فهرس الموضوع

بقلم
الدكتور القس وجيه يوسف
باحث فى التراث العربي المسيحي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
الأصل اللّغويّ واستخدام العرب المسيحيّين:
التّأويل في لغة الضّاد هو إرجاع الشّيء إلى أصله. يقول ابن منظور إنّ: “الأَوْلُ هو الرّجوع. آل الشّيءُ يَؤُول أَولًا ومآلًا: رَجَع. وأَوَّل إِليه الشّيءَ: رَجَعَه. والتّ عن الشّيء: ارتددت” (لسان العرب: تأويل). كما ورد في القاموس المحيط: “أوَّلَ الكَلامَ تَأْويلًا، وتَأَوَّلَه: دَبَّرَهُ وقَدَّرَهُ وفَسَّرَهُ (القاموس المحيط: تأويل). وفي الفقه الإسلاميّ، يعدّ التّأويل طريقة لـ” بيان أحد محتملات اللّفظ على وجه التّقدير والظّنّ” (المعاني: تأويل). ودائمًا ما يذكر التّأويل في اقترانه بالتّنزيل. التّعبير الثّاني هو النّصّ المقدّس الذّي أوحى به الله لعبيده الأنبياء والرّسل، في حين أنّ الأوّل هو محاولة الوصل للمعاني الخفيّة للنّصّ الإلهيّ، عن طريق إتّباع طرائق فقهيّة معيّنة. وهذا يعنى أنّ آيات الكتب المنزّلة لها معنى ظاهر، وآخر باطن. ينشغل العاملون بالتّأويل بالمعني “الخفي” للنّصّ، في مقابل المعنى الظّاهر في نصّ التّنزيل.
قد يبدو للبعض أنّ هذه المصطلحات التّفسيريّة لها طابع إسلاميّ، فلا نسمع في هذه الأيام العربَ المسيحيّين يتحدّثون عن التّأويل أو التّنزيل. لكنّ دراسة تاريخ المسيحيّين في “دار الإسلام” تؤكّد لنا أنّ العرب المسيحيّين كانوا ممَنْ استخدموا هذه المفردات، وبدون استحياء أو تردد. فها هو عمّار البصريّ (لاهوتيّ من كنيسة المشرق عاش في القرن التّاسع) يقول، في معرض دفاعه عن صحّة الكتاب المقدّس: “فلو كان يمكن اتّفاق النّاس على الاجتماع على تحريف التّنزيل، لما اختلفت في التّأويل. فاختلافها في التّأويل يوضّح مَحال ما ادُعي عليها من اتّفاقها في تحريف التّنزيل” (عمّار البصريّ: 42). وهذا الفكر هو ذاته ما سبق وتحدّث به طيموثاوس الأوّل (780-823م)، بطريرك الكنيسة ذاتها، في حواره الممتدّ لمدّة يومين مع الخليفة العبّاسيّ المهديّ (754-785م)، يوم قال: “إنّ كلام الله المسطور في التّوراة والأنبياء والإنجيل والحواريّين قد تثبّت بآياتٍ ومعجزاتٍ” (طيموثاوس الأوّل: 27). ويقول عمرو بن متّى (لاهوتيّ من كنيسة المشرق عاش في القرن الحادي عشر) في كتاب المجدل، مادحًا المؤمن الذي: “تقبّل رسل الله وكتب التّنزيل، وعمل بأوامر التّلاميذ ووصايا الإنجيل، وتحلّى بعلوم الحكمة ودلائل التّأويل” (عمرو: 43). ويمكن أن يحاج المرء بأنّ الحساسيّة تجاه مثل هذه المفردات التّي تبدو في ظاهرها “إسلاميّة” لكنّها “عربيّة” الأصل، لم يعرف للذّهن العربي المسيحيّ طريقًا إلّا في عصور متأخّرة—يوم سادت محاولات التّأكيد على تفرّد العقيدة وتميّز الإيمان المسيحيّ في القرينة العربيّة؛ وهذا عكس ما شهده العرب المسيحيّون إبّان العصر الذّهبيّ للحضارة العربيّة-الإسلاميّة: القرن الأوّل من العصر العبّاسيّ. لقد كان مصلح التّفسير ومصطلح التّأويل مستخدمَيْن في الثّقافة العربيّة عند كلّ عناصرها الدّينيّة. فلقد عرفه العرب اليهود والعرب المسيحيّون وكذا العرب المسلمون. نعرف مثلًا أنّ العالم اليهوديّ المصريّ الشّهير سعيد بن يوسُف الفيوميّ، المعروف باسم سعديا جاءون، (ت. 942) وضع كتب تفسير بسيط نصّ التّوراة، وقد ألّف بطرس السّدمنتيّ المقدمة في التّفسير في ديباجة كتابه القول الصّريح في آلام السّيد المسيح وبيان الحقّ فيه على الوجه الصّحيح.(Abdul-Raof: 240)
بعد حلول الإسلام، وضَع اللّاهوتيّون العرب المسيحيّون على عاتقهم أن يجعلوا من تُراثهم اللّاهوتيّ أمرًا مفهومًا، وإنتاجًا أصيلًا يخاطب القرينة الجديدة، أو النّظام العالميّ الجديد، التي بدأت بحلول الإسلام، وتحوّل العديد من المُدُن الشّرقيّة “المسيحيّة” لمراكز فكريّة إسلاميّة. وقد نجح آباء الكنيسة العربيّة المسيحيّة في تلك المهمّة نجاحًا مُبهرًا. وتقف كتاباتهم اللّاهوتيّة خيرَ شاهدٍ على هذا النّجاح. وإلى جوار التأليف الموسوعيّ في موضوعات لاهوتيّة متعددة، أخذ المؤلّفون العرب المسيحيّون من كلّ عائلات الإيمان المعروفة يومئذٍ: الَمَلكيّون (ممَنْ قبلوا قرارات مجمع خلقيدونيّة 451م،) واليعاقبة (أصحاب مذهب الميافيزيّة “الطّبيعة الواحدة” كالأقباط والسُّريان الغربيّين، لا مذهب المونوفيزيّة: الطّبيعة الوحيدة، والذين تبعوا هرطقة أوطاخي (378-456م)، و”النّساطرة” الذين كانت الكنائس الأخرى تسمّيهم بهذا الاسم، معتبرةً إيّاهم هراطقة؛ لأنّهم عبّروا عن وحدة أقنوم المسيح بشكلٍ بدا وكأنّه مناداة بمسيحَيْن “منفصلَيْن” في شخص المسيح—كلّ هؤلاء أخذوا بوضع تفسيرات للكتاب المقدّس.
مثلًا، انشغل المؤلّفون الأقباط بتفسير أسفار الكتاب المقدّس، وصار إنتاجُهم اللّاهوتيّ والتّفسيريّ أغزر من أقرانهم من العرب المسيحيّين. نذكر مثلًا، مطرانَ دمياط، أبا الفخر مرقس بن القُنبر (ت. 1130/1140-1208م) الذّي وضع تفسيرًا شاملًا للأسفار الموسويّة، وكان تفسيره رمزيًّا، يشير للمسيح والكنيسة والأسرار والتّوبة بشكلٍ واضحٍ؛ وعبدَ الله بن الفضل بن عبد الله الأنطاكيّ الذي كتب تفسيرًا لسفر المزامير؛ وتفسير نفس السّفر لسمعان بن كليل بن مقارة بن أبي الفرج (ت. بعد 1206م)؛ الذي وضع شرحًا لبشارة القدّيس متّى، وأظهر فيه ابن كليل اعتمادًا كبيرًا على تفسيرات آباء الكنيسة؛ وساويرس بن المقّفع (أسقف الأشمونين، في صعيد مصر، ت. 987م) وتفسيرَه المفقود للإنجيل بحسب البشيرين الأربعة، والشّيخَ المؤتمن أبي إسحق بن العسّال وشرحَه لمقدّمات رسائل القدّيس بولس، وقد غلب على هذا العمل التّنبير على العقائد الوارد ذكرُها في الرّسائل؛ والوجيهَ يوحنّا القليوبيّ (القرن 13) كاتب تفسير رسالة القدّيس بولس إلى روميّة ورسالتي كورنثوس؛ ومعاصرَه صفيّ الدّولة أبى الفضائل بن كاتب قيصر واضع تفسير سفر الرّؤيا وتفسير الإنجيل بحسب متّى وتفسير رسائل القدّيس بولس ورسائل الكاثوليكون؛ وشمسَ الرّئاسة أبي البركات بن كَبَر، قسّ الكنيسة المعلّقة (ت. 1323م) وكتابَه الشّهير مصباح الظّلمة في إيضاح الخدمة، وهو مرجع شامل يتحدّث عن دراسة الكتاب المقدّس، إلى جوار موضوعات أخرى؛ وهناك تفسير آخر لسفر الرّؤيا وضعه بولس البوشيّ في القرن الثّالث عشر، وهو التّفسير الثّاني لهذا السّفر في كلّ تاريخ الأدب العربيّ المسيحيّ، إلى جوار تفسير ابن كاتب قيصر.
ينصبّ التّركيز في هذه الورقة البحثيّة على التّفسير من وجهة نظر التّراث العربيّ المسيحيّ، ولسوف نتّخذ مثالًا من كنيسة المشرق “النّسطوريّة،” ومثالًا آخر من الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة. المثالان هما: الشّيخ أبو الفرج عبد الله بن الطّيّب البغداديّ والقسّ بطرس السّدمنتيّ.
الشّيخ أبو الفرج عبد الله بن الطّيّب البغداديّ (ت. 1043م)
تحدّث المؤرّخ المسلم ابن أبي أُصيبعة (1203-1270م) في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء، وهو موسوعة جمع فيها أسماء العلماء الذين عملوا بالطّب منذ عهد الإغريق والرّومان والهنود حتّى القرن الثّالث عشر للميلاد—تحدّث عن ابن الطّيّب، قائلًا:
هو الفيلسوف الإمام العالم أبو الفرج عبد اللّه بن الطّيّب، وكان كاتب الجاثليق (لقب بطريرك “النّساطرة” في بغداد، المقصود هنا هو البطريرك يوحنّا بن نازوك، 1012-1022م) ومتميزًا في النّصارى ببغداد، ويقرئ (يعلّم) صناعة الطّبّ في البيمارستان العضديّ (أنشأه عضد الدّولة بن بويه (936-983م) في الجانب الغربي من بغداد، عام 981م)، ويعالج المرضى فيه. ووُجد شرحُه لكتاب جالينوس إلى أغلوتن (غلوقن، أحد تلامذة جالينوس)….هو (ابن الطّيّب) من الأطبّاء المشهورين في صناعة الطّب، كان عظيمَ الشّأن، جليلَ المقدار، واسعَ العلم، كثيرَ التّصنيف (التّأليف)، خبيرًا بالفلسفة، كثيرَ الاشتغال فيها.” (ابن أبي أُصيبعة: 323).
كان ابنُ الطّيّب أحد أستاذة الشّيخ ابن سينا (ت. 1037م)، ومع أنّ الأخير كان يعارض أفكار ابن الطّيّب في الحكمة، إلّا أنّه “سَلّمَ بتفوقه في العلوم الطّبيعيّة،” حسبما يشهد الإمام البيهقيّ (994-1066م)، في تاريخ حكماء الإسلام (خليل، 510). كما عرفت أفكار ابن الطّيّب طريقها لابن رشد (1126-1198م) وللمفكّر اليهوديّ ابن ميمون القرطبيّ (1135-1204م). وضع ابن الطّيّب تفسيرات وشروحًا كثيرة على أعمال أرسطوطاليس وأبقراط وجالينوس (CMR, II: 668 ). هذه المهارة جعلت المؤرخ المسلم المشهور تاج الدّين أبي الفتح الشّهرستانيّ (1086-1153م) يلقّب ابنَ الطّيّب بـ”أبي الفرج الشّارح” (خليل، 510). ولذا، يعدّ ابن الطّيّب أحد أهمّ القنوات التي حفظت للعالم تراث الإغريق الفلسفيّ والطّبيّ.
وتعدّ موسوعته الشّهيرة فردوس النّصرانيّة أشهر أعماله، وتشمل تفسيرًا لكلّ أسفار الكتاب المقدّس، إلى جوار تفسير سفر يشوع بن سيراخ، وذكر العديد من المسائل الُمشكلة في العهدين القديم والجديد، وبعضًا من المقالات اللّاهوتيّة. وبهذا، يصبح فردوس النّصرانيّة أشمل وأضخم عمل عربيّ مسيحيّ تفسيريّ للكتاب المقدّس قاطبةً (قنواتيّ، 309). هذا العمل محفوظ في مكتبة الـﭭـاتيكان (ﭬـاتيكان-عربيّ 36، وهو مخطوط يعود للقرن 13-14 الميلاديّ، وﭬـاتيكان-عربيّ 37 وهو مخطوط يعود لعام 1291م). وربّما لا يبالغ المرء في الزّعم بأنّ الوحيد من بين كل الكتّاب العرب المسيحيّين (القدامى أو المعاصرين) الذين ترقى مؤلّفاتهم إلى هذا الحدّ من الإنتاج التّفسيريّ هو الخوريّ بولُس الفغاليّ!
وكعادة معظم النّصوص العربيّة المسيحيّة، فلم تنل أعمال ابن الطّيّب القدر الوافي من التّحقيق والنّشر (CMR, II: 668) .فلم ينشر نشرًا أكاديميًّا إلّا تفسير سفر التّكوين، من بين كلّ أعمال ابن الطّيّب التّفسيريّة؛ حيث صدر عام 1967 في المجلد 24 من المجموعة العربيّة في سلسلة CSCO.
اتّبع ابنُ الطّيّب أسلوبًا متميّزًا في تفسير للكتاب المقدّس، إذ اعتمد بشدّة على بعض المصادر السُّريانيّة. ويبدو واضحًا، على الأقلّ في تفسير سفر التّكوين، أنّ ابن الطّيّب اعتمد على تفاسير إيشوعداد المرزويّ (CMR, II: 669). وكان المرزويّ كاتبًا ومفسرًا مشهورًا في كنيسة المشرق “النّسطوريّة” في القرن التّاسع. وكان ومَنْ تأثّر به من بعده مثل “النّسطوريّ” ابن الطّيّب واليعقوبيّ مار ديونيسيوس يعقوب بن الصّليبيّ (القرن الثّاني عشر) يميلون لاستخدام التّفسير الحرفيّ التّاريخيّ، ولم يجدوا فائدة كثيرة من وراء استخدام التّفسير المجازيّ. واعتمد ابنُ الطّيّب أيضًا على أفرام السّريانيّ (القرن 4) وتيودور المصيصيّ (350-428م) ووباباي الكبير (حـ. 551-628م) وباسيليوس (330-379م) ونرساي (399-502م). كما أنّه لمّح إلى ثيودور بار كوني، الذي عاش في أواخر القرن الثّامن الميلاديّ (الفغاليّ: انترنت “الطّيّب”).
والجدير بالذّكر أنّ ابن الصّليبيّ نفسُه قد وضع مؤلّفات تفسيريّة ضخمة وكاملة للكتاب المقدّس، باللّغة السُّريانيّة، إلى جوار أعمال لاهوتيّة ودفاعيّة كثيرة. بعض هذه الأعمال منشور في سلسلة CSCO. وقد قام عبد المسيح دولبانيّ السُّريانيّ، في عام 1914م، بترجمة ونشر أجزاء من تفاسير ابن الصّليبيّ، في مجلد أسماه الدّر الفريد في تفسير العهد الجديد. ويحتوي هذا العمل على تفسير الإنجيل المقدّس بحسب البشيرين الأربعة. كما نشر الخوريّ بولس الفغاليّ بعضًا من تفاسير ابن الصّليبيّ. وحيث إنّ هذه الورقة البحثيّة تهتمّ بالتّفسير من وجهة نظر العرب المسيحيّين، والتّراث العربيّ المسيحيّ المكتوب باللّغة العربيّة، فلسوف لا نتحدّث كثيرًا عن ابن الصّليبيّ. ولنَعُدْ إلى حديثنا عن ابن الطّيّب.
كان ابن الطّيّب، يضع مختصرًا تفسيريًا لآيات الكتاب المقدس، من منظور تاريخيّ حرفيّ وأخلاقيّ، وبأسلوب مناسب لعصره. وهذا الأسلوب يتوافق جملةً وتفصيلًا مع منهج مدرسة أنطاكيّة التّفسيريّ. يقول ابنُ الطّيّب في مطلع كتابه سالف الذّكر: ” لمّا شاهدتُ علوم البيعة المقدّسة وقد دثرت ولم يبقَ أحد من الكهنة الأكابر يفتح كتابًا ولا يقرأ تفسيرًا ولا يشعر بأنّ عالمًا صنّف تصنيفًا إلّا النّفر القليل…رأيتُ أن أجمع سائر تفاسير الكتب الحديثة والعتيقة باختصارٍ بالعربيّة” .(CSCO: Ara, 24: 1) ولم يكن ابن الطّيّب يفسر أسفار أو أجزاء الكتاب المقدس بشكلٍ متكافئ؛ فمرات نجده يكتب بإسهاب حول شرح آية بعينها؛ بينما، في مرّات أُخر، يفسّر إصحاحًا كاملًا في فقرة أو فقرتين (CMR, II: 669). ومع ذلك، فلا يجب أن نظنّ أنّ فردوس النّصرانيّة عمل صغير الحجم؛ إذ هو يحتوي على تفسير كل الكتاب المقدّس، كما سبقت الإشارة. يقدّم ابن الطّيّب في المقدّمة “ملخَّصًا عنه حالًا بعد المقدِّمة، فيعرض علينا لائحة بمحتويات هذا الكتاب: كتب الشّريعة الخمسة، كتب المجالس (أي يشوع والقضاة وصموئيل والملوك والحكمة والجامعة ونشيد الأناشيد وراعوث وابن سيراخ) وكتب الأنبياء (أشعيا، الاثنا عشر، إرميا، حزقيال، دانيال). بعد هذا، ترد مسائل على العهد القديم والعهد الجديد، ومسائل مختصرة وصعبة في العهد القديم والجديد، ومسائل أخرى مختصرة وصعبة جدًا من العهد القديم، ومسائل على العهد الجديد، وشروح للمقاطع الغامضة في كتب الأنبياء، وشرح ألغاز سفر أيّوب” (الفغاليّ: إنترنت “الطّيّب”).
كذلك لا يُظنّ أنّ فردوس النّصرانيّة هو مجرّد “تلخيص” لتفاسير سريانيّة قديمة، موضوعة في اللّغة العربيّة. فابنُ الطّيّب كان مقتدرًا في تفسير النّصّ الكتابيّ، ولم تعوزه في ذلك مهارة ولا مَلَكَة. أَوَلَيْس التّلخيص بهذه الطّريقة مهارة فذة في حدّ ذاتها!
يقول ابنُ الطّيّب في تفسيره لقصة خلق الإنسان على صورة الله إنّ قول الله: “نفعل إنسانًا بشبهنا ومثالنّا أشار إلى آدم. ولفظة “نفعل” يدلّ على كثير. وهذا رمز على الأقانيم. فوقتُ خلقة آدم أبانَ الآبُ عن ابنه؛ وفي وقت تجديده أبانَ الابنُ عن الآب. ولم يرد الله بقوله “شبهه ومثاله” أنّ آدم جوهرُه مثل جوهر الباري، ولا على أنّه صورته، لكن على سبيل الكرامة له والاختصاص…والباري سبحانه خصّه بالسّيادة والسّلطان على الخلائق، وهو جامع الوجود كلّه” (CSCO: Ara, 24: 18). مرّة أخرى يقول ابن الطّيّب إنّ قول الكتاب إنّ الله استراح لا يعني “أنّه تعب. فالله تعالى ليس بجسم، لكن معنى قوله استراح أي فرغ من خليقته” (CSCO: Ara, 24: 19). يوضح الاقتباسان أعلاه أنّ تفسير ابن الطّيّب يمزج بين الفلسفة والرّوحانيّة والعمق اللّاهوتيّ .(Young and Serjeant, 447)هذا المزج كان طبيعيًّا عند فيلسوفٍ كابن الطّيّب، وارثٍ لتراثٍ سريانيٍّ عميقٍ استقى منابعه من آباء الكنيسة الأولى—عن طريق حركة التّرجمة من اللّغة اليونانيّة التي شهدتها الكنيسة السُّريانيّة، بداءةً من القرن الرّابع للميلاد.
وجدت أعمال ابن الطّيّب التّفسيريّة قبولًا شديدًا عند المؤلّفين الأقباط لاحقًا فنرى مثلًا الشّيخ مؤتمن الدّولة أبو إسحق بن العسّال (لاهوتيّ قبطيّ من القرن الثّالث عشر) يقتبس كثيرًا من نصوص ابن الطّيّب في موسوعته الشّهيرة مجموع أصول الدّين ومسموع محصول اليقين (أبو اللّيف: 187). وفي القرن العشرين، وتحديدًا عام 1908م، قام يوسف منقريوس بتحقيق ونشر تفسير ابن الطّيّب للإنجيل بحسب متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا. لكنّ هذا العمل يشوبه عيبٌ كبيرٌ، إذ قام المحقّق “بتعديل” النّصّ الأصليّ لابن الطّيّب وحذف أيّ تعليق يبدو أن يحمل فكرًا “نسطوريًّا.” كذلك حرم المحققُ القارئ المعاصر من الاطّلاع على النّصّ الكتابيّ الذّي استخدمه ابنُ الطّيّب، إذ قام منقريوس بتبديل هذا النّصّ بنصّ البستانيّ-ﭬـاندايك! (انظر منقريوس، 3-4).
بطرس السّدمنتيّ
كان بطرس السّدمنتيّ راهبًا وعالمًا ومفسرًا مشهورًا في القرن الثّالث عشر الميلاديّ، وهو القرن الذّي شهد عصر التّأليف الذّهبيّ للمسيحيّين الأقباط. عُرف السّدمنتيّ أحيانًا باسم بطرس الأرمينيّ، نظرًا لكونه أرمينيّ-الأصل، كما يحاجّ بعض العلماء. ويذكر أبو البركات بن كَبَر السّدمنتيّ باسم “بطرس الأرمنيّ، القسّ السّدمنتيّ” (أثناسيوس، 342). ترهبن السّدمنتيّ في إحدى أديرة الفيوم (Gabra: 52). وربّما يكون هذا الدّير هو دير مارجرجس في سدمنت في بني سويف، والذي يبعد حوالي 20 كم غرب مدينة بني سويف. تاريخيًّا، يقع هذا الدّير ضمن أديرة إقليم الفيوم. غير أنّ آخرين يروْن بأنّ السّدمنتيّ ترهبن في برية شهيت، في وادي النّطرون، بناءً على إشارات وجدت في مخطوط في دير الفرنسيسكان في القاهرة. وبالتّالي، فنسبةُ “سدمنت” إليه هي نسبة لمحل الميلاد، لا مكان الرّهبنة (CMR, 4: 416). وللآسف فلا يعرف العلماء المتخصّصون أكثر من هذه المعلومات الشّحيحة عن سيرة القدّيس السّدمنتيّ. ترك السّدمنتيّ أربعة عشر مؤلّفًا في موضوعات لاهوتيّة وتفسيريّة وعقائديّة، بعضها محفوظ في المكتبة الوطنيّة في ﭘـاريس ومكتبة الـﭭـاتيكان ومكتبات أديرة مصريّة ولبنانيّة. ومات السّدمنتيّ في النّصف الأخير من القرن الثّالث عشر في إحدى أديرة وادي النّطرون.
كان السدمنتيّ معاصرًا لأسقف مصر بولس البوشيّ (1240م) وداود بن لَقْلَق، الذي صار فيما بعد البابا كيرلّس الثّالث بن لَقْلَق. ويعدّ كتاب القول الصّريح في آلام السّيّد المسيح وبيان الحقّ فيه على الوجه الصّحيح من أشهر مؤلفات السّدمنتيّ. طبع محبُّ الله فيلوثاوس هذا الكتاب أوّل مرّة عام 1872م، ثمّ نشره يوحنّا المقاريّ عام 1926م. ونشر بطرس ﭬـان دن أكِر عام 1986م دراسة محقّقة تحقيقًا علميًّا لمقدّمة السّدمنتيّ في التّفسير، وأتبعها بدراسة وترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة. وفي عام 2014م، نشر عيد صلاح في سبيل نظريّة عربيّة مسيحيّة للتّفسير: بطرس السّدمنتيّ نموذجًا. يقدّم صلاح في هذا الكتيّب دراسة عن أسلوب السّدمنتيّ التّفسيريّ المتّبع في المقدّمة. ويخلص صلاح إلى أنّ المقدّمة فيها “بلاغة كبيرة من حيث اللّغة العربيّة، و(فيها) جمال في المعنى، وعمق في التّعبير، وغنى في المفردات والمعاني، وأنّ بُطرس السّدمنتيّ استخدم مفردات وتعبيرات إسلاميّة كثيرة دون حرج، ممّا بيّن قدرة كبيرة في التّواصل والتّصالح مع الثّقافة العربيّة-الإسلاميّة في ذلك الوقت. كما بيّنت المقدّمة معرفة السّدمنتيّ بالقوانين الكنسيّة. وبيّنت أيضًا هضم بُطرس السّدمنتيّ لكافّة المدارس الفكريّة في التّفسير التي كانت سائدة قبله أو معاصرة له، (وهكذا) خَطّ لنفسه نهجًا تفسيريًّا عربيًّا مسيحيًّا خالصًا” (صلاح، 24).
يحتوي كتاب القول الصّريح في آلام السّيّد المسيح على ثلاثة مقدّمات: المقدّمة في التّفسير، وسوف نعرض لها بعد قليل؛ والمقدّمة الثّانية تخصّ دراسة أعمال السّيّد المسيح، حيث يرى السّدمنتيّ في أعمال المسيح اتمامًا لشريعة العهد القديم (أثناسيوس، 344). والمقدّمة الثّالثة هي شرح وتفسير لآلام التي حلّت بالمسيح، ابتداءً ممّا جاء في الإنجيل بحسب متّى 26: 37. ويأتي هذا الجزء في 29 فصلًا. ويعتبر هذا العمل “من أهمّ مؤلّفاته مضمونًا واتّساعًا، وهو تفسير لما جاء في الأناجيل عن آلام السّيّد المسيح وحياته العلنيّة” (أثناسيوس، 343). يناقش السّدمنتيّ في هذا العمل طرائق التّفسير المختلفة: الحرفيّ والرّمزيّ النّسكيّ، وينحاز للتّفسير الحرفيّ، رافضًا التّفسير المجازيّ، تابعًا النّصّ بالعديد من التّطبيقات الأخلاقيّة (Meinardus, 58). كما أنّه مرّات ما يعيد صياغة النّصّ بطريقة مختلفة. ومرّات أخرى نراه “يناجي” الشّخصيّات الكتابيّة (أثناسيوس، 344).
ومع أنّ السّدمنتيّ لم يضع تفسيرات بقدر ما وضع ابن الطّيّب، إلّا أنّه أفرز في كتابه سابق الذّكر مقدّمة مهمّة تتناول قضيّة التّفسير الكتابيّ ومبادئه. ويرى السّدمنتيّ أنّ ثمة فارقًا بين النّصوص والتّفاسير. “فالنّصوص كالكنوز المخفيّة والتّفاسير كالجواهر المرئيّة. والكنوز لا يصل إليها إلّا أعظم النّاس قدرًا، وهي كالأمور السّرّيّة المكنونة في الكتب الإلهيّة….كتب النّصوص الإلهيّة خفيّةُ المقاصد والأغراض، فقد اختصّت بألفاظ مفردة ومعان مجملة، لا يفهمها الكافّة، [لذلك] اُحتيج إلى التّفاسير، ليُتوصل بها الجاهل والعالم إلى إدراك ما هو معتاص (أكِر، 16، 18). هنا نجد تأكيدًا على أنّ علم التّفسير له قواعد ومهارات، لا يملكها إلّا العارفون ببواطن هذا العلم. وتستحضر هذه الكلمات تصريحًا مهمًّا نادى به سعيد بن البطريق، الطّبيب المصريّ المشهور، وبطريرك الَمَلكيّين في الإسكندريّة في القرن العاشر الميلاديّ، إذ قال: “كلّ مَنْ لم يكن له معرفة بأصل علم من العلوم التي يريد أن يتكلّم فيها لينتج منه نتيجة ما يريده، وكانت معرفته أيضًا إنّما هي فرع لذلك العلم، لا عن أصلٍ يرجع إليه، كان كلامه وإنتاجه هذرًا وهذيانًا، وصار تعبُه وعناؤه في ذلك هزلًا ولعبًا” (ابن البطريق: 4). تجدر الإشارة إلى أنّ عالم الاجتماع المسلم الشّهير عبد الرّحمن محمّد بن خلدون (1332-1406م) تأثّر بكتابات سعيد بن البطريق، وبخاصة كتابه نظم الجوهر، المعروف بـ تاريخ ابن البطريق!
التّفسير بالنّسبة للسّدمنتيّ “هو الإيضاح والكشف، لأنّ به تصير المعاني التي كانت في النّصّ كامنة، ظاهرة علانيّة” (أكِر، 13). ولهذا التّعريف مجموعة مضامين، أهمّها أن يكون لفظ التّفسير واضحًا بيّنًا، على عكس ما قد يجده القارئ في نصّ التّنزيل. وهنا يؤكّد السّدمنتيّ على حقيقة أنّ للتّفسير “دلالة حقيقيّة على الإيضاح والبيان، (لذا) وجب ضرورة أن يكون لفظ الإيضاح أكثر من لفظ الموضوع” (أكِر، 13). وينتج عن هذه الفرضيّة حقيقة أخرى، ألا وهي أنّ نصوص التّأويل تزيد في حجمها، مرّات، عن نصوص التّنزيل؛ ذلك لأنّ الشّارح أو المفسّر يستخدم تعبيرات كثيرة رغبة منه في استيضاح المعنى وشرحه. وكانت النّتيجة أن “صارت كتب التّفسير تعادل كتب النّصوص أضعافًا شتى” (أكِر 14). والذّهاب إلى معنى صحيح لنصّ التّنزيل غاية في الأهمّيّة، فهناك نصوص ظاهرها يمكن أن يتسبّب في مشاكل عدّة، إن اتّبعها المرءُ حرفيًّا، فلو “أخذت على ظاهرها، لأحدثت من الكفر أشنعه، ومن الاعتقاد أردأه” (أكِر، 40). كما أنّ السّدمنتيّ يعرض لعدد من مدارس التّفسير. فهناك “التّفسير الاستعاريّ” وفيه يقتبس نصّ من العهد الجديد حادثة من العهد القديم ويعطيها تأويلًا معيّنًا. أمّا “التفسير اليقينيّ” فهو النّصّ التّعليم الواضح الفهم الذي يرد في نصّ من النّصوص وهو “التّفسير المطابق لضمير المتكلّم بلا زيادة نحو قول الإنجيل” (أكِر، 26). ويسوق السّدمنتيّ كثير من الأمثلة التي هي في جملتها تعاليم واضحٌ نصُّها في العهد الجديد، مثلًا قول البشير مرقس: “مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ (مر 16: 16). نصوص مثل هذه تؤخذ كما هي، و”تحمل على ظاهرها، ولا تتأوّل زائدًا عمّا ورد في النّصّ…لأنّ باطنها في ظاهرها” (أكِر، 26، 27). أمّا النوع الثّالث من التّفسير فهو التّفسير الرّوحيّ، وفيه يؤخذ النّصّ على باطنه، لا ظاهره. هنا لا يفيد التّقيّيد بحرفيّة النصّ، بل على المفسّر البحث عن المعنى الرّوحيّ وراء نصّ التّنزيل. والمنهج الأخير في التّفسير هو التّفسير الاحتماليّ، وفيه “يُحتمل” أن يُفسّر النّصّ في اتجاهات عديدة، وكلّها تستقيم.
ابن الطّيّب والسّدمنتيّ مثالان لما قدّم العرب المسيحيّون من مجهودات محمودة في تفسير الكتاب المقدّس—الكتاب الذي شكّل وجدانهم، وصار الدّفاع عنه وعن صحّته أمرَ حياةٍ أو موتٍ. على هذا الكتاب تقوم العقيدة المسيحيّة أو تسقط، ولذلك فتفسير الكتاب المقدّس من منطلق دفاعيّ لهُوَ أمرٌ حتميّ، ولم يكن أبدًا أمرًا اختياريًّا. هذا ما تلّونت به كتابات العرب المسحيّين الخاصّة بالكتاب المقدّس وتفسيراته. ولا عجب هنا، فالقرينة المحيطة بالمسيحيّة العربيّة تفترض تحريفًا في الكتاب المقدّس. وإذ أدرك العرب المسيحيّون ذلك التّحدّي، أخذوا يدافعون عن صحّة الكتاب في كلّ أحاديثهم، وفي كلّ مؤلّفاتهم. استخدم حبيب بن حُذَيْفَة أبو رائطة التّكريتيّ، اللّاهوتيّ اليعقوبيّ من القرن التّاسع، في رسالته في الثّالوث المقدّس، أطروحات كثيرة للحديث عن صحّة العقيدة المسيحيّة الخاصّة بالثّالوث. ولكنه لم يستطع عدم الحديث عن صحّة الكتاب المقدّس، مصدر عقيدة الثّالوث (دكّاش، 96-97). هذا ما حدث مع كلّ المفسّرين العرب المسيحيّين، ممّا جعل لتفسيراتهم لونًا دفاعيًّا. وخرجت تفسيراتهم موصومةً بأنّها آبائيّة (يونانيّة أو سريانيّة) دفاعيّة، فلسفيّة، لاهوتيّة. لقد عبرت هذه التّفسيرات بالفكر اللّاهوتيّ المسيحيّ من عصر الآباء وعصر الفكر السُّريانيّ الغنيّ إلى القرينة العربيّة التي حلّت على الشّرق بحلول الإسلام. وهكذا صارت تفسيرات عابرة للثقافات واللّغات، غنيّةً في محتواها، شاملةً في مناظيرها. تشبّعت بفكر الآباء، وهضمته، وعبّرت عنه في “جلباب عربيّ أصيل.” هذه التّفاسير لم تأتِ من ثقافات بعيدة عن ثقافة الكتاب المقدّس، فالتّراث السُّريانيّ تراث شرقيّ في الأساس، وهو أقرب ما يكون للفكر العبريّ-الآراميّ، فكر المسيح والتّلاميذ والكنيسة الأولى، فالسُّريانيّة هي الاسم الذي أخذته اللّغة الآراميّة في القرن الرّابع الميلاديّ، عندما انتشر الإيمان المسيحيّ في بلاد ما بين النهرين، وبخاصّة في مدينة الرّها. ولن تأت إلينا هذه التّفاسير من ثقافات غريبة، بل هي نابعة من قلب الثّقافة العربيّة، التي تشكّلنا بمعطياتها، والتي نعيش فيها.
مهما يكن من أمرٍ، فالأمر الذي يدعو للأسف هو أنّ التّراث العربيّ المسيحيّ، وبخاصةً التفسيريّ، مازال مجهولًا، غير محققٍ، غير معروفٍ، غير مدروسٍ، وبالتّالي غير محمودٍ. ولا تزال هذه الأصوات التّفسيريّة العظيمة التي جاهدت الجهاد الحسن غير مسموعٍ لها—لا عن قصد، بل عن جهل وعدم إدراك. إنّ احتياج الكنيسة العربيّة الآن هو الوقوف على هذا الكنز المكنون من كتابات عربيّة مسيحيّة في شتّى مجالات العلوم الكتابيّة واللّاهوتيّة والعلميّة والفلسفيّة. إن دراسة هذا التّراث والتّنبير عليه وعلى الدّور المحوريّ الذي لعبه العرب المسيحيّون في بناء الحضارة العربيّة-الإسلاميّة في مراحل تكوينها في العصور الوسطى لهُوَ مسألة وجوديّة، تؤكّد على تأصّل العرب المسيحيّين في الشّرق، وتشدّد على أنّ المستقبل لا يتشكّل من دونهم.