
الكاتب
القس صموئيل عطا
سنودس النيل الإنجيلي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
لقد كانت فترة الحظر بسبب وباء كورونا بالرغم من كل سلبياتها وصعوباتها التي عانى منها جميع الناس في ذلك الوقت، إلا أنها كانت بالنسبة للبعض بمثابة فترة اختلاء سواء مع الأسرة وتعميق العلاقات بين أفرادها، أو مع النفس من أجل المراجعة والتخطيط، أو مع الله من أجل الاقتراب منه وتسليم الحياة له بمتاعبها، وصعوباتها، وآلامها خاصة في تلك الفترة العصيبة.
وفي الحقيقة بصفة عامة في الحياة، كم نحتاج جميعًا إلى أوقات الاختلاء، ليس فقط عند الوباء، بل يجب أن تكون هناك أوقات اختيارية نحددها ونخصصها للاختلاء، ونلاحظ أنه كثيرًا ما يُسرع البعض منّا إلى التواجد حيث الأضواء كالفراشات التي تسرع إلى الأنوار لتحط على مصادر الضوء، وليس في ذلك عيب، خاصة إذا كان لديهم مواهب أو قدرات أو إمكانيات معينة في مجالات مختلفة تحتاج أن تخرج للنور، وأن تلمع مواهبهم كالجواهر واللآليء التي تُظهرها وتُبيّن جمالها الأضواء، فتخرج إلى الآخرين ليروها، وبالتالي تكون سبب بركة، وإفادة للجميع، وهذه الحالة، أي حالة خروج القدرات والمواهب إلى النور أفضل بكثير طبعًا من طمرها ودفنها للأبد بعيدًا عن النور، وعن أعين الناس، لكن السؤال الأهم هنا هو: متى تخرج للنور؟ وبأي كيفية تخرج؟
فلكي تخرج للنور، لابد أن تكون قد أخذت الوقت الكافي في الإعداد، والتشكيل، والنمو، والنضوج، وهذا ما نستطيع أن نلاحظه في الأمثلة المتاحة أمامنا من الطبيعة من حولنا، وهذا الوقت المطلوب، بالإضافة إلى الجهد المبذول هو التحدي الكبير، حيث أنه يتطلب مزيدًا من الصبر، والمثابرة، والصمود، واللإصرار.
لذلك فهناك حاجة ضرورية للاختلاء بأنواعه، فهناك على سبيل المثال الاختلاء اللازم لأجل التعلّم والتمرّن وممارسة التدريبات الشاقة، وهذا نستطيع أن نلاحظه أيضًا إذا تأملنا في حياة كبار العلماء، أو الفنانين، أو الرياضيين، أو الشعراء، أو اللاهوتيين، أو غيرهم، فإننا نجد أنهم وصلوا لما وصلوا إليه ليس بين ليلةٍ وضُحاها، بل نتيجة تعب أيام، وشهور، وسنين في التعليم، والتدريب المستمر، حتى تخرج أعمالهم للنور، وهكذا كل إنجاز جديد يتطلب وقتًا، وجهدًا، لذلك فنحن دائمًا حتى نستطيع أن ننجز، وحتى تخرج أعمالنا إلى النور، يجب علينا أيضًا أن نتسابق إلى أوقات الاختلاء التي فيها نتعلّم، ونتمرّن، ونتدرب.
وكما أنه هناك حاجة للاختلاء من أجل التعلّم، والتمرّن، والتدريب، فهناك أيضًا حاجة هامة لتخصيص وقت للاختلاء بالنفس من أجل المراجعة والتقييم، حيث أن هذا الوقت يُعدّ من أهم الأوقات وأثمنها، حيث يساعد الشخص في تقييم حياته، وترتيب أولوياته، ومراجعة قراراته، وتحديد أهدافه، والتخطيط لإنجازها، وهكذا، وكم يعود هذا الأمر بالنفع والفائدة على كل شخص تعلّم أن يختلي بنفسه، ويصغي لذاته في هدوء، حيث أنه كما قال الكتاب: “بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم”.
هذا بالإضافة إلى الأوقات التي يتم فيها الاختلاء بالله، والتي لابد أن تأتي على رأس القائمة إذا رتبنا أولوياتنا بطريقة صحيحة، حيث يقول السيد: “أما أنتم فتعالوا منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلًا”، فهناك حاجة ضرورية للاختلاء بالله الذي يمنحنا القوة اللازمة، ويمدنا بالمعونة المناسبة، وأيضًا للشبع به والارتواء، حيث يقول القديس أغسطينوس مقولته الشهيرة: ” يالله لقد خلقتنا لذاتك، ونفوسنا لا تجد راحتها إلا فيك”، فعندما نختلي بالله، فإننا نجد الراحة الحقيقية، حيث نسكب نفوسنا لديه، فنضع بين يديه احتياجاتنا، وتطلعاتنا، ومشاكلنا، وأمراضنا، وهكذا نستودع كل شيء في حياتنا بين يدي ذلك الخالق الأمين الذي يرعانا ويهتم بنا، وكم لهذا الوقت من تأثير روحي ونفسي أيضًا على كل جوانب حياتنا، بالرغم من أننا لا نعطيه أولوية، فالكثير منّا يُمارس الخلوة بالله في جدية إيمانه بالمسيح، لكن مع مرور الوقت والسنوات، فإن هذا الأمر لا يعد في قائمة أولوياتنا بالرغم من أهميته، ولقد أعطانا السيد نفسه نموذجًا فريدًا في هذا الأمر “في الصبح باكرًا جدًا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك” (مر 1 : 35).
وهكذا إذا استطعنا أن نرتب أولوياتنا بطريقة صحيحة، وأن نولي أهمية للاختلاء بالله، وبالنفس، يالإضافة للتعلّم والتدريب، وأن نوازن بينهم بحيث لا يكون جانب منهم على حساب الآخر، فإننا نستطيع أن ننجز، وأن نرى أعمالنا ومواهبنا تخرج للنور مكتملة وناضجة ولامعة وهكذا يباركها الله، فنحقق النجاح المنشود.
- الإصلاح بين الماضي والحاضر
- التيار اللوثري والتيار الإصلاحي
- الصعود إلى الجبل والذهاب إلى العمل
- كيف يمارس المسيحيون الفصح في ضوء العهد الجديد؟
- الإعلان الإلهي بين الدراما القديمة والميديا الحديثة
- متى تتظاهر بالجنون؟
- وَدَاعًا خُدّام الربّ الأُمَنَاء
- ثقافة الاختزال وصراع الأجيال
- الاختلاء تحدياته وفوائده
- امرأة ممتلئة أعمالًا صالحة