
الكاتب
القس جادالله نجيب
كيف نقرأ الأحداث
رغم أنني أعيش خارج البلاد إلا أنني من يوم تركتها لا أشعر أنني فارقتها. وكنت أخدم في منطقة نائية، فقيرة بسيطة في
الإمكانات وفي شعبها، ومع ذلك تتماثل أمام عينيّ كل يوم.
لا أدعي الوطنية أكثر من غيري المهاجرين، ولا حبي لكنيستي أكثر من أؤلئك، ربما يرجع حبي للوطن والكنيسة لتكويني
الشخصي، وهذا أراه في نفسي إنه امتياز لي أن يكون وطني وكنيستي في خاطري دائمًا.
تزاحمني الأفكار هذه الأيام، وتقلقني الإنطباعات التي تدور في مكنونات الكثيرين بسبب الأحداث الجارية في بلادنا وفي
الوطن العربي. تأتينا الأخبار من كل صوب وحدب، من يوم ثورة 25 يناير 2011 م إلى الآن وتختلط المشاعر بين الإيجابي
منها والسلبي. في البداية شعرنا بأن زمن الحرية والتغيير قادم، وأن نسيم الأمل يهب على بلادنا نستنشق رائحته مع مرحلة
جديدة وفكر جديد، ينطلق بنا نحو أفاق أرقي وأفضل.
ومن جهة أخرى تهب علينا رياح عاصفة تلوث الجو العام فتسوده حالة من الضبابية التي لا يمكن التنبوء بما يصير لبلادنا في
المستقبل القريب والبعيد. فالأجواء مشحونة بالاعتصامات، والمطالبات بلا سقف، وتفشي الأمية الاجتماعية وهي عدم القدرة
على التمييز بين الحقوق والواجبات، والنقص الحاد في تقبل الآخر في مجتمع متعدد الثقافات والاتجاهات والمعتقدات. بالإضافة
إلى أعمال البلطجية التي تصيغ قصصًا لا تخلو من والوجع والألم والمعاناة لكل طبقات المجتمع.
ويزيد الطينة بلة هو إحساس بعض المسيحيين في بلدنا بالتهديد المباشر، بل حتى إخوتنا المسلمين الذين يختلفون في تفكيرهم
وتوجههم الديني عن فكر هؤلاء من ذوي الصوت العالي لذيهم شعور مشابه. فهل يقفز المجتمع إلى المجهول؟ أم يسود الحياة
اليأس وفقدان الأمل؟ هل يفكر البعض في الهجرة وترك البلاد للبحث عن ملاذ آمن؟ وماذا سيكون مصير من يحبون بلادهم،
ويتسمون بالوطنية المخلصة؟ ………… أسئلة يحار لها العقل، وتدمي لها العين من مجرد التفكير فيها
ويزيد الطينة بلة هو إحساس الأقليات في بلدنا بالتهديد المباشر، ليس فقط الأقليات المسيحية، بل حتى الأقليات المسلمة التي
تختلف في تفكيرها وتوجهها الديني عن فكر الأغلبية. فهل يقفز المجتمع إلى الظلام؟ أم تسود حياة الأغلبية اليأس وفقدان الأمل؟
هل يفكر الناس في الهجرة وترك البلاد للبحث عن ملاذ آمن؟ أم يندب الذين بلا حيلة حظهم؟ وماذا سيكون مصير من يحبون
بلادهم، ويتسمون بالوطنية المخلصة؟ ………… أسئلة يحار لها العقل، وتدمي لها العين من مجرد التفكير فيها.
هل هناك من إجابات للأسئلة المطرحة؟! ……. ليس من باب الصدفة أن نجد في التاريخ أحداثًا شبه مماثلة، حتى وإن
اختلفت في سياقها التاريخي وفي تداعياتها، إلا أنها أحدثت نفس الأسئلة، بل وأفرزت فزعًا وترقبًا لما ستكون عليه حال الأمة في
المستقبل القريب.
هذا الحدث نقرأ عنه في كتاب زكريا النبي، وهو واحد من الأنبياء الصغار في العهد القديم. وينحصر تفكيرنا في الأصحاح
التاسع في الأعدد الثمانية الأولى. هذا النص من الكتاب المقدس يوصف الهجوم العسكري للإسكندر الأكبر على شمال وغرب
فلسطين، سنة 333 ق.م تقريبًا.
وكثيرون يعرفون من هو الإسكندر الأكبر، فقد بدأ حكمة بعد اغتيال فيليب الثاني والده، وقد كان الإسكندر مدربًا كقائد
حربي للجيش الذي كان قد أعده والده لفتح الشرق الأدنى والاستيلاء عليه. اعتلى الإسكندر العرش، ووجد نفسه محاطًا
بالأعداء ومهددًا بالتمرد والعصيان من الخارج، فتخلص مباشرة من المتآمرين عليه وأعدائه بإعدامهم. وابتدأ الإسكندر في غزوا
البلد، فاتسعت مملكتة اتساعًا عجيًبا، من مقدونية )اليونان( حتى مصر والهند.
هزم الإسكندر داريوس ملك فارس وبذلك قوض أركان مملكته، في معركة إسوس. وتحرك ناحية سورية، فاستولى على مناطق
سورية الداخلية وحتى نهر الفرات. واتجه نحو الساحل السوري غربا ومن سورية اتجه جنوبا إلى مصر داعيًا المدن الفينيقية ) صور
– صيدون – أشقلون- غزة ( حتى لا تستخدم سفن الجيش الفارسي موانيها، إلا أنه قد قاوم أهل مدينة صور المحصنة بحريا
مقاومة قوية وثابتة أمام الإسكندر. فاقتحمها بعد حصار دام سبعة أشهر وأخربها وألقي بأنقاضها في الماء ليعمل منها طريقًا
ليصل إلى المدينة الجديدة الموجودة في الجزيرة.
لقد أحدثت تحركات الإسكندر الأكبر العسكرية وانتصاراته وهزيمة المدن رعبًا لكل منطقة الشرق الأدني، ونقرأ وصف زكريا
(. لم تكن هاتين المدينتين فقط بل أورشليم : للحالة التي انتابت البلاد.. ” ترى أشقلون فتخاف، وغرة فتتوجع جدً ” ) زكريا 9: 5
أيضًا. ووصل الرعب إلى واقع حيث احتل الإسكندر غزة بعد حصار دام شهرين، وبعدها أمن السيطرة على خط الساحل
الشرقي للبحر المتوسط.
بعد أن أمن السيطرة على ساحل البحرالأبيض المتوسط اتجه الإسكندر ناحية أورشليم، ولم يكن راضيًا عن اليهود في ذلك
الوقت، لأنهم رفضوا تقديم الجزية له، الجزية التي كانوا يعطونها للفرس. ماذا يفعل اليهود أمام جبروت الإسكندر؟ وماذا سيكون
مستقبل أورشليم وشعبها؟ …. بالتأكيد أسئلة كثيرة كانت حملاً ثقيلاً على الشعب والقيادة.
قراءة الأحداث
أمام الإحساس بالخوف والقلق وعدم الشعور بالاطمئنان والراحة، والمستقبل الظلامي والمجهول، يذكر المؤرخ اليهودي
المعروف يوسيفوس، أن رئيس الكهنة إ زاء الوضع الراهن قد نادى أهل أورشليم بالصوم والصلاة، وقدم ذبائح في الهيكل طالبًا
حماية الله الخاصة لشعبه.
قبل أن يصل اسطول الإسكندر الأكبر إلى أورشليم بليلة واحدة حلم رئيس الكهنة حلمًا يترأى له الله فيه ويكلفه بما يفعله مع
الإسكندر الأكبر. كانت الرسالة والتكليف هي: زيّن أروشليم، وقل للناس أن يلبسوا ملابس بيضاء، وافتح أبواب المدينة
لاستقبال الملك الزائر، وتلبس أنت والكهنة اللباس الكهنوتي المقدس، ويخرج الشعب كموكب مع الكهنة وتتقدم الموكب في
استقبال الإسكندر حين وصوله إلى المدينة غدًا.
تجاوب رئيس الكهنة مع القراءة النيرة للحدث، نادي ونظم الموكب وبادر بالتحرك والاستقبال. كان موكب الاستقبال مُبهرًا
للأسكندر الأكبر، فكان رد فعله قبوله وترحيبه لهم في سلام. ثم أخبره رئيس الكهنة بنبوة دانيآل الذي تنبأ عنه.
إن قراءة للأحداث الصحيحة، وهذه المبادرة الإيجابية، جعلت الإسكندر يدخل إلى الهيكل ويقدم ذبائح لله عن رضي. ولم
يستولى على اورشليم مخربًا، ولم يوذ الشعب، ولا طالب بالجزية، وأكثر من ذلك ترك لهم الحقوق التي اكتسبوها تحت حكم
فارس. ومن هنا تحققت كلمة الله مع شعبه حين قال: ” أحل حول بيتي بسبب الجيش الذاهب والآئب، فلا يعبر عليهم بعد
. جابي جزية ….. ” زكريا: 9: 8
لقد ذكّرني رئيس الكهنة بما كتبه ستيفن كفي في كتابه “العادات السبع للناس الأكثر فاعلية”، يقول فيه: “إن أردنا أن نغير
الوضع علينا أن نغير من أنفسنا أولاً، ومن أجل التغيير الفعال من أنفسنا، علينا أولا أن نغير توقعاتنا”. فنحن نعيش ما كانت
تعيشه مدن فينيقية، ومدينة أورشليم من إحساس بالخوف والقلق وعدم الشعور بالاطمئنان والراحة، والمستقبل المجهول. فهل لنا
أن نعمل على تغيير أنفسنا ونغيير توقعاتنا؟ وهل لقادة الكنيسة وشعبها الأفاضل أن ننمي العقل بالمعرفة والروح بالإيمان والقيم
الروحية والإنسانية، وننمي العواطف بالتواصل مع المجتمع لشحذ ملكات الانتماء. أم مازالت الأمية الروحية تقتحم حياتنا
فنحيا أسرى الخوف والترقب، وتشل حركتنا، وتفقدنا تفكيرنا الإيجابي تجاه الواقع ، وتضلل طريقنا فلا ترى أعيننا من نحن؟ وإلى
أين ذاهبون؟…… لأن الأمية الروحية جندي أعمى يعجز عن قراءة الأحداث، وبالتالي يستخدم سلاحة بطريقة خاطئة، أو قد
لا يعرف كيف يستخدمه