
الكاتب
القس بيتر سامي كرم
راعى الكنيسة الإنجيلية بطهنشا
سنودس النيل الإنجيلي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
منذ زمن بعيد عرف الإنسان عبادة الأوثان، وذلك لأنه لم ير الله، لكنه رأى الآلهة الوثنية، لأنها مرئية. وعلى شاكلة هذه الفكرة وجدنا الإنسان يترك المعنى ويتعلق بالمادة.
الله لا يُرى، لأن الله لم يره أحدٌ قط. لكنَّ الآلهة الأخرى مادية ويمكن رؤيتها. لذا فمن السهل الجري ورائها والتبخير لها وعبادتها لأن الإنسان يميل لما تراه عينه البشرية.
وحتى بعد ما عرف الإنسان الله الخالق انحاز الإنسان عن عبادته، وعبد الآلهة الوثنية. وهذا ما حدث في قصة عبادة الشعب للعجل الذهبي. لقد كان الرب متمثلًا في شخصية موسى الذي يقود الشعب لمعرفة الرب وطاعة وصاياه، ولكن بمجرد أن تأخر موسى على الجبل لجلب لوحي الشريعة زاغ الشعب سريعًا وراء الآلهة المرئية وطلب من هارون أن يصنع لهم العجل الذهبي ليعبدوه. وهذا ما حدث، لأن البشر يميلون دائمًا لكل ما هو مرئي ومادي أمام أعينهم ومحسوس وملموس بأيديهم.
إن المادة أكثر جاذبية من المعنى: الأمثلة على ذلك كثيرة، نجد ذلك مثلًا في قصة الحية النحاسية. حينما تزمر الشعب على الرب وعلى موسى، فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا» (عدد21: 8) وكانت الحية النحاسية بمثابة الدواء الذي قدمه الرب لعلاج مشكلة التزمر والعصيان والخطية. وبالطبع استخدم الرب يسوع الحية النحاسية المعلقة على الراية كرمز لتعليقه على عود الصليب. إذ يقول الرب يسوع: “وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.” (يو3: 14ــ 15) هنا التشبيه الروحي واضح والرب يسوع قد صرَّح به. فالحية النحاسية في العهد القديم تعني طاعة الأمر الإلهي وفي العهد الجديد الإيمان بصليب المسيح وفداءه في الصليب. ولكن نجد الإنسان يترك المعنى ويعبد المادة، وهو ما حدث بالضبط. إذ ترك الشعب المعنى المنشود من وراء الحية النحاسية وعبد الحية النحاسية نفسها إلى أن جاء الملك حزقيا “وَسَحَقَ حَيَّةَ النُّحَاسِ الَّتِي عَمِلَهَا مُوسَى لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِلَى تِلْكَ الأَيَّامِ يُوقِدُونَ لَهَا وَدَعَوْهَا «نَحُشْتَانَ».(2مل 18: 4) تركوا المعنى وعبدوا المادة.
حتى أن الرب نفسه عندما أنهى حياة موسى دفنه الرب بنفسه، (تث 34: 6) لأنهم قد يقدسون جسده ويعبدونه. وهذا ما نجده في رسالة يهوذا، حيث تصارع الشيطان والملاك ميخائيل مُحاجًا عن جسد موسى، حتى انتهره الملاك باسم الرب. (يهوذا 1: 9) إذ كان الشيطان يُريد أن يأخذ جسد موسى كي يقدسه اليهود ويعبدونه. كانوا سيتركون وصايا الرب المعطاة بواسطة موسى، ويعبدوا موسى نفسه.
كذلك عندما قدَّم الرب يسوع الخبز والكأس كان المقصود هو المعنى من وراء ذلك، والمعنى بالطبع معروف للجميع هو تذكر صليب المسيح، والشكر والتأمل في عمل الصليب. وكالعادة كان المسيح في إنجيل يوحنا يتكلم روحيًا، لكن الشعب فهم كلامه ماديًا. حدث ذلك عندما قال المسيح لليهود: “أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ.” (يو6: 51) كان المسيح يتكلم عن جسده روحيًا، لكن للأسف فهم اليهود أنه يقول لهم كلوا جسدي ماديًا. “فَخَاصَمَ الْيَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«كَيْفَ يَقْدِرُ هذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟” (يو 6: 52) وبالطبع لم يدرك اليهود هذا الكلام، حتى أن التلاميذ أنفسهم قالوا: “إن هذا الكلام صعب! من يقدر أن يسمعه؟” ع 60 وكان رده عليهم: “اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلاَ يُفِيدُ شَيْئًا. اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ.” (يو 6: 63) إذًا هو هنا لم يتكلم عن جسده المادي ولا عن تحويل الخبز إلى جسدٍ مادي، بل يتكلم عن الأمر من الناحية الروحية المعنوية من خلال ممارسة فريضة العشاء الرباني، لأن الكلام هو روح وحياة.
ولقد كان الهدف من وراء الرموز الدينية المسيحية كالصليب وصور القديسين وتماثيلهم هو معناها بالطبع. ولكن لسبب الميل الطبيعي لكل ما هو منظور، فقد قَّدسَ المسيحيون هذه الرموز المادية وسجدوا لها وعبدوها ونسوا أن معانيها الروحية أهم بكثير من أشكالها المرئية. ولكن كلما نضج المؤمن المسيحي أكثر، كلما تأمل في جمال هذه الصور ومعناها أكثر من شكلها المادي. وكلما نضج المؤمن أكثر كلما أدرك أننا لسنا في حاجة إلى صباغة هذه الأشياء وعمل صور لها، بل إننا في حاجة إلى شرح معانيها السامية، والتبشير بها.
ومن أهم الرموز المسيحية التي نقدسها ونهتم بها هو الكتاب المقدس “الكتاب نفسه كمادة ورقية” نقدس الكتاب المقدس المادي، والبعض يظن أن الكتاب يمكن أن يحفظه من شرورٍ كثيرةٍ. فالبعض يضعه تحت الوسادة وهو نائم، كي لا يحلم بأحلامٍ مزعجة، والبعض يضعه في تابلوه السيارة، كي يحفظه من الحوادث، والبعض يقبله ويضعه على المنضدة. ولكن الأهم من ذلك هو قراءة هذا الكتاب وتطبيق الكلمة في الحياة العملية المعاشة أكثر من تقديس أوراقه. لأن تقديس كلمة الله الحقيقي هو بالعيش بها وليس بالاحتفاظ بها تحت الوسادة أو في السيارة أو على المنضدة، إن البركة الحقيقية في الكتاب المقدس تأتي من قراءته بصورة منتظمة ومحاولة تطبيق كل كلمة فيه، فإن قراءتنا له تهدي نفسونا من الضلال كما هو مكتوب: نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. (مز 19: 7)
أيضًا قد يحسب البعض قيمة الإنسان فيما يمتلك، ولذا يردد الكثيرون منا المثل الشعبي الشهير “معاك قرش تسوى قرش” هذا يعني أن قيمة الإنسان تكمن فيما يملك. ولكن إن فكرنا جديًا في هذا، نجد أن قيمة الإنسان في جوهره، وليس فيما يمتلك. فالإنسان أغلى بكثيرٍ من كل كنوز العالم، الإنسانية في معناها أغلى بكثير من كل التقييمات المادية.
المعنى أم المادة!: إن المعنى فكرة والمادة أمر محسوس. لكن لا شك أن الفكرة تعبر عن مبدأ أو معتقد. وليس من الضروري أن تُتَرجَم في الواقع لشيءٍ محسوس أو ملموس. لكن المشكلة هو ترك المعنى والتمسك بالمحسوسات دون الرجوع للمبدأ الذي هو أصل وجود الشيء ومعناه. فالنقود مثلا كمادة ورقية مصنعة ليس لها قيمة في ذاتها، لكن قيمتها في معناها. ومعناها هو أنها مجرد وسيلة نستطيع العيش بها. كذلك يحتاج كل إنسان مفكر أن يفكر في القيمة المعنوية أكثر من القيمة المادية.
إن هذا المقال لا يعني أن نُهمل الأمور المادية ونحتقرها، بالعكس، هناك أمور لا غنى عنها لأنها موجودة في الطبيعة. والطبيعة نفسها تحدث بالمعنى الذي هو مجد الله. (مز 19: 1) فلا يجب أن نقدس المادة ونجعل منها إلهًا، أو أن نحتقر المادة ونعتبرها نجسةً. ولقد تم اعتبار المادة نجسة بالفعل بواسطة الهرطقة الغنوسة التي اعتبرت الجسد الإنساني خطية. لدرجة أن البعض كان يجاهد ضد الخطية (الجسد المادي) بجلده وتعزيبه وربطه، و… إلخ. إذًا فكلا الأمرين تطرف، فلا يجب تقديس المادة ولا تحقيرها، لكن وضعها في قيمتها الطبيعية التي باركها الرب بها، إذ أن المادة جميعها خلقها الله، وقد أبدع في خلقه كل شيء.
إذًا فلا يجب أن نتطرف في كلا الجانبين تقديس المادة لدرجة تأليهها أو تحقير المادة لدرجة أذيتها. وطبعًا، من أهم الأمور المادية التي خلقها الله هي أجسادنا التي نستطيع أن نمجد الله فيها. إذ أنها مقدسة لأنها هيكل للروح القدس. فإن العلامة التي نعرف من خلالها أن الرب قدس أجسادنا المادية هي تجسده في شبه جسد الخطية. لقد قدَّس الرب يسوع الجسد الإنساني بمجيئه في الجسد، لأنه شابهنا في كل شيء ما عدا الخطية. لذا فهو بالتجسد أعلن لنا أنه يمكن تقديس أجسادنا وتمجيد الله من خلالها، كما هو مكتوب: “لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ للهِ.” (1كو 6: 20) إذًا فأجسادنا ليست حقيرة كما يظن البعض، بل هي مقدسة بسكنى الروح القدس فيها، فلا يجب أن نهمل أجسادنا، بل نهتم بها ونقوتها ونربيها. فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ. (أف 5: 29). فالمعنى من وراء أجسادنا هو أنها هيكل للروح القدس.
لكن الأمر الأكثر أهمية هو أننا نحتاج إلى إدراك ووعي أكثر لأهمية معاني الأشياء وليس أشكالها المصنوعة. نحتاج إلى الحديث أكثر عن قيامة المسيح والتبشير بالقيامة أكثر من زيارة قبر المسيح، نحتاج إلى الحديث عن صليب المسيح أكثر من ارتدائه وعمله وشمًا. نحتاج أن نختبر الصليب والقيامة في حياتنا الشخصية أكثر من رؤيتهم أمام أعيننا في صورٍ أو أشكالٍ معينة. نحتاج أن نتأمل في صليب المسيح وأن نشكره أثناء التقدم للتناول من عشاء الرب. نحتاج أن ندرك معنى وقيمة كل كلمة كُتِبَت في كلمة الله، لأنه كُتبَ لأجل تعليمنا. نحتاج أن نعرف المعاني السامية التي تعلمنا إياها كلمة الله، وأن نخبر بها ونبشر بها بين الأمم.