
القس/ أمير اسحق
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
الرسالة التي أعطاني الرب فرصة أن أقدِّمها صباح اليوم/ الأحد، في الكنيسة الإنجيلية في سراي القبة، بدعوة المحبوب القس هاني جاك راعي الكنيسة. شكرًا حضرة القسيس على فرصةٍ نلتُ فيها بركة بينكم.
((يثمرون في الشيبة))
(مزمور 92: 13-15)
اعتدنا، خاصة في مُجتمعنا الشَّرقي، أنْ نَنْظُر إلى التَّقدُّم في العُمْر على أنَّه مرحلة كئيبة، لا يفعل المَرْء فيها شيئًا سوى انتظار لحظة الوداع. هذا الفِكْر كفيل وحده بأنْ يجعل المُسِنّ يُسبِّب مشاكِل لنفسه ولأهله. لكن الحقيقة أنَّ هذه الفِكْرة خِدعة كاذبة، تَحرِمنا مِن الاستمتاع بمرحلة عُمريَّة هي بِحَقّ مرحلة العُمْر البَهيج المُمتِع المُثمِر. لذا، علينا أنْ نَنْفُض غُبار تلك المفاهيم الخاطئة عن أذهاننا، ونعرف الحقيقة المؤسَّسة على تعاليم كلمة الله.
كيف نَجْعَله عُمْراً بَهيجاً؟
السَّنوات الأخيرة مِن العُمر يمكن أنْ تكون مُبهِجَة ومُثمِرَة، واستمرار النَّشاط في الحياة هو المَطْلَب الرَّئيس لشيخوخة مُبهِجة وناجِحَة. تقدُّم العُمر يُشْبِه الانزلاق على الماء، عندما تُبطئ أو تتوقَّق، فإنَّك تغوص في الماء. لذلك، استَمِرّ في الانهماك بالحياة. كانت العلامة المُميِّزة لحياة “كالب” (عدد 13-14/ يشوع 14) ترتَكِز على هذه الفِكْرة. فعندما وَصَل إلى الخامِسَة والثَّمانين مِن عُمره، أظهَر تفاؤلاً كأنَّه شابٌ في العشرين. وقال: “لَمْ أَزَل اليوم مُتَشَدِّداً كما في يوم أرْسَلَني موسى” (يشوع 11:14). كان مُنْهَمِكاً في الحياة في شبابه، وفي رجولته، وكذاك في شيخوخته. إنَّ نشاطه المُستمرّ في الحياة، وتفاؤله بأنَّه سوف يُحقِّق المزيد، كانا أمرَيْن ضروريَّيْن لإطالة عُمره.
خَمْس نصائح ليَمْتدّ عُمْرَك
(1) امتنِع عن التَّدخين نهائيًّا، فهو المسؤول عن 20% مِن وفيَّات مرضى القلب و50% مِن وفيَّات مرضى السَّرطان.
(2) تناول أغذية مُنخَفِضَة الدَّسَم لتقليل فُرَص تصلُّب الشَّرايين وأمراض القلب.
(3) استخدم عضلاتك وإلاَّ ستفقِدها. صحيحٌ أنَّنا في التَّمرينات الرِّياضيَّة، كالمشي، نُجْهِد أجسادنا، لكن لنُبْقي أعضاءنا جيِّدة ووظائفها صحيحة. أيضًا استخدم ذهنك وإلاَّ ستفقده. فكلَّما استخدمتَه، كلَّما عمل بطريقة أفضل، اسمع شيئًا بتركيز (عظة، نشرة أخبار)، ثمَّ انقله شفاهًا لشخص آخر، تتقوَّى عضلات عقلك.
(4) اضْحَك مِن قلبك. إنَّنا لا نتوقَّف عن الضَّحك لأنَّنا كبُرنا في العُمر، بل تقدَّمنا في العمر لأنَّنا توقَّفنا عن الضَّحك. الضَّحك يُبعِد عنك الطَّبيب، ويجعل جميع أوقات حياتك أكثر احتمالاً.
(5) ثَبَتَ بالإحصاءات أنَّ الذين لديهم إيمان حقيقي، يميلون إلى الحياة مُدَّة أطول مِن الذين ليس لديهم ذلك الإيمان. وهناك أربعة أسباب لصحَّة هذه الحقيقة:
[أ] يرى المؤمنون أجسادهم المادية هياكل لروح الله، وأنهم مؤتمنون عليها، الأمر الذي يُحدِث فَرْقاً هائلاً في كيفيَّة تعامُلهم مع أجسادهم (1كورنثوس 17،16:3).
[ب] يثِقون في مشيئة الله الصَّالِحَة وقُدْرَته التَّامَة على كلّ شيء، رُغم العوائق التي تعترض حياتهم (رومية 28:8). ولا يخشون الموت، لأن عندهم رجاء حي فيما بعد الموت.
[ج] يَثِقون أنَّهم جُزء مِن عائلة كبيرة مُمْتَدَّة، عائلة المسيح، فيتغلَّبون بذلك على الشُّعور بالوحدة.
[د] يَسْتَمرُّون في انشغالهم بالكنسيَّة وبخدمة الرَّب. أثبَتَت الأبحاث أنَّ الانهماك في الحياة الرّوحيَّة والخدمة الكنسيَّة يؤدِّي إلى مقدار أقَلّ مِن العَجْز الجسدي، ونِسْبة أقلّ مِن الكآبة. فالحياة تُشْبه ركوب الدَّرَّاجَة، لَن تسقط مِن عليها إلاَّ إذا توقَّفْتَ عن تحريك البَدَّال.
مُميِّزات الشَّيخوخة
يقول الحكيم: “اذكُر خالقك في أيَّام شبابك، قبل أن تأتي أيَّام الشَّرِّ أو تجيء السُّنون، إذْ تقول ليس لي فيها سرور” (جامعة 1:12). هذه الكلمات توحي للوهلة الأولى بأنَّ سنوات العُمر الأخيرة قاسية وصَعبة. إلاَّ أنَّ سليمان هنا لم يكُن يرسم صورة كئيبة لتلك الحياة، بل أراد أنْ يدعو الشَّباب لخدمة الرَّب والتَّعرُّف به، قَبْل أنْ تأتي الأوقات الصَّعبة، بحسب النَّظرة العامة، التي يصعُب فيها على الفرد القيام بأعمالٍ كان بإمكانه القيام بها في عُمر الشباب. ومهما يكُن مِن أمرٍ، فهناك مُميِّزات للشَّيخوخة، هذه بعض منها، وفيها دُّعابَة لطيفة. ففي هذه المرحلة:
+ تنتهي مُعظَم صراعات حياتك على كافة الأصعدة، العاطفية والوظيفية… الخ.
+ تَتَحَرَّر مِن ارتباطِك بالعمل اليومي، ممَّا يُتيح لك وقتًا أكبر يمكن الاستفادة مِنه في أعمال إيجابية.
+ إنَّ أسرارك مع أصدقائك ستكون في أمان، لأنَّهم لن يستطيعوا تذكُّرها.
+ اطمئن، فالذين يَخْطفون أيَّ شخص طَمَعاً في فِدْيَة، لن يهتموا بخَطْفِك.
+ تكون مَفاصِلُك أكثر دِقَّة مِن الأرصاد الجوية التي تتنبأ عن حالة الطَّقس.
+ تبدأ استثماراتك في التَّأمين الصِّحِّي تُحقِّق أرباحها.
+ إنَّها فُرصة رائعة لتَضُمّ مواهبك إلى عواطفك، وتقوم بخدمات مُتنوِّعة للآخرين، الأبناء أو الأحفاد أو الأقرباء أو الأصدقاء، أو الخدمة العمليَّة في الكنيسة.
+ هذه فرصة كبيرة لتُركِّز على داخلك، وتقوم بتهذيب شخصيَّتك، دون الاهتمام باللبس والشكل. لذلك يقول بولس: “لا نفشَل، بل وإنْ كان إنسانُنا الخارج يَفْنَى، فالدَّاخل يَتَجدَّد يوماً فيوماً” (2كورنثوس 16:4). فالحياة الجسدية تذبُل وتضعُف لا محالَة، في حين تستطيع الحياة الدَّاخلية أنْ تستمرّ في النموّ والتَّجدُّد.
كيف نرعى المُسِنّ؟
(1) معرفة الوصايا الإلهيَّة
أ. أوَّل الوصايا في هذا المجال: “أكرم أباك وأمَّك”. يتَّسع مفهوم الوصية ليشمل كل من هُم في مكانة الوالدين.
ب. “لا تزجرُ شيخًا بل عظه كأبٍ” (1تيموثاوس 5: 1-2). أي لا تُلوِّمه بشِدَّة، ولا تُعامله بجَفاء، ولا تُعاتبه بقسوة.
ج. “مِن أمام الأشْيَب تقوم وتَحْتَرم وجْه الشيخ، وتَخْشَ إلهك” (لاويين 32:19). لا تَجْلس والمسِنّ واقف، وعندما تجلس كُنْ مُهَذَّباً في جلسَتِك في محضره. وعندما تسير برفقة الكبير، احْمِل عنه أحماله، وقدِّمه على نفْسِك في الطَّريق. افْعَل ذلك خِشْيَةً لله، عالماً أنَّه يراك وسوف يُكافئك.
(2) معرفة الخصائص النَّفسيَّة
الشَّيخوخة مرحلة كأيَّة مرحلة أخرى، يمكن أن تكون سعيدة أو تعيسة. يتوقَّف الأمر على الحالة النَّفسيَّة والبيئة المحيطة بالمُسنّ. هذه بعض خصائص المسنّ النَّفسيَّة العامَّة:
أ. يجد مُتعَة كبيرة مع أمثاله من المسنِّين. ويستمتع بالحديث عن ماضيه وبطولاته وإنجازاته وأعماله.
ب. يجد سعادته عندما يُشارك في العمل وفي القرارات، فهذا يُشْعِره أنَّه مازال مَوْضع ثقة.
ج. عيد ميلاد المسنّ قد يبدو من الأمور البسيطة جدًا، لكنَّها بالنِّسبة له عميقة جداً. هذه اللمسة الرَّقيقة تُشْعِره بأنَّه لم يعُد نَسْيًا مَنْسِيًّا أو كَمًّا مُهْمَلاً.
د. يَجِد سعادة كبيرة في تقدير النَّاس له.
هـ. التعلُّق الشَّديد بالأحفاد، إذْ يرون فيهم الصُّورة الأصغر والأحدث لأولادهم. فيُحبُّون الخروج معهم ومُتابعتهم والاهتمام الزَّائد عن الحَدِّ بهم، وتحقيق كافَّة طلباتهم، والدِّفاع عنهم عندما يُخطئون.
(3) معرفة المتاعب والهموم
الحياة الإنسانية ليست دائماً مَباهج ومَسرَّات، لكنَّها سلسلة تحمل أيضاً هموماً ومَتاعب ومَشاكل. وعلى رأس قائمة الانفعالات الإنسانيَّة يأتي الخوف. والمسِنّ يخاف من الشَّيخوخة، لأنَّ حياته فيها تكون مُهَدَّدة بكثير من الأمراض والأخطار. لكن المُنْهَمِك في عَمَلٍ ما، ليس لدَيه وقْت للتَّفكير في تلك المشاكل المشبوهة. ومَن يَسْتَسْلم لها، يشيخ بسرعة، لأنَّه يفقد مُبرِّرات وجوده.
يثمرون في الشيبة
يبدو أن المرنِّم في مزمور 92 كان يفكِّر في نخلة تَمْرٍ وشجرة أرز. هما دائمتا الاخضِرار، حتى لو كانت المياه حولهما قليلة، ومهما كانت الأحوال المناخيَّة قاسية. فالنَّخلة تنمو في الصَّحراء، وشجرة الأرز تنمو على الجبال العالية وسط الثُّلوج. وكلتاهُما تنموان ببُطءٍ، وترتفعان باستقامة لأعلى، بينما تتعمَّق جذورهما إلى أسفل. وهما من الأشجار المعمِّرة جدًّا. فالنَّخلة تعيش أكثر من مئة سنة، والأرزة تعيش إلى ألف سنة. وهما مُثمرتان ومُفيدتان، فالنَّخلة تعطي التَّمر، وهو غذاء غنيّ جدًّا بالفوائد. هكذا المؤمن، يصنع أثمارًا جيِّدة. وكما يُستَخدم سعف النَّخيل في إنشاء المظال، هكذا المؤمن يكون كشجرة كبيرة، يستظلّ النَّاس بظلِّها، وتأتي الطّيور إليها لتبني بيوتها فيها. أمَّا خشب الأرز فهو من أغلى الأخشاب. فقد استُخدم في بناء الهيكل، ويُستَخدم في بناء قصور الملوك، وله رائحة جميلة.
هكذا يكون المؤمنون “يُثمرون في الشَّيبة، يكونون دِسامًا وخضْرًا”. يتحقَّق معهم الوعد: “تاج جمال شيبٌة توجد في طريق البرّ” (أمثال 16: 31). فكلَّما تقدم المؤمن في العمر، يكون دسِمًا وأخضرًا.
مع محبَّتي وصلاتي لأجل القرَّاء الأعزَّاء
القس أمير اسحق