
بقلم
مينا عبدالله أنس
العدل!
كثيرًا ما نتسأل لماذا يغيب العدل في مجتمعنا رغم تثقلنا بالتدين؛ رغم مُجاهرتنا بأهميته؟ ونجد أنّ البعض ينهض صارخًا مجاوبًا عن هذا التساؤل قائلًا: هذا الأمر يرجع إلى نقص عدد الأدلة عند صدور الحكم، التي تؤكد أحقية من ظلم في حكم ما صدره. يُنادي آخر بأن غياب العدل نتيجة ضعف صوته في المجتمع، نتيجة طبيعية لتكميم صوته ومنعه من الصراخ بطرق شتى؛ وهي طرق هروبيه بإلقاء اللوم على الآخر سواء ظروف أو أشخاص. البعض أيضًا يُرجع غياب العدل لفكرة فلسفية تُدعى مذهب المنفعة، قد نكون لا نتحدث عن هذه النظرية بصورة مباشرة؛ ولكن نعيشها في الواقع بصورة عملية. قد نرفضها عندما نسمعها ولكن تُطبق في الواقع بلا أنّ نشعر، ويرتبط هذا المذهب بجيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل، وهما فلاسفة واقتصاديون ومفكرون سياسيون. ملخص المذهب كالتالي: أعظم فائدة لأكبر عدد، فالفعل يُقاس صحيح وخطأ بُناءً على قدر السعادة التي يحققها. وأيًا كان غرض قائليها فإن وجودها في الواقع سيأخذ توجه آخر أكثر تطرفًا، فقد نصمت عن فساد ما لأنه سيسبب ضرر لعدد كبير من الأشخاص. وكثيرًا ما نظلم ولا نحقق العدل لأن هذا المطلب هو رغبة الأغلبية الحاكمة، وهنا يكون الحكم ليسَ على معيار أخلاقي صحيح ثابت بل على أساس الحفاظ على الوضع القائم مهما كانت درجة ضعفه وفساده، وهذا الأمر يعد أحد الأمور التي نبرر ونفسر بها سؤال: لماذا يغيب العدل؟
لكن الكتاب المقدس له رأيًا آخر في الإجابة على سؤال لماذا يغيب العدل؟ وهذه الإجابة ليست الوحيدة مما ورد في الكتاب، ولكن هناك الكثير من المبادئ الأخرى التي تقف معًا للإجابة عن هذا التساؤل. فيقول الكتاب المقدس في سفر عاموس: “وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم.” (عاموس ٥: ٢٤) وبالعودة للأصل من جهة بعض الكلمات نجد أنَّ: كلمة العدل باللغة العبرية מִשְׁפָּ֑ט تنطق mishpat وبالإنجليزية Justice، وكلمة البر بالعبرية צְדָקָ֖ה تنطق tsedakah وبالإنجليزية Righteousness. فتُترجم كلمة (مشبيت) العدل/الحق ومن الممكن أيضًا أنّ تُترجم بر (تصادقه)، وذُكرت كلمة العدل حوالي أربعة مرات في سفر عاموس المقتبس منه هذه الآية. وللتأكيد على جوهرية كلمة البر للعدل، وأهمية وجود البر مع العدل يقول البعض: من الصعب ترجمة كلمة البر (tzedakah) بسبب ظلالها العديدة في المعنى: العدل، الإحسان، الصلاح، النزاهة، الإنصاف، البراءة. فمفهوم البر مفهوم غني وواسع جدًا فيه الرحمة والإنصاف والنزاهة ولا يمكن أن يُحد في وصف واحد. فالعدالة المقصودة هنا تعني بالتأكيد أكثر من مجرد عدالة قانونية أو إدارية أو محاولة للحفاظ على الوضع القائم؛ وبالتأكيد ليست العدالة الخير الناتج على أساس الظلم حتى لو كان خير لأكثر عدد.
فمن التفسيرات الهامة في مفهوم العدل المرتبط بالبر؛ والتي تجاوب عن جانب معين من هذه التساؤل: إنّ العدل (الحق) ينبع من البر، كمثل تدفق المياه من البحر. وهذا البر كما نعلم في الله/مصدره الله وحده، والعدل يعني إصدار/تدفق حكم على شيء ما من منبع. بالتالي ينبغي أنّ يكون مَن يتخذ القرار صالحًا لكي يكون عادل، وهذا العدل ينبع من البر والبر ينبع من الله. هذا التعريف يجاوب على كثير من الأسئلة المُحيرة مثل: لماذا مَن ينادون بالعدل لا يعدلون؟ لماذا مَن يتكلمون عن الإله وعدله وبره هُم أول مَن يصنعون الظلم في المجتمع للضعفاء والبُسطاء؟ لماذا عدالة البشر تنظر للمعارف والماديات؟ والإجابة بكل بساطة التي نراها هنا: لأنه لا يوجد بر داخلي! الذي هو منبع صدور هذا الحكم الذي ندعوه في حالة صدقه بالعدل وفي حالة خطاه بالظلم، إذًا فعندما يغيب البر يتبعه مباشرتًا غياب العدالة بالرغم من الحديث الجهوري عنها. فيا عزيزي: لن يعدل سوى مَن كان يعيش في البر وملتصق به، ولا تنتظر عدالة من أحد عندما يغيب عنه البر لأن العدل منبعه البر. فقال جون كالفن: “العالم كله مسرح لعرض الخير الإلهي والحكمة والعدالة….، والكنيسة/المؤمنين هي الأوركسترا. فكلما اقتربنا من الكلمة التي أعطاها الله لنا، كلما كان التواصل أكثر حبًا وعدلًا.” فقد يفسد العدل نتيجة غياب البر في حياة مَن يحكمون ويقررون في المجتمع، فإذا أردنا العدالة في بيوتنا في أعمالنا في علاقتنا في خدمتنا؛ علينا أنّ نلتصق بالبر في وقتها سيتدفق من البر الحكم الحق العادل.
مينا عبدالله أنس “طالب بكلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة”
العدل! مقالي بجريدة الطريق والحق، العدد 198، مارس 2022م.