
القس/ أمير اسحق
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
الرسالة التي اعطاني الرب أن أقدِّمها في كنيسة عين شمس، صباح اليوم، بدعوة من الزَّميل الفاضل القس عيد صلاح. شكراً حضرة القسيس المحبوب، نلت بركة بوجودي بينكم. والرب يبارك هذه الرسالة.
((ضحك ولعب..))
(متى 18: 1-4/ مزمور 126: 1-3/ أمثال 31: 24-26)
للحياة أربعة أركان أساسيَّة، مَناشِط ومَخاوف ومَعاني ومَباهِج. مَناشِط الحياة ثلاثة: الفِكْر، والفِعْل، والقَوْل. ومَخاوف الحياة ثلاثة: الفَشَل، والشَيْخوخَة، والمَوْت. ومَعاني الحياة ثلاثة: تَحْقيق الذَّات، تأكِيْد القُوَّة، تأدِيَة الرِّسالَة. ومَباهِج الحياة ثلاثة: الَّلعِب، والضَّحِك، والحُبّ. أودُّ هنا أن نتأمَّل في عُنصرَيْن مِن مَباهِج الحياة الثلاثة، الَّلعِب والضَّحِك. فنأتي إلى كلمة الله لنَحْيا ونَفْرح ونُسَرُّ بها، ونَتَعلَّم فُنون تِلْك الحياة رُغْم صُعوباتها وضغوطها، ونتعلَّم كيف نتغلَّب على مآسيْها ومَتاعِبها.
الحياة تبادُل بَيْن اللعب والعَمَل، بَيْن الضحك والبُكاء، بَيْن الحُبِّ والكُره. صحيح أنَّنا لَمْ نَقْرأ في رواية الإنْجيل أنَّ يسوع لَعِبَ أو ضَحِك، مع أنَّنا نقرأ أنه بكى ثلاث مرَّات، ونقرأ كثيراً أنَّه أحَبَّ إلى المُنتهى، إلاَّ أنَّنا على يقين مِنْ أنَّه كان، مِن الطَّبيعي ومِن الضَّروري، قد لَعِب وضَحِك مع الأطْفال، وإلاَّ ما اقْتَربوا منه حتَّى أراد التَّلاميذ إبْعادهم عنه. لابُدَّ أنَّه كان يَلْعَب ويَضْحَك معَهم، وإلاَّ ما تَجَرَّأوا على الاقْتراب مِنْه. ولابُدّ كان وَجْهَه بَشوشاً ضاحِكاً، حتَّى اقْترب مِنْه، بلا خوفٍ، المهمَّشين والخُطاة.
قال في إحدى التَّطْويبات: “طوباكم أيُّها الباكون، لأنَّكم ستَضْحَكون” (لوقا 6: 21). ويقول المرنِّم: “حينئذٍ امْتلأت أفْواهُنا ضَحِكاً وألْسِنَتُنا ترنُّماً” (مزمور 126: 2). ويقول الحكيم عن المَرْأة الفاضِلَة التي هيَّأت احْتياجاتها واحْتياجات أهْل بَيْتها: “العِزُّ والبَهاءُ لباسُها، وتَضْحَكُ على الزَّمَن الآتي” (أمثال 31: 25). فالكتاب المقدَّس يُعلِّم أنَّ الضَّحك أمرٌ مَرْغوب متى جاء في أوانِه، ومن دون شماتَةٍ إذا أُصيبَ أحَدٌ بضَرَر. فيُحَذِّر الحكيم: “لأنَّه كصوت الشَّوك تحت القِدْر هكذا ضَحِك الجُهَّال” (جامعة 7: 6)، في هذه الحالة يكون الحُزن خَيْر مِن الضَّحك (جامعة 7: 3).
الإنسان يلعب ليحيا طَفْلاً، ويَضْحَك ليَبْقى شاباًَ على الدَّوام. عندما توفي الفَيلسوف الإنْجليزي (برتراند رَسِل) عام 1970 كتَبَت إحْدى الصُّحف البريطانيَّة تقول: “ماتَ بالأمْس شابٌ في الثامِنَة والتِّسْعين مِن عُمْره”! لأنَّه عرف حتَّى آخِر لَحْظة في عُمره أنْ يبقى في حَيويَّة الطُّفولَة، ويَنْعَم في شَيخوخَتِه بكُل مَلَذَّات الشَّباب، فتَمتَّع بكامِل قواه الجَسديَّة والعَقْليَّة. كان فَيْلسوفاً ساخِراً، مَزَجَ الجَدَّ بالهَزْلِ، والعَمَلَ باللعبِ. كتب مَقالاً بعُنوان: “في مَدْح الكَسَل”، لَيْس انْتِقاصاً مِن قِيمَة العَمل والجَهْد، بَلْ نقداً للحَياة الشَّاقَّة الشَّقِيَّة التي لا تُوفِّر لأصْحابها وَقْتاً للتَّنَعُّم والاسْتِمْتاع واللعب والضَّحك. لذلك، نَقَد بشِدَّة الحياة المَدنِيَّة المعاصِرَة التي جَعَلت مِن الإنْسان آلَةً، يَعْمل ويُنْتِج دون أنْ يَسْتَمْتع بما أنْتَجه، ودون أنْ تُمَهِّد له السَّبِيْل للَّهْو واللعِب والضَّحك. لذلك قال: “حياة اللهو واللعب والضَّحك هي حياة السَّعادة والنَّشْوَة، أمَّا حياة العَمل والإرْهاق فهي حياة التَّوتُّر والكآبَة”.
(1) اللعب
قام اللعب بدورٍ أساسٍ في الحياة الإنسانيَّة، قَبْل أنْ يُصْبِح الإنسان عامِلاً. فاللعب أسْبَق على العَمَل في الحياة الإنسانيَّة، وكان للعب دورٌ أساسٌ في المهارات العمليَّة، التي كان لها دَوْرٌ كبيرٌ في تَرْقِيَة الإنسان البِدائي. لَقَد انْتَقَل الإنْسان البِدائي مِن (ملكوت اللعب) إلى (ملكوت العَمل)، فإنَّ مظاهِر التَّسْلِيَة قَدْ سَبَقَت الأنْشِطة النَّفْعِيَّة. حيث كانت عمليَّات الغَرْس والرَّي في الأصْل مُجَرَّد مُحاولات على سَبِيْل اللهو واللعِب، ثُمَّ أصْبَحَت أنْشِطة نَفْعِيَّة. وأدوات الزِّيْنَة كانت أسْبَق في الظُّهور مِن أقْمِشَة الملابس. والقَوْس كانَت آلَة موسيِقِيَّة قَبْل أنْ تُصْبِح سِلاحاً. فَلا نُخْطئ إذا قُلْنا إنَّ اللعب كان أكْثَر أعْمال الإنْسان نَفْعاً له.
وإذا عُدْنا إلى حياة الأطْفال سَوْف نَكْتَشِف أنَّ اللعب هُو أكْثَر الأشْياء جِدِيَّة في حياتهم، وفي صِياغَة شَخْصيَّاتهِم. وقَد حاول عُلماء النَّفْس ورِجال التَّربية تَفْسير تلك الظَّاهِرة. فرَأى بعْضٌ أنَّ اللعب للطِّفْل هو بمَثابَة تَمْرين للأنْشِطَة التي سَيقوم بها عندما يَكْبر. فهو يتعلَّم عن طريق الألْعاب الحَركِيَّة التي يَسْتَمْتِع بها ولا تُرْهِقه. فالدُّمْيَة، عِنْد الطِّفْل، لَيْسَت مُجرَّد لعْبة مَصنوعة مِن البلاستيك أو القُماش، لكنَّها مَخْلوق عَجِيْب يَقُوم بمُهمَّة التَّعْويض والتَّحْرير مِن قيود الواقِع، والانْطلاق في عالَم الخَيال. والحَيوانات والطُّيور التي تتكلَّم وتتعايش، في قِصَص الأطْفال، لَيْسَت مُجرَّد خيالات، لكنَّها ملكوتٌ سِحْري تُصْبح فيه تِلْك الحَيوانات والطُّيور صَديقَةً له. ويَرى بَعْضُ الباحثين أنَّ العلاقة وثيقَة جدَّاً بَيْن اللعب والنَّشاط الفَنِّي في حياة الأطْفال، ليَتَحوَّل عِنْد بُلوغهم إلى إبْداعات فنِيَّة، إذا أُتِيْحَت الفُرصَة لتَنْمِيَة تلك الأنْشِطَة. مِنْ هذا المُنْطَلَق كتَب العُلماء في وظائف اللعب كإجْراءٍ وقائي للصِّحة النَّفْسيَّة للأطْفال، وكعلاجٍ مَوْقِفي لكَثِيْر مِن المشاكِل التي يُعاني مِنْها الأطْفال.
أمَّا اللعب في حياة الكِبار فلا يَقِلُّ أهمِيَّةً عَنْه في حياة الصِّغار. ألَمْ نتمتَّع، كآباء، باللعب بألْعاب أطْفالنا، معهم أو بمُفردنا؟ عِنْدما يَلْعَب الأطْفال بَعْض الألْعاب التَّمْثيلِيَّة ألا يقولون لبَعْضِهم: “أنْت ستكون طَبِيْب، وأنا سأكون مُهَنْدِس، وأنْتِ ستَكونين أمَّاً… وهَكذا”؟ أمْثال تلك الأدْوار في اللعب لا تَدلُّ فقَط إلى رَغباتهم الخَيالِيَّة، بَل تُشِيْر إلى ما يُمْكن أنْ يكون عَلَيْه مُسْتَقْبلهم. هذا هُوَ دَوْر الأنْشِطة الفَنِيَّة “الإيْهام الإرَادِي”.
لمْ يكُن الإنسان إنْساناً بمَعْنى الكلمة إلاَّ في الجنَّة قَبْل السُّقوط. حيث كان يَنْعَم بالانْطلاق واللهو واللعب والضَّحِك، وعِنْدما سَقَط طُرِد مِن تلك الجنَّة إلى عالَم الجَهْد والعَرَق والكَدّ والتَّعَب والشَّقاء. لكِن أصْبَحَت لدَيْه الفُرْصَة أنْ يَسْتَكْمل إنْسانِيَّته الحقيقيَّة ليَعود إلى جَنَّته، عِنْدما يعود إلى حياة الأولاد، حياة اللعِب والضَّحك قَبْل ومع العمل والجَدّ. الأمر الذي أكَّد عليه المسيح: “إنْ لَمْ تَرْجِعوا وتَصِيْروا مِثْل الأولاد، فَلَنْ تَدْخُلوا ملكوت السَّموات”. فمَن يَعْرف كَيْف يَلْعَب كطفلٍ سَوْف يَبْقى شاباً، ويُحَقِّق إنْسانِيَّته الحَقيقِيَّة، ويعود إلى الجنَّة.
(2) الضَّحك
هل نَضْحك لأنَّنا مُبْتَهِجون، أمْ أنَّنا مُبْتَهِجون لأنَّنا نَضْحَك؟ لماذا يَضْحَك الإنْسان؟ وما الذي يَجْنِيه مِن الضَّحِك؟ إنَّ البَشَر وَحْدَهم هُم الذين يَضْحَكون مِنْ بَيْن مخلوقات الله. فالأشْجار لا تَضْحَك، والحيوانات لا تَضْحَك، الإنْسان فقَط هو الذي يَضْحَك ويُقهقِه. الكِبار يَضْحَكون، والأطْفال يَضْحَكون حتَّى قَبْل أنْ يتَعلَّموا الكلام. فالضَّحِك ظاهِرَة إنْسانِيَّة، أنْعَم بها الله على البَشَر وَحْدَهم. لأنَّ الإنسان هو أكْثَر المَخلوقات إحْساساً بالألَم. فالضَّحِك والكوميديا والنُّكْتَة والمَرَح والابْتسام، كلَّها ظواهِرَ نَفْسِيَّة مِن فَصيلَة واحِدَة، تَصْدُر عن الطَّبيعَة البَشريَّة المُتناقِضَة، التي سُرعان ما تَمَلُّ مِن حياة العُبوس والجَدّ، فتَلْتَمِس اللهو والمَرَح لتُرَفِّه عن نَفْسِها، وتَبْحَث في الفُكاهَة عَن مَنْفَذ للتَّنْفيس عن آلامها. وكثيراً ما تكون دواءً مُطَهِّراً يزِيل مِن النَّفْس هُموم اليَأس والقَلَق والتَّشاؤم.
قَد يكون الضَّحِك تَعْبيراً عن حالَة الابْتهاج والسَّعادة. فكما أنَّ الكَلْب المسَرْور يَهُزّ ذَيْله، فإنَّ الإنسان المسْرور يُحَرِّك فَكَّه. لكِن لَيْس بالضَّرورة أنْ يَضْحَك الإنْسان عِنْدما يكون مَسْروراً. ألا يَحْدُث أحْياناً أنْ نَبْكي مِن شِدَّة الفَرَح؟ إلاَّ أنَّنا في المُعْتاد نَبْتَسِم أو نَضْحَك للتَّعْبير عَن حالَة سرورنا. هَذه ظاهِرَة لا يتَعَلَّمها الإنسان، فهُو مَوْلود بِها. إنَّ حالة السُّرور لها طابِع ديناميكي يَجْعَل مِنْها طاقَة زائِدَة تَبْحَث لها عَنْ مَنْفَذ. لذلك، فإنَّ حالَة السُّرور تَمُرُّ مِن خلال أعْضاء النُّطْق وتَتَحوَّل إلى حَرَكة سَرِيْعَة التَّردُّد، كما تَنْشَط مَعها عَضلات التَّنفُّس. فإنَّ الطَّاقَة الزَّائِدَة النَّاتِجَة عن حالَة السُّرور تَجِد لها مَنْفَذاً مِنْ خِلال ظاهِرَة صَوْتِيَّة تَنَفُسِيَّة، وهو ما نُسَمِّيه “الضَّحِك”. نحن لا نَعْرف بالتَّحْديد لماذا تأخُذ أصْوات الضَّحك ذلك الطَّابع التَّردُّدي. يَرى بَعْضٌ أنَّها حالَة على النَّقِيْض مِن حالة الحُزْن، فالتَّعْبير الصَّوتي عن الحُزن أو الألم يكون بصَوْتٍ مُسْتَمِر غَيْر مُتَقَطِّع، بعَكْس صَوْت الضَّحِك.
ويَذْهب عدد كبير مِن الباحثين إلى أنَّ الضَّحِك له آثارٌ فسْيولوجيَّة لا تَقِلّ أهمِيَّة عن آثاره السَّيكولوجيَّة. فالضَّحك يَرْفع ضَغْط الدَّم، فيُرْسِل إلى المُخّ والرَّأس سَيْلاً مُتَدفِّقاً مِن الدَّم، كما يُحَرِّك عَشَرات مِنْ عَضَلات الوَجْه. لذلك، يحمرُّ الوَجْه عند الضَّحك. وهكذا يَرْتبط الضَّحك بعمليَّة “الدَّغْدَغَة”. فهُناك مناطِق حسَّاسة جداً في جِسْم الإنْسان، يَكون في اسْتِثارتها ما يُولِّد الضَّحِك. ويُلاحَظ أنَّه لابُدّ مِن أنْ يقوم بالدَّغْدَغَة شَخْص آخَر حتَّى يَنْفَجِر الإنْسان في الضَّحِك. ممَّا يؤكِّد وجود عُنْصُر سيكولوجي في عمليَّة الدَّغدغة الفِسْيولوجِيَّة.
أما الوظيفة الأساسِيَّة التي يُؤدِّيها الضَّحك فهي تَخْفِيْف أعْباء الحَياة، وتَخْليْصنا، ولو إلى حِيْن، مِن ضُغوط الحياة اليَوْمِيَّة. فالمُتْعَة التي يَشْعر بها الإنسان في الضَّحك والفُكاهَة تعود إلى شُعوره بالتَّحرُّر مِنْ أعْباء الواقِع. قال أحَدهم: “الأصْل في الضَّحك هو الشُّعور بالتَّفوُّق والتَّميُّز”. ويرى بَعْضٌ أنَّ المواقِف الفُكاهِيَّة، على اخْتلاف أنْواعها، فِيْها ارْتدادٌ إلى حالَة الطُّفولة، وكأنَّ البالِغ يُريد أنْ يَعود إلى مَرْحَلَة سابِقَة مِن مراحِل نُموِّه النَّفْسي.
يحذِّرنا المسيح من العبوس “لا تكونوا عابسين كالمرائين”، ويدعونا لنعود إلى حياة الأولاد. قِسْطٌ مِن اللعب والضَّحك، مع كثير مِن العَمَل والجَهْد، لتَحَمُّل أعْباء الحياة، فتُصْبِح جميلة ومُنْتِجة ومُمتِعة، وتستحقُّ أن تُعاش. فالحياة ليست البَحْث عن وسائل المعِيْشَة، بَل: الإنْتاج أكْثَر مِن الاسْتِهلاك، والاسْتِمْتاع أكْثَر مِن حَمْل الهُموم، والارْتِقاء مِن مُسْتوى الإنْسان إلى مُسْتوى الإنسانِيَّة. الحياة واقِعٌ لَيْس عَلَيْنا إلاَّ أنْ نَتَقَبَّله لأنَّنا وَجَدْنا أنْفُسَنا أحياءً دون أنْ يكون لإرادَتِنا دَخْل في ذلك. لقَد أبْحَرَت سَفِيْنَة الحياة، ولَيْس في وسْعِنا إلاَّ أنْ نَمْضى في هَذِه السَّفِيْنَة. فليتَ صلاتنا:
“امْلأ يا رَبُّ أفواهنا ضَحِكاً وألْسِنتُنا ترنُّماً.
وامْلأ قلوبنا بالضَّحك على الزَّمن الآتي”.
مع محبتي وصلاتي لأجل القرَّاء الأعزَّاء
القس أمير اسحق