فهرس الموضوع

الكاتب
القس عيد صلاح
راعى الكنيسة الإنجيلية بعين شمس
سنودس النيل الإنجيلي
الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر
المسيح مثالنا الأعظم: مواقف ما قبل الصليب
(متى 16: 13-17: 1-7؛ 21: 1-7، 26: 26-46)
الصليب قضية مركزيّة في الفكر والإيمان المسيحيّ، ولا يمكن قراءة الإنجيل بعيدًا عن مركزية الصليب، ومن بداية قصة المسيح ظهرت مركزية الصليب بوضوح في حياته وتعاليمه ومواقفه، وأيضًا ظهرت المقاومة لهذا الفكر، فنجد المسيح يجرب من إبليس في بداية خدمته والمدونة في (متى 4: 1-12؛ مرقس 1: 12-13؛ لوقا 4: 1-13)، هذه التجربة من إبليس كان غرضها إثناء وإبعاد المسيح للوصول إلى الصليب من خلال إشباعه للجموع بالخبز في التجربة الأولى ، وابهاره للناس في التجربة الثانية، وسجوده لإبليس في التجربة الثالثة، ولكن المسيح أنتصر وغلب، غلب أدم الأول في الجنة وأنتصر أدم الأخير في البرية.
وما زال الشيطان يحاول عرقلة المسيح للوصول إلى الصليب عندما أعلن المسيح عن حتمية موته وقيامته: “مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ.” (مت 16: 21). حيث قال له بطرس: “فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلًا: حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!” (متى 16: 22). فكان رد المسيح الحاسم هو: “فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ.” (متى 16: 23).
المسيح انتصر أمام محاولات الشيطان التي كان في مجملها محاولة عرقلة مسيرة المسيح إلى الصليب، فكان يعلم من هو حين قال: “أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌ، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ.” (يو 8: 14). ويقول الوحي عنه أيضًا: “وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ،” (لو 9: 51). عندما سأله وأحد قائلاً: يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ.” (لوقا 9: 57-58). أعلن المسيح أنه ليس له أين يسند رأسه: “فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: قَدْ أُكْمِلَ. وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.” (يو 19: 30). بعد ما تم المسيح المهمة أسند رأسه على الصليب.
في مسيرة المسيح إلى لصليب نتناول ثلاثة مشاهد/مواقف قد تبدو هذه المواقف متناقضة ولكنها متكاملة وهي في الأساس تجيب عن سؤالين مهمين: من هو يسوع المسيح؟ وما هو عمله؟ المسيح عاش ثلاث خبرات مهمة من خلال قراءتا للإنجيل، وهي:
- مشهد التجلي (متى 17: 1-7)
- مشهد الألم (متى 26: 36-46)
- مشهد الانتصار (متى 21: 1-17)
المشهد الأول: التجلي (متى 17: 1-7)
جاء هذا المشهد الوارد في (متى 17: 1-7) بعد الإعلان الهام في قيصرية فيلبس، وهو المكان المليء بالأوثان والمعابد الوثنية، يعلن المسيح عمن هو في سؤالين مهمين: الأول، مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟ (متى 16: 13). فكانت الإجابة على السؤال الأول: فَقَالُوا: قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ” (متى 16: 14). هذا ما قاله الناس، المسيح بالنسبة لهم نبي من الأنبياء، ولكن المسيح لم يقف عند هذا السؤال وسألهم سؤالاً ثانيًا: قَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ (متى 16: 15). كانت الإجابة على لسان بطرس، وهي تعتبر بمثابة أول إقرار وقانون إيمان حول شخص المسيح، حين قال: “أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ” (متى 16: 16).
وأمام هذا الإعلان طوَّب المسيح بطرس وأعطاه وعدًّا بأنَّ الكنيسة التي تُبنى على هذا الإيمان وعلى هذا الإقرار لن تقوى عليها أبواب الجحيم: “طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. (متى 16: 17-18). فالكنيسة مبادرة وجسورة في دك حصون الشر والظلم والفساد.
بعد الإعلان في متى 16 عمن هو المسيح، جاءت حادثة التجلي لكي تبرهن على هذا الإعلان، يذكر البشير متى: “وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. (متى 7: 1-2). وظهر معه موسى وإيليا وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ.” (متى 7: 3). وصوت السماء المعلن عن المسيح: “هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا” (متى 7: 5). وهو الصوت الذي سُمِعَ في معمودية المسيح من قبل في متى 3: 17؛ ومرقس 1: 11؛ ولوقا 3: 22).
هذا تأكيد واضح ومستمر عن سمو وعظمة ومكانة المسيح، وهو عكس الأمر الذي عَبَّرَ عنه بطرس حين حاول أن يساوي في صناعة المظال بين موسى وإيليا والمسح: “فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: يَا رَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ.” (متى 17: 4). وينتهي المشهد حيث لم يرو إلا يسوع وحده، كما يقول البشير متى: “فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ. (متى 17: 8).
لماذا موسى وإيليا؟
عن ظهور موسى وإيليا في مشهد التجلي مع المسيح، يقترب القديس كيرلس الكبير في عظة له عن تجلي ربنا يسوع المسيح” (المنشورة في مجلة مرقس، أغسطس 1983م، في الصفحات من 8-11)، من هذا المشهد حول ظهور موسى وإيليا ويذكر مغزى ظهورهما مع المسيح في أربع نقاط، أحب أن أشارك بهما، وهي:
- إنَّ ناموس موسى ونبوات الأنبياء هي رموز لسر المسيح: الناموس برموزه ومثالاته كما بلوحيه المكتوبين؛ والأنبياء بنبواتهم القديمة وبأنواع وطرق كثيرة؛ كانت ترمز إلى ظهور الرب بشبهنا وإلى أنه من أجل خلاص البشر وحيتهم الأبدية سيقبل موت الصليب. لذلك موسى وإيليا بجواره وتكلما معه، ليتضح أن الناموس والأنبياء كانا في حضرة ربنا يسوع المسيح كحضرة العبد أمام سيد الناموس والأنبياء، وغذا بشهادتهما معًا يُستعلن الرب بواسطتهما. لأن، ما أعلنه الناموس يثبته الأنبياء. وموسى هو أقدس الآباء، وإيليا هو أقد الأنبياء.
- وإليكم تأمل آخر: ذلك أنه كان بين الشعب مَنْ يقول إنَّ المسيح هو إيليا، وبعضهم كان يقول أنَّه إرميا وآخرون واحد من الأنبياء (مت 16: 14). لذلك فقد استحضر الرب أمامهم أعظم الأنبياء ليروا أعظم الاختلاف بين العبد والسيد.
- ثم هذا تأمل آخر: فلأن اليهود كانوا يتهمون الرب بأنه ينقض الناموس، وأنه يجدف، وأنه ينسب لنفسه مجدًا ليس له أصلاً بل للآب: “هذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللهِ، لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ السَّبْتَ (يوحنا 9: 16). “أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلهًا” (يوحنا 10: 33). لذلك فقد أتى بهذين النبين أمامهم، وهما كانا يبزَّان غيرهما سواء في الناموس أو الأنبياء، لكي يُظهر أن كلا الاتهامين نابعان عن حقد، وأنه برئ منهما، وأن ما صنعه ليس كسرًا للناموس. فإنَّ موسى أعطاهم الناموس، واليهود يعلمون جيدًا أنه لا يمكن أن يتغاضى عن أي اعتداء على الناموس-كما تصوروه اعتداءً، كما أنَّه-أي موسى-لا يمكن أن يكرم من تعدَّى على الناموس الذي سلَّمَه لهم. ثم إن إيليا كان إنسانًا ممتلئًا غيرة على مجد الرب؛ فإن كان المسيح عدو الله وقال عن نفسه أنه مساوٍ للآب، فإنَّ كان ما قاله ليس حقًا وإن لم يكن يعمل ما هو حق، فما كان إيليا قد وقف إلى جانبه وأعطاه التوقير اللائق.
- ثم هناك سبب آخر: لكي يعرفوا أنَّه له سلطان على الحياة والموت؛ وله السيادة على الذين فوق (السماء) والذين في أسفل (الجحيم). لذلك فقد استحضر أمامهم مَنْ هو حي في السماء (وهو إيليا الذي صعد إلى السماء 2 مل 2: 11). ومن ذاق الموت (أي موسى الذي مات ودُفن). وحين ظهر هذان لم يبقيا صامتين بل تكلما معه عن مجده العتيد أن يكمله في أورشليم، أي ألامه، وصليبه ثم قيامته.
كيف نستفيد من قرأتنا لمشهد التجلي؟
بجانب كل الدروس العظيمة من خلال هذا المشهد الذي أعلن بوضوح عمن هو المسيح يمكننا أن نقترب من أمر عملي في حياتنا الروحية وهو إننا نندهش حين نعرف أن كلمة تغيروا الواردة في (رومية 12: 2) هي نفس الكلمة المستعملة في مشهد التجلي عن تغيرت هيئته (متى 17: 2). وكأن عمل ورسالة المسيح هي التغيير الحقيقي الذي يحدثه فينا بعمل الروح القدس.
الوجود في المسيح ومع المسيح يقودنا لحياة التغيير، بعد الحديث في رسالة رومية من 1-11 عن فساد البشرية بسبب الخطية وما فعله المسيح والبر الذي لنا فيه، يخاطب الرسول بولس الكنيسة في هذا التحدي: “وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ.” (رو 12: 2). “وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.” (2 كورنثوس 3: 18).
عندما نتغير ندرك تجلي النفس البشريّة في إننا نصير شركاء الطبيعة الإلهيّة يقول الرسول بطرس: “اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ.” (2 بطرس 1: 4). وأصبحنا شركاء الروح القدس، في خاتمة رسالة كورنثوس الثانية يقول الرسول بولس: “نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ.” (2 كورنثوس 13: 14).
هذه القيمة والمكانة التي تعبر عن وضعنا ومكانتنا في شخص المسيح: “وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ،” (أفسس 2: 6). وهي حالة ارتقاء الإنسان الخاطئ الساقط بفعل الخطيئة إلى تغيير الذهن من خلال عمل المسيح وبره، فيتجدَّد القلب وتتقوى الإرادة ونختبر ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة.
المشهد الثاني: الألم (متى 26: 36-46)
في المشهد الأول رأينا المسيح متجليًا في عظمة لاهوتيَّة، في المشهد الثاني نجد يسوع متألمًا مصارعًا “فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ” (متى 26: 33)، مصليًا ثلاث مرات أن يرفع الله عنه هذه الكأس: “ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلًا وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ.” (متى 26: 39)، فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلًا: يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ.” (متى 26: 42). “فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلًا ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ.” (متى 26: 44).
ولعل الوصف الدقيق الذي يعبر عن حالة المسيح كإنسان في البستان في ثلاث إشارات سجلها الوحي في الأناجيل: الأولى يحزن ويكتئب: “ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ.” (متى 26: 37). الثانية، يدهس ويكتئب: “ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ.” (مرقس 14: 33). الثالثة، في جهاد: “وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ.” (لوقا 22: 44).
نفس الثلاث أشخاص معه (بطرس ويعقوب ويوحنا)، كشف لهم عن لاهوته، وكشف لهم عن صراعه وآلامه، وهم رأوا أنَّ الذي كان متجليًا في لاهوته هو يصارع في البستان كإنسان يدرك حجم كأس الألم المزمع عليه، والذي من خلاله كانت الصرخة على الصليب: “وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا: إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟ أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ (متى 27: 46).
لماذا وضح الإنجيل أن عمل المسيح كان سلبيًا؟ عمل التلاميذ في بستان جثسيماني عمل سلبي، حيث ناموا وتركوا المسيح وحده يصلي ويصارع، وأعتقد من أهداف هذا الحدث غير المعلنة الذي يبين عجز التلاميذ هو التذكير بأن العمل كله عمله المسيح والمجد كله هو لشخص المسيح.
المسيح يعلمنا أنَّ الألم خبرة مؤلمة وعميقة، وهي خبرة حياتيّة إنسانيّة من خلالها ينضج الإنسان ويسلم لمشية الله الصالحة، “أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ، وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي.” (مزمور 40: 8). مشيئة الله وإرادته كانت الصليب والألم، وكانت صلاة المسيح: “فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ” (متى 26: 42).
في جنة عدن عصى أدم الأول وفي بستان جثسيماني يقبل آدم الأخير بطاعة وتسليم كامل لمشيئة الله، ويعلمنا أنه مع الألم مجد و “إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ.” (رومية 8: 17). والأم يعلمنا الصبر كل يوم ويعلمنا أيضًا الرجاء حسب قول الرسول بولس: “فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا.” (رومية 8: 18). ويعلمنا الأم الاتكال على الله والاعتماد عليه فهو وحده الذي يعين، يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ.” (عبرانيين 2: 18)، ويعلمنا أيضًأ الإحساس بالآخرين، ويؤكد الرسول بولس على شركة الألم، بالقول: “فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ.” (1 كورنثوس 12: 26).
خبرة التجلي تسير جنبًا مع جنب مع خبرة الألم والصراع في البستان، وتقود إلى خبرة ثالثة هي خبرة النصرة والانتصار مع المسيح وفي المسيح.
المشهد الثالث: الانتصار (متى 21: 1-17)
دخل المسيح إلى أورشليم في مشهد انتصاري مهيب، مشهد ملوكي كما تنبأ زكريا من قبل: “اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ.” (زك 9: 9). وسجَّل البشير متى عبارة في غاية الأهمية أنَّ المدينة قد ارتجت “وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: مَنْ هذَا؟ (متى 21: 10). وهو نفس المشهد في الميلاد حيث بحث المجوس عن الملك الذي ولد “فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ.” (متى 2: 3). عندما أعلن المسيح كملك في الميلاد اضطربت أورشليم والسلطة السياسية، وعندما دخل المسيح أورشليم كملك أرتجت أيضًا المدينة والسلطة الدينيّة والسياسيّة.
كان دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم وركوبه على حمار وليس حصان إعلانًا بأنه ملك يطلب السلام، ودخل الهيكل واعادة إلى ما كان عليه وهو الصلاة بدلاً من مغارة اللصوص: “وَقَالَ لَهُمْ: مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!” (متى 21: 13). وهو أيضًا أعادة نفوسنا كهيكل لله، يقول الرسول بولس: “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ اللهِ فَسَيُفْسِدُهُ اللهُ، لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ.” (1 كورنثوس 3: 16-17)
الملك الغلب المنتصر معه وفيه نجد النصرة الحقيقية، قال المسيح: “قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ.” (يوحنا 16: 33). وتكون أنشودتنا “وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.” (2 كورنثوس 2: 14). ويعطينا أن نغلب بالإيمان الواثق فيه وفي محبته: “لأَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ يَغْلِبُ الْعَالَمَ. وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا.” (1 يوحنا 5: 4). إن كنا نضعف فنحن بشر، لكن الله يعطي لنا النصرة والغلبة في المسيح يسوع.
هكذا كنا في مسيرة المسيح ومواقفه قبل الصليب، نتقابل مع المسيح المتجلي، والمتألم، والمنتصر، فنتغير، وندرك أنه في وسط ألمنا المسيح معنا وتألم من قبلنا، ويعطي لنا النصرة دائمًا.
مع المسيح نتغير،
مع المسيح نتألم،
مع المسيح ننتصر.
عظة مساء الأحد 2 أبريل 2023م
القس عيد صلاح
الكنيسة الإنجيلية بعين شمس، القاهرة.
- المسيح مثالنا الأعظم: مواقف ما قبل الصليب
- يوحنا المعمدان: وقف مع الحق ضد القوة
- عندما جاء المسيح إلى أرضنا: ماذا فعل؟
- فرحين فى الرجاء: كيف؟
- فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ: لماذا؟
- هوية يسوع في قصة الميلاد
- يوسف البار الصامت المؤثر ومبادئ من حياته
- قصة الميلاد تعلن: كفاية شخص المسيح
- علامات تميز الكنيسة 3-3: الشهادة
- علامات تميز الكنيسة 2-3: الخدمة