
الكاتب
القس جادالله نجيب
ألقت النيران التي أُطلقت بين إسرائيل والفلسطينيين في السابع والعشرين من ديسمبر الماضي ظلالاً كثيفة من الخراب والدمار للمدنيين الفلسطينين العُزل، أطفالاً وشيوخاً. وقد جاء في تقارير ما بعد وقف إطلاق النار، أن الخراب الذي خلَّفته الاعتداءآت على غزة أكثر بكثير مما خلَّفته تسونامي، المآساة الطبيعية التي حدثت في إقليم اتشيه الأندونيسي، في يوم 27/ 12/ 2004.
ظل العالم أجمع يتطلع إلى وقف إطلاق النار من اليوم الذي بدأت فيه الاعتداء، فقد انعقدت كثير من القمم العربية والعالمية، لتبحث عن حل لوقف إطلاق النار، ونزيف الدماء حتى يوم التاسع عشر من يناير. وهنا يقفز سؤالاً يفرض نفسه علينا، ماذا بعد وقف إطلاق النار؟
إن التكهنات حول الموقف كثيرة، المخاوف تهدد كل الأطراف، وكلٌ فريق يستعد للمواجهة والردع في حالة التعدي من ناحية، ومن ناحية أخرى، الجميع يسعي باستمرار لضفر الجهود في عدة اتجاهات: أولاً، إعادة إعمار ما قد دُمر، وثانيا، المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، أي الكيان الداخلي الممزق في فلسطين، وثالثاً، إنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
إذا فما هو المستقبل المنتَظر للعلاقة بين فلسطين وإسرائيل؟ هل تقدر الاتفاقيات السياسية والدبلوماسية وحدها على حل هذا النزاع؟ وإذا كان للاتفاقيات القدرة على فك هذا النزاع، فلماذا لم تقدر على حلها طوال السنين الماضية؟ فهل من يد تفك هذه العقدة؟ وهل من تدخل يحسم القضية في الداخل؟ وتساهم في حسمها في الخارج؟
ربما ما كتبه كاتبنا الكبير والمعروف الدكتور أحمد بهجت في عموده اليومي بجريدة الأهرام، الصحيفة القومية المصرية، بعنوان “شريعة الحب” في يوم 15/ 10/ 2008، يكون مدخلاً جيداً لتقديم اليد التي تقدر أن تفك العقدة المزمنة.
ونص ما كتبه أحمد بهجت هو” كانت شريعة موسي قد تحولت علي أيدي اليهود إلي كلمة، ولكنها كانت كلمة تنقصها الروح، وقد جاء عيسي عليه السلام ليرد الروح إلى الكلمة التي كانت يومئذ قد جردت تماماً من محتواها.
إن شريعة موسي كانت تأخذ بالقصاص.. من ضربك على خدك الأيمن فاضربه على خده الأيمن.. كان اليهود يطبقون هذا النص تطبيقا شكلياً بحتا فتحول في أيديهم إلي انتقام مجرد, وجاء عيسي فردهم إلى الغرض الأصلي من فرض الشريعة والنص علي القصاص.
إن الهدف هو الحب لا الانتقام.. أراد عيسي أن يقول لمن حوله إن الشريعة ليست أن تنتقم لنفسك وتضرب, إنما الشريعة الحقيقية أن تسامح وتعفو وتحب.. الشريعة الحقيقية أن تصير قادراً علي الحب.
إن القدرة علي الحب ليست أمراً في طاقة البشر جميعاً وليست غريزة أو حاسة تولد بميلادهم, إنما هي طريق طويل من المعاناة والألم, وهي بداية الوجود الإنساني الحقيقي.
إن كثيرا من وحوش الغاب تحب نفسها وتنتقم من منافسها وتقاتل من أجل قطعة الأرض والطعام, وتدخر لأبنائها وتدافع عنهم, والفرق بين الإنسان والحيوان أن الحيوان لا يستطيع أن يتجاوز ذاته بالحب إلي ذوات الآخرين.. أما الإنسان فهو الكائن الذي يستطيع ذلك, وفي ذلك يكمن مجد إنسانيته, وقد تحدث المسيح عليه السلام إلي قومه فأفهمهم أن الإنسان لا يصير إنسانا إلا إذا انخلع من ذاته وأحب الآخرين. وكلما اقترب القلب الإنساني من أبعد الناس عنه هنالك يقترب الإنسان من إنسانيته”.
هذه هي الحقيقة التي قدمها السيد المسيح ” كلمة الله” الحب، التسامح، العفو. فوجود المسيح بين البشر هو إعلان عن تجاوز الله لذاته سبحانه وتعالى، إعلان لجوهر وقلب الله المحب، وبحبه للبشر أعطى للوجود معنى، بل أعطى للإنسانية مجدها، على حد قول أحمد بهجت.
فالسيد المسيح “هُوَ سَلاَمُنَا، ذَاكَ الَّذِي جَعَلَ الْفَرِيقَيْنِ( اليهود، والشعوب الأخرى) وَاحِداً وَهَدَمَ حَائِطَ الْحَاجِزِ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا، أَيِ الْعِدَاءَ: إِذْ أَبْطَلَ بِجَسَدِهِ شَرِيعَةَ الْوَصَايَا ذَاتَ الْفَرَائِضِ، لِكَيْ يُكَوِّنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، إِذْ أَحَلَّ السَّلاَمَ بَيْنَهُمَا، وَلِكَيْ يُصَالِحَهُمَا مَعاً فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ. رسالة أفسس 2: 14- 16.
المصالحة قيمة اجتماعية وإنسانية، تعني وجود الإنسان، وتُدعم كرامته. المصالحة هي الاعتراف بالآخر، وهي طريق الحوار الإيجابي معه، وباب الانفتاح عليه، وأرضية التعايش السلمي والحبي معاً. على هذه القيمة تتأسس العلاقات الإنسانية، وتُبنى كافة القيم التي تحفظ العلاقة حية وفاعلة.
الوصية الأولى والعظمى في الكتاب المقدس هي ” تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ”(متى 22: 37 ـ 40)
فالمصالحة تبدأ مع الله، أي خروج الإنسان من التقوقع حول الذات إلى حب الله. ولكن لم يستطع الإنسان أن يأخذ المبادرة في أن يخرج من ذاته ويتصالح مع الله، لأن القدرة على الحب ليست أمراً في طاقة البشر بعد دخول الخطية للجنس البشري بسبب العصيان.
ولهذا السبب قد أخذ الله المبادرة في المسيح، وصالحنا لنفسه ” اللهِ الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ” 2 كورنثوس 5: 17 .
“لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ “المسيح”، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ! 11وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا بِاللهِ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي نِلْنَا بِهِ الآنَ الْمُصَالَحَةَ. (رومية 5: 10و 11).
بمبادرة الله لمصالحة الإنسان لنفسه في المسيح، قد تصالح الإنسان مع ذاته، أي أن المسيح وضع أساساً للسلام الداخلي، سلام القلب والضمير، وبالتالي أصبحت له القدرة على الخروج بذاته المتصالحة إلى الآخر بالحب والتسامح والغفران والتعايش. ومنها تكون الوصية الثانية تحب قريبك كنفسك، قابلة للتطبيق العملي. وتصبح المصالحة كالعدوى بين الذين تصالحوا مع الله من خلال الكلمة الحي ” السيد يسوع المسيح” الذى جسَّد مجد الإنسانية على الأرض .
النزاع الإسرائيلي مع الفلسطينيين ليس فقط حول الأرض والحدود وإنما أيضاً حول الوجود الوطني نفسه. كلا الشعبين متشابك مع الآخر على قطعة أرض واحدة تفتقر إلى الحدود الواضحة. الصراع بينهما هو من طبيعة “أن نكون أو لا نكون” وهو يؤثر على قدرة الطرفين على الحفاظ على الهوية الوطنية لكل منهما.
أكثر من ستين عاماً من سفك الدماء تثقل ضمائر الطرفين، وقربهما من بعضهما البعض يزيد من مخاوفهما، بل ويزيد من العداء وروح الانتقام القاسي.
فالحاجة الملحة الآن هي إلى الله ليتدخل ويعالج، من خلال إطلاق عملية مصالحة بين الإثنين. عملية مصالحة لن تؤدي فقط لأن يصبح الشعبان أصدقاء، ولكنها قد تمكنهما من طي صفحة والتركيز على بناء مستقبل أفضل. فإن المصالحة أمر أساسي لأنها تضع كلا الطرفين على قدم المساواة، فكلا الطرفان ضحية وقاتل في نفس الوقت. ومن هنا يمكنهما الاتفاق على قاسم مشترك وترك النزاع المرّ خلفهما، ومعه الأعمال الوحشية التي تم ارتكابها بشكل متبادل.
المسيح وحده هو القادر على أن يشفي علاقتنا مع ذاتنا ومع الآخرين، والقادر أن يزع الحب في قلوبنا. هذا الحب نفتقر إليه في كل زمان ومكان، في كل بلاد العالم، حتى التي يتوفر عندها المال والاستقرار.
إذا تعلمنا المسيح “الكلمة المتجسد” يسكننا السلام، وتبنى فينا القدرة على الحب ومشاركة الآخر في علاقة عميقة. ليس مجرد تعايش ومعاصرة، بل حوار حقيقي نابع من حضور للذات المتصالحة.
والسؤال: أين نحن من المصالحة مع الله، ومع ذواتنا قبل أن ننطلق للتصالح مع الآخر؟