التزامة في حبه للبشر، ويواصل التزامه للصليب ليهزم الخطية في الجسد. معاناة من الشعب الذي أراد أن يخطفه ويجعله ملكًا، ومعاناة من تلميذ مخلص الذي قال له: “حشاك يارب أن تصلب”، ومعاناة ثالثة من تلميذ غير وفيّ والذي كان يتجسس لصالح الرؤساء والكهنة كوسيلة ضغط حتى يستخدم مكانته وهو المسيا المنتظر لخلاص الأمة من سطوة الرومان وأن يثنيه عن التزامه بالوصول للصليب. لقد تمرس في كل أنواع الآلام الإنسانية النفسية والجسدية. عاش السيد المسيح كل تلك الآلام والمعاناة، فعلينا أن ندرك أن كل تجربة يجتاز فيها الإنسان هي تجربة الله. فالذي اشترك في الدم واللحم، اشترك في كل آلام وتجارب البشرية. وهو يقينًا قادرٌ أن يعين المجربين. ولا يَبْقى إلا الإيمان ليتحقق الإنسان من صدق الله.
لقد جاء المسيح ملتزمًا بوعده ليحرر الإنسان من عبوديته ويفكه من أغلال سلطان الموت الذي جلبته الخطية. صالح الله البشرية في المسيح لنفسه ” إِنَّ ٱللهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحًا ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَة”. ( 2كورنثوس 5: 19). كما صالح الكلمة المتجسد الإنسان مع نفسه أيضًا، فشفي العطب الداخلى.
كلمة الله تؤكد دائمًا في طولها وعرضها أن الله في حبه قدم غفرانًا مجانيًا وخلاص ثمنه هو المبادرة منه أن يُبْطِل الموت الذي هو أجرة الخطية، والصليب حدث تاريخي يعيد للإنسان حب الله ونعمتة التي فقدهما باختياره.
في الختام، نرى أن في الحياة العملية يعجز الإنسان عن الغفران لمن يسيئ إليه، لأنه يشعر بالظلم والقهر، فيبحث عن رد المسلوب. إلا أن المغفرة الحقيقية عند الإنسان هي قدرته على تخطي الشعور بالظلم، وإعطاء مساحة حقيقية في القلب لالتماس العذر. المغفرة تُشْعِر الإنسان بأنه لا يحمل في قلبه أية رغبة في رد الظلم بالظلم، أو مقاومة الشر بالشر. إنها حالة شفاء لنفس الإنسان المظلوم، تجعله قادرًا على صنع معجزة تحول مشاعر النقمة نحو ظالميه إلى حب وعطاء. أليس الصليب هو أقوى برهان على التزام الله في محبته للبشر غير حاسب لهم خطاياهم؟!