تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الأرشيف » يوسف البار الصامت المؤثر ومبادئ من حياته

يوسف البار الصامت المؤثر ومبادئ من حياته

wieliczka salt mine, underground, salt-4516315.jpg

الكاتب

 القس عيد صلاح

راعى الكنيسة الإنجيلية بعين شمس

سنودس النيل الإنجيلي 

الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر  

يوسف البار الصامت المؤثر

ومبادئ من حياته

(متى 1: 18-25، 2: 13-15، 2: 19-23)

من الشخصيات التي لعبت دورًا مهمًا في قصة ميلاد المسيح شخصية يوسف الذي يُلَقَّب بالنجار ولكن الكتاب لقبه بالبار، وهي التسمية التي نميل إليها: “فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا” مت 1: 19، أما تسمية النجار فقد جاءت من خلال النظرة ليسوع بالقول: “أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟” (مت 13: 55). وهو الصامت المؤثر، والمؤثر الصامت، لم يذكر له الكتاب المقدَّس أنَّه تكلَّم بكلمة واحدة من خلال كل النصّوص التي تمت الإشارة إليه، ولكن كانت لغة الأفعال والطاعة “طاعة الإيمان” كمت وردت في (رو 16: 26) أعلى من الكلام، وهذا عكس ما نراه اليوم أنَّ لغة الكلام عَلَت على لغة الأفعال مما أدى إلى فقر الشهادة.

عادة الشخصيات التي تكون حول النجوم لا يكون التركيز عليها كثيرًا، فلم يسلط عليه الضوء لأنه جاء بجانب شخصيات مهمة ومشهورة كمريم العذراء. ولكن نحاول أن نلقي الضوء على حياة يوسف البار ونتعلم بعض المبادئ المهمة من حياته لنا هنا والآن.

يوسف هو خطيب مريم وقت معرفته بأنها حبلى، ولم يعلم المصدر إلا من خلال الحلم، وحسب إنجيل متى يوسف هو أول شخصية يُعلن لها عن ميلاد المسيح، واتخذ متى مدخل الإعلان عن طريق الرجل (يوسف البار) وذلك عكس مدخل البشير لوقا فيبدأ الإعلان فيه عن طريق الجانب النسائيّ (مريم العذراء). ومن خلال المدخلين نرى أن لهما أهمية كبيرة فإعلان الخلاص كان للرجل وللمرأة معًا، وهما اللذان اشتركا من قبل في صورة آدم وحواء في السقوط، وهنا ومن خلال الرجل والمرأة نجد إعلان بداية جديدة في تاريخ الخلاص للجنس البشريّ.

يوسف أول من أدرك أن الطفل يسوع شخصية غير عادية، ووقف بجانب مريم، وهو لم يحاول أن يفعل الصواب فقط بل فعله بصورة صحيحة، وبأسلوب صحيح. ارتبط العهد القديم بشخصية يوسف كمنقذ والعهد الجديد أيضًا بشخصية يوسف كمنقذ، وكما كان يوسف العهد القديم صاحب الأحلام هكذا كان يسوف العهد الجديد صاحب الأحلام أيضًا، وفي سلسلة النسب نجد ما يٌسَمَّى بالقراءة الانعكاسية بين يوسفين حين يقول: “وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ.” (مت 1: 16). ونجد حضور مصر كمان مركزي آمن مع يوسف سفر التكوين ومع يوسف إنجيل متى.

ومن خلال الأحلام التي راءها يوسف نجد أن السماء بعد فترة انقطاع الوحي عادت في مصالحة وإعلان للأرض بمجيء المخلص. ونحن نعيد قراءة قصة يوسف البار الصامت المؤثر نجد مجموعة من المبادئ المهمة التي نجملها في الآتي:

  • يوسف والقدرة على الفهم،
  • يوسف البار وهموم الفكر،
  • يوسف والقدرة على تغيير الاتجاهات،
  • يوسف والقدرة على التجاوب الصحيح.

أولاً: يوسف والقدرة على الفهم

وضعت قصة الميلاد حسب رواية البشير متى يوسف في بداية الأمر في قصة حرجة وخطيرة رجل يجد خطيبته حبلى مت 1: 18 فما حدث وفق التصور الطبيعي قضية شرف من الدرجة الأولى، ولكن وسط دوامة هذا التفكير يظهر له الملاك في حلم قائلاً له: “يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا.” (مت 1: 20-23) وهنا نجد أنَّ يوسف قد فهم وضع مريم أنَّ الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، وفهم عمل الروح القدس، وفهم أن يسوع الآتي إلى الألم شخصية فريدة فهو إله وإنسان في الوقت نفسه. وبطريقة عبقرية يقارن البشير متى بين شخصيتين: شخصية يوسف وشخصية هيرودس بالرغم من كون يوسف شخصية فقيرة وليس صاحب مكانة لكنه أفضل من هيرودس في تعامله وتفهمه للطفل المولود.

إنَّ الإيمان ولدَّ ثقة كبيرة جدًا، فكانت العلاقة بين يوسف ومريم علاقة نموذجية، العلاقة المبنية على الثقة تقود للفهم، والفهم يقود للثقة، والعلاقة وثيقة بين الفهم والثقة، فحين نفهم بعضنا بعضًا يكون لدينا ثقة في بعضنا بعضًا. الفهم يساعدنا على استيعاب المواقف الصعبة والحرجة التي نمر بها، فالكتاب حسب رواية الرسالة إلى العبرانيين يعلمنا: “بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ” (عب 11: 3).

ثانيًا: يوسف البار وهموم الفكر

عرَّف الكتاب المقدّس يوسف بالرجل البار الصالح وهي ميزة هامة في فهم شخصية يوسف ورسم صورة لهذه الشخصية. لكن هذا البار في ظل ظروف معينة وتحت ضغط معين نجده يفكر ومن خلال التفكير يضع مجموعة من البدائل والحلول التي تحافظ عليه وعلى الآخر أيضًا. فيقول الوحي: “لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا. وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ.” (مت 1: 18-20). إن الإيمان والثقة لا يلغيان هموم وارتباك الفكر ولكنه يساعد في القدرة على تنظم عملية التفكير. والكتاب المقدس دائمًا وأبدًا يرسم لنا واقعية الحياة من خلال تصرفات البشر فيذكر حتى خطايا الأنبياء.

البدائل الثلاثة المطروحة التي كانت مطروحة في ذهن يوسف ريما تكون: الطلاق، التسليم للرجم، الزواج، والتفكير الذي صارع معه يوسف هو الخوف من أن يأخذ قرارًا يؤثر على الآخرين ولا سيما مريم، لذا قال له الملاك: “لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (مت 1: 20). يوسف البار كان مهمومًا فكريًا، ومتهمل واقعيًا، ومنضبط مشاعريًا، وهي حالة من التوازن الرائع الذي يجب أن نكون فيه حين نجتاز في ظروف صعبة.

ثالثًا: يوسف والقدرة على تغيير الاتجاهات

وسط هم الفكر وهو أصعب هموم الحياة، وعند الإعلان من الملاك، استطاع يوسف أن يغير اتجاهات التفكير التي كانت لديه فمن التفكير في حالة الترك إلى الوصول لحالة البقاء مع مريم، ويميل إلى البقاء معها والدفاع عنها. وما أروع هذا الوصف له: “فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ.” (مت 1: 24).  ولعل الصورة التي بقيت هي وجود يوسف ومريم معًا حتى ظهور المسيح في الهيكل في سن 12 سنة حسب رواية البشير (لوقا 2: 41-53)، وبعد ذلك لم يشر له الكتاب في أي أمر إلا الإشارة التي كانت تقال على المسيح. “أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ (مت 13: 55).

وفي حلم ثان، وفي ظل احتمالية خطر على الصبي من جراء فعل هيرودس بعد ترك المجوس له وذهباهم في طريق آخر: “وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ. فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلًا وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِل: مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني.” (مت 2: 13-15).

وفي حلم ثالث نجد طاعة مستمرة لصوت الرب له: “فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلًا: قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ. فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ.” (مت 2: 19-21).

في الحلم الرابع وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاَوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضًا عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ. وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالأَنْبِيَاءِ: إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا.” (مت 2: 22-23) في هذا الموقف أظهر تجاوبًا بناء على تقديره للموقف بناء على خبرة العنف السابقة، وطاعته للحلم انصرف إلى نواحي الجليل.

من بيت لحم إلى مصر، ومن مصر إلى أرض إسرائيل، وفي إسرائيل يتوجه إلى الجليل، تغيير في التوجه المكاني وأيضًا التوجه لطاعة صوت الله له. القدرة على تغيير الاتجاهات بناء على القناعات الروحية والفكرية أمر مهم في الحياة، لكيلا نظل سجناء أفكار نمطية معينة، أو عادة معينة، أو فكر معين.

نحتاج إلى أن نكون مرنين في تغيير الاتجاهات والانطباعات، نعيش في ظل أفكار تقول: “الانطباع الأول يدوم” ونعيش في سجن الانطباعات الأولى، ولكن مع يوسف البار يمكننا أن نتعلم القدرة على تغيير الاتجاهات لكي نتخلص من النمطيّة والقولبّة.

رابعًا: يوسف والقدرة على التجاوب

لُقِّب يوسف بالبار، والمتعقل، والضابط لنفسه، والمتجاوب أيضًا مع الله. في الحلم الأول عرف يوسف من هو المولود، وفي الحلم الثاني عرف يوسف كيف يحافظ على المولود، وفي الحلم الثالث عرف كيف يعود بالمولود إلى إسرائيل حيث موطن وانطلاقة رسالته ويختار الجليل خشية من تكرار خبرة العنف. وفي كل مرة كان يبدى تجاوبًا، ولعل الأفعال التي استخدمت لتعبر عن تجاوبه هي: فعل (مت 1: 24)، فقام (مت 2: 14، 21)، انصرف (مت 2: 21).

عرف يوسف قيمة ومكانة كل من مريم والطفل يسوع، وفهم عملية الخلاص في الميلاد: “فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ” (مت 1: 21). وفهم معية الله الصالحة في كل الظروف والأحوال: “هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا” (مت 1: 23). وهي نفس الرسالة التي أكد عليها الرب يسوع في خطابه الأخير: “وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ.” (مت 28: 20). وهو م أعلنه بولس بكل ثقة ويقين: “فَمَاذَا نَقُولُ لِهذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟” (رو 8: 31).

من خلال خلاص ومعية الله يكون التجاوب الحقيقي الفاعل، فقد فهم يوسف أن التجسد الله معنا، ونحن نفهم أن الله معنا الآن روحيًا. ومن خلال هذه المعية ومن خلال الخلاص يترجم هذا في حياتنا كما عاشه يوسف البار في قدرة على الفهم، وقدرة على تخطي هموم الفكر، وقدرة على تغيير الاتجاهات، وقدرة على التجاوب مع خلاص الله ومعيته.

#يوسف_البار_الصامت_المؤثر

خدمة مساء الأحد 1 يناير 2023م

الكنيسة الإنجيلية بعين شمس، القاهرة

القس عيد صلاح

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *